التنمية بالحماية الشعبية في مواجهة كورونا (الجزء الرابع)، عادل سمارة

2- إعادة تركيب القطاعات الإنتاجية شعبياً

كان يجب ان يتلو إعادة الانسحاب إلى الداخل قيام راس المال المحلي وقيادة م.ت.ف بالمبادرة مشروع استهلاكي (تشجيع الاستهلاك من الانتاج المحلي) وتشغيلي (اقامة مشاريع تشغيل للعمالة الكثيفة) كبديل للسوق ومواقع العمل الإسرائيلية. في هذه اللحظة، تضمن الطبقات الشعبية بنفسها لراس المال المحلي فرصة الإنتاج لسوق مضمونة تطوعاً لشراء هذه المنتجات بعيداً عن قدرة الإحتلال على الحيلولة دون ذلك، وبقطع الطريق على الكمبرادور. أنها عملية إعادة بناء وتركيب الحاجات الأساسية للناس ضمن حالة من حرية الإختيار النسبي في اتخاذ القرار.

لقد بدأت الطبقات الشعبية بالاستثمار في التعاونيات الأولية (الإنتاج البسيط وإنتاج الخدمات) ومنها استغلال الأرض، أو العودة إلى الأرض، واستغلال حديقة المنزل، والتعاونيات المنزلية للنساء، وذلك باتجاه مقاطعة أكثر ما يمكن من منتجات الإحتلال. كما قام عمال ممن اكتسبوا خبرات تقنية بالبدء بمشاريع تصنيع زراعي مستفيدين من خبرتهم في العمل في شركات الإحتلال. وصمم البعض ماكينات بسيطة ووسيطة لاستخدامها في إنتاج الأساسيات.

كانت العقبة الأساسية التي واجهت المستوى الأول من التنمية بالحماية الشعبية هي السيولة المالية، رغم أن كلفة خلق الوظيفة في هذه القطاعات ليست عالية مقارنة بخلق وظائف في القطاع الصناعي.  هنا كان لا بد لقيادة م.ت.ف ولرأس المال المحلي أن يبادرا بتنفيذ هذا الخطوة من التنمية بالحماية الشعبية، وذلك أن توفر القيادة قروضا سهلة للقطاعين الزراعي والصناعي او أن يقوم راس المال المحلي بالاستثمار في بيئة هي مهيأة لاستهلاك منتجاته البديلة لمنتجات الإحتلال. ولكن، كما أوضحنا أعلاه، فإن هذه القيادة وتلك البرجوازية كانتا مشغولتين في تهيئة النفس لحصاد مكاسب سياسية من وراء الإنتفاضة عبر المساومة مع الإحتلال.

لا شك أن الطلب من راس المال والقيادة كرأسمالية بيروقراطية أن تقدم قروضا استثمارية هو مرونة من جانب الحماية الشعبية ومع ذلك لم تتم تلبيته!

هنا في هذه الحلقة من العمل أُعيقت التنمية بالحماية الشعبية. ففي حين قاطعت الطبقات الشعبية منتجات الإحتلال، وأماكن عمله، وفي حين كان يجب على الإستثمار المحلي أن يتلو ذلك، إلا أن ذلك لم يحصل. وفي الحقيقة ان هذا الفشل كان متوقعاً بناء على المصالح الطبقية والإيديولوجية لقيادة المنظمة وللبرجوازية الفلسطينية. لذا، لم يكن تقصير راس المال والقيادة السياسية خللاً في نموذج التنمية بالحماية الشعبية، بل هي تحد كشف عن طبيعة هذه الطبقة وتلك القيادة. ولعل ما حمى قيادة المنظمة من دفع ثمن هذا التقصير هو كونها خارج الأرض المحتلة حتى ذلك الحين. ولكن، حينما دخلت هذه القيادة إلى الأراضي المحتلة بموجب اتفاق أوسلو 1993، أتت لتأتي على منجزات الإنتفاضة حيث بدأت بوقف المقاطعة بحجة أن ما جاء بها إلى الأرض المحتلة كان “سلاماً”. هذا مع العلم أنه لو كان سلاماً تبقى التنمية بالحماية الشعبية حقاً لا يناقض علاقات السلام.

كانت مختلف قرارات الإقتصاد قبل الإنتفاضة بيد الإحتلال، ونظامه العسكري تحديداً، وهو الأمر الذي تماهت معه الراسمالية المحلية وتصرفت بموجب تعليماته. لكن مشروع التنمية بالحماية الشعبية قلب المعادلة، حيث وضع المبادرة بيد الطبقات الشعبية التي جعلت من إعادة تركيب البنية الإنتاجية حاجة ملحة وذلك لسببين:

الأول: لتلبية ما أمكن من الحاجات الأساسية للناس ولتمتين مقاطعة منتجات الإحتلال. والثاني: لتوفير أكبر عدد ممكن من شواغر العمل على الأقل لأولئك الذين غادروا العمل في منشآت الإحتلال  الإقتصادية.

هذا لا يعني أنه كانت لدى الطبقات الشعبية خطة مجهزة سلفاً لإنجاز هذه الأهداف. ولكن المبادرة الذاتية والحرة للطبقات الشعبية كان لا بد أن تتطور لإنجاز هذه الأهداف بما أن ذلك هو التطور الطبيعي لها. من المهم الإشارة هنا إلى أن التشغيل في نطاق الحماية الشعبية لم يقم على الأساس الراسمالي، بل التعاوني. فجزء منه قام على التشغيل الذاتي، وبالطبع ظل الكثيرون ضمن التشغيل الراسمالي. والمقصود هنا، أن أكثر من نمط إنتاج قد تعايشا معا.

ومرة أخرى، فإن الإستثمارات المالية للطبقات الشعبية هي محدودة، وبالتالي ليس بوسعها خلق فرص عمل على النطاق الوطني وفي فترة زمنية محدودة ومتحركة جداً، بحيث ترد هذه الإستثمارات على الحاجات الملحة لتشغيل العاطلين عن العمل اصلاً والذين طرأوا على سوق العمل إثر الإحتجاب عن العمل في مواقع التشغيل الصهيونية. فقد انحصرت استثمارات الطبقات الشعبية في خلق فرص عمل محدودة في الزراعة والإنتاج المنزلي وإنتاج بعض ما كان ينتجه العمال الفلسطينيون داخل مواقع الإحتلال ولا سيما منتجات التصنيع الزراعي.

ولعل ما قيَّد إلى درجة كبيرة قدرة الطبقات الشعبية على الإستثمار هو ما قامت به سلطات الإحتلال كخطوة أولى لضرب المستوى التنموي للإنتفاضة وذلك:

أ- تخفيض سعر صرف الدينار الأردني عام 1988 مقابل الشيكل الإسرائيلي. فبعد أن كان سعر صرفه دينار مقابل 6 شيكل، هبط إلى دينار مقابل 3,5 شيكل، وهذا امتص مدخرات وموجودات الطبقات الشعبية التي ظلت تدخر بالدينار الأردني استمرارً لفترة ما قبل 1967، وثقة بالدينار خلال حقبة الطفرتين النفطيتين 1973 و 1982.

ب- كما شرعت سلطات الإحتلال بفرض ضرائب عالية على التعاونيات واعتقال ناشطيها.

وفي أعقاب السنوات الثلاث الأول للإنتفاضة، اي 1991 شرعت سلطات الإحتلال بتشديد قبضتها على الانتفاضة الشعبية وخاصة المستوى الإقتصادي وقد تواكب ذلك مع تدمير العراق وبدء مفاوضات مدريد ودخول مرحلة التراخي الوطني والتنموي. بعبارة أخرى شرع الإحتلال بحرب اقتصادية ضد الإنتفاضة. أي بدأت عملية تصفية نافذتي الديمقراطية النسبية للمشروع التنموي للإنتفاضة وذلك عبر تشديد القمع الإحتلالي، وبدء دخول قيادة المنظمة كحكومة مقبلة للأراضي المحتلة.

مرة أخرى، كان من الملح وجود مناخ استثماري لاستيعاب قرابة 200 ألف عاطل عن العمل.  ولكن قيادة المنظمة كانت مشغولة بأمر آخر، هو الوصول إلى سلطة سياسية ما في الأرض المحتلة. والأهم، أنها كانت مجبولة بالإيمان بالمشروع الخاص والسوق الحرة والانفتاح الإقتصادي.

بعد ثلاث سنوات أعقبته، فإن ما اتت به قيادة المنظمة إلى الضفة الغربية وغزة،  هو خلق قطاع حكومي، لا قطاع دولة، قطاع للقمة القائدة في حركة فتح التي تسلمت سلطة الحكم الذاتي من الإحتلال. قطاع احتكر الدخل المتأتي من الشركات الكبيرة للبترول والسجائر والإسمنت…الخ، وهو دخل لم يُحول إلى موازنة السلطة، بل روكم في ميزانية خاصة بالرئاسة. كما أن مقاديره ليست معروفة ويجري الصرف منه على تجنيد الولاء السياسي للحزب الحاكم. وهنا تجدر الإشارة إلى أن أنظمة الحكم في المركز الراسمالي الغربي ظلت تزعم بأن سلطة الحكم الذاتي شرعية فقط لأنها منتخبة، وبكل الخبث الممكن لم تناقش مع هذه السلطة ذلك الفساد! كما لم تعترض قطاعات كثيرة من المثقفين على هذا وبقيت تتغنى بشرعية السلطة. وهذا عزز اقتناعنا بأن اضعف خاصرتين في البنية الكفاحية الفلسطينية هما، النخبة السياسية والنخبة المثقفة.

وبدورها، طالما زعمت منظمات الأنجزة أنها تقوم بمهمة تنموية في الأراضي المحتلة، ولكن ما ثبت من شغلها هو تجنيد قطاعات من كوادر اليسار وتحويلهم عن عملهم السياسي إلى خدمة هذه المنظمات بغض النظر عن أجندتها. فهذه المنظمات لم تمول تعاونيات لإصلاح الأراضي على سبيل المثال علماً بأن الصراع مع الكيان الصهيوني هو اساساً على الأرض والتمكين فيها، اي إتبعت هذه المنظمات تعليمات الكيان الصهيوني فيما يخص الأرض. وبقي ما نشطت فيه في القطاع الزراعي ضمن التشبيك بين الملكيات الخاصة وخاصة في التسويق. أما عملها الرئيسي فظل في نطاق “حقوق الإنسان، والديمقراطية والمجتمع المدني، والمرأة –برؤية نسوية راسمالية غربية ولبرالية بالطبع…”.  وفيما كانت م.ت.ف قد زعمت قبل اوسلو أنها ستقيم دولة فلسطينية على غرار تايوان أو سنغافورة. إن هذا المشروع رجعي في جوهره ومظهره، باعتبار هذين النموذجين “فترينات” عرض لمفاتن راس المال في مواجهة الشيوعية في الصين، وفيهما كغيرهما من دول “التنين” الأربع استغلال هائل للعمال وغياب للديمقراطية وغياب للقطاع العام الإنتاجي. والأهم انه حتى هذا النموذج تضن به دول المركز على الفلسطينيين لأنها تعتبر الكيان الصهيوني هو وحده المطلوب للمنطقة، أي “لا تايوان هنا غير إسرائيل”.

وبدل أن تستثمر البرجوازية المحلية في تصنيع يخلف منتجات الإحتلال، لجأت إلى الطريق السهل فردياً والأخطر وطنياً حيث واصلت استيراد منتجات الإحتلال، ولم تقم إلا بوضع دمغة على صناديق البضائع تحمل اسماء معامل محلية تحولت إلى مخازن لهذه المنتجات المستوردة. وفي أرقى الأحوال اقام هؤلاء شركات تعاقد من الباطن جديدة. هذا عوضاً عن الإستثمار الإنتاجي البديل أو إعادة تشكيل ما أمكن من البنية الإنتاجية.

كان هذا النهج من الكمبرادور وقيادة م.ت.ف هو إرغام المواطن على استهلاك منتجات الإحتلال لعدم وجود غيرها، ومما ساعد على ذلك، أن نهج المقاطعة الشعبي لم يكن قد تحول آنذاك إلى نهج سياسي جماعي وصل إلى درجة بلورة حركة سياسية شعبية لتقوده للضغط على البرجوازية، اي أن قوى المقاومة كانت ما تزال تتلمس طريقها لاستثمار الإنتفاضة في مكسب سياسي ولم يكن همها الوصول بالانتفاضة إلى انتفاضة اقتصادية تنموية اجتماعية ثقافية. وهذا ما يعزز اعتقادنا بأن ما هو على الأرض هو اقتصاد الطبقة وليس الشعب.

كان التطور الطبيعي للفائض المتحصل من مقاطعة منتجات الإحتلال هو أن يجد هذا الفائض طريقه إلى الخارج بدل أن يتم استثماره محلياً. وحتى في حقبة السلطة الفلسطينية بعد أوسلو، ورغم افتتاح العديد من البنوك المحلية والعربية والأجنبية، إلا أن الفوائض المودعة فيها كانت تُحول إلى الخارج، ولا تقدم المستوى المطلوب من التسهيلات للإستثمار المحلي، أما موقف السلطة من ذلك فبقي محكوماً بالتعبُّد في محراب  ” سياسة الباب المفتوح” التي نصح بها البنك والصندوق الدوليان.

نصل هنا للتأكيد مجدداً على حدوث انقطاع أو إنكسار عملية التحول التي بداتها الطبقات الشعبية بنموذج الحماية الشعبية حيث لم تتمكن من إرغام راس المال على التقاطع مع نموذجها، وهو الأمر الذي كما اشرنا كان يتطلب قوة سياسية اجتماعية شعبية منظمة، وهذا ما كان غائباً. اي لم تصل العملية إلى بلورة الحزب المطلوب ولا اقتصاد الحزب ايضاً. وبقي اقتصاد الطبقات الشعبية في المستوى الأولي الذي شكل خامة مناسبة لدور برجوازي وطني، وهو الذي ظل غائباً.

فالحركة السياسية هي الأقدر على التقاط روح الإنتفاضة الشعبية والتوجه بها إلى أطوار أعلى منها. على سبيل المثال توجيه الإستهلاك الشعبي لمقاطعة المنتجات الصهيونية المغلفة بدمغات محلية والمنتجات المحلية رديئة النوعية.

 تتضمن إعادة تركيب البنية الإنتاجية للإقتصاد المحددات الأساسية لخطى التنمية الموجهة إلى الداخل. والهدف هنا هو تشكيل آلية قادرة على إنجاز تنمية متوازنة نسبياً وقائمة على تلبية حاجات الأكثرية الشعبية. مثلاً:

  • إعطاء الأولوية للصناعات التي تستخدم مواد خاماً محلية وتنتج الحاجات الأساسية. مثلاً، تعليب زيت الزيتون، وتحويل مخلفات الزيتون للتدفئة، وتصنيع الحليب ومشتقاته…الخ.
  • تصنيع الحاجات الأساسية حتى لو لم تتوفر مواد خام محلية.
  • ت‌- استيعاب العدد الأكبر من الناس في العملية التنموية وذلك عبر البدء بتعاونيات إنتاجية. وهذا يتضمن إصلاح الأراضي باعتبار الأرض هي محور النضال الوطني والتنمية معاً. هذا مع العلم أن الإستعداد للمقاومة حين يكون المرء معتمدا على الأرض هو أعلى من ملكيتها دون استخدامها، ناهيك عن أن استغلال الأرض يخلق منتجاً مستقلاً.

والمقصود بهذه التعاونيات أن تكون ناشئة من القاعدة لا مفروضة من الأعلى عبر منظمات الأنجزة والتمويل الأجنبي التي انتهت بالعديد من السرقات. ويكون العاملون في هذه التعاونيات مساهمين كذلك في تمويلها، سواء بالمال أو بايام عمل تطوعية، ويكونون مستهلكين منها طالما هي تنتج بعض حاجاتهم. كما يكون الرجال والنساء متساوين فيها، اي مؤسسين، عاملين، مدراء، ومستهلكين. اي لا تكون لها تشكيلة بيروقراطية مديرية تكلف الكثير ولا تنتج، بل يكون المستوى الإداري، وكل المستويات دورية.

     ولمواصلة هذا النموذج بعد أوسلو،  اي في ظل سلطة الحكم الذاتي، كان لا بد لهذه السلطة أن تدعم التعاونيات الإنتاجية، وإقامة صناعات محلية مشتركة ومساهمة وصولا إلى تشكيل قطاع عام شعبي وحلقة وسطى بين الملكية الخاصة والعامة.

وبخصوص المشاريع التعاونية الصغيرة الخاصة بالمنتجين المستقلين يجب تجنيبها منافسة المشاريع الراسمالية المحلية والاجنبية. لكن هذه الحماية ليست ممكنة في ظل سلطة رأسملية انفتاحية الهوى. فعلى هذه التعاونيات البحث عن اماكن تتحرك فيها بعيداً عن الشركات الكبيرة، ولعل الحماية الفعلية لهذه التعاونيات هو بنائها على اسس تعاونية بمعنى المساهمة والعمل والاستهلاك من أعضائها. كل هذا لم يحصل لأن السلطة ليست بهذا التوجه من جهة، ولأن الحماية الشعبية لم تكن بالقوة التي تسحب الإقتصاد الرسمي الرأسمالي باتجاهها.

     في الحقيقة، فإن الإنتفاضة أكدت الإمكانية الأوسع للتنمية بالحماية الشعبية في الزراعة، والتصنيع البسيط، أكثر من الصناعة، لأن الصناعة تتطلب راسمالاً وتتقاطع مع المستوردين، اي مع شريحتين قويتين من الراسمالية. ومع ذلك فالقطاع الزراعي عالي الأهمية حيث يستوعب قرابة 40 بالمئة ممن هم في عمر العمل كما أن فرص تدخل سياسات العدو الإقتصادية اقل نسبياً.

 تجدر الإشارة إلى أن الإنتفاضة الأولى حققت توسعاً في العمل الزراعي تعاونياً وكمنتجين مستقلين، وبالتالي تمت استعادة القرية كوحدة الإنتاج ألأساسية، ولكن هذه المرة بمستوى من الوعي السياسي والمبادرة الشعبية. ولم يكن لهذه أن تنكسر إلا لغياب سلطة تنموية الإتجاه وبعيداً عن نمط العلاقات ما قبل الراسمالية. ولكن هذا لا يقلل من أن الفلاحين قد مارسوا النضال الفعلي ضد الإحتلال، عبر التمسك بالأرض تمسك الإستغلال وليس الملكية الخاصة فحسب.

     كانت التعاونيات الزراعية الأكثر حظاً في النجاح لتوفر عنصر الأرض دون كلفة، ولوجود الخبرات الطبيعية الموروثة لدى الفلاحين، وهذا عنصر مركزي في التنمية أن يعمل في المجال من يؤمن ويتخصص به. كما لا تحتاج إلى ترخيص من سلطات الإحتلال شأن الشركات الصناعية.

هذا بعكس التعاونيات التي انشأتها حركات سياسية وعينت لها مدراء لا يؤمنون بالتعاونيات وإنما كانوا يبحثون عن وظيفة، وبمجرد توفرفرص العمل في مكاتب الأنجزة، غادروا التعاونيات التي كانوا قد أفشلوها. لقد فشلت تعاونيات القوى اليسارية لأن من عينوا فيها كمدراء لم يكونوا أنفسهم اشتراكيين، بل كانوا راسماليي التوجه، ويجادلون علانية  ضد الإشتراكية حتى داخل المدرسة التعاونية.

من المهم الإشارة هنا إلى أن مصادر تمويل منظمات الأنجزة، لم تقم قط باعتماد معايير متابعة وقياس للتأكد من أن المشاريع الخاصة الصغيرة والتعاونيات قد اُقيمت اعتماداً على دراسات جدوى أولية أُجريت لها. ويكشف الإفتقار إلى المتابعة أن هدف المصادر المالية لم تتطور قط، بل لتخدم أجندة سياسية مخفية[1] .

قادت هذه التشويهات البنيوية والإيديولوجية للتعاونيات إضافة إلى فقر التثقيف الإشتراكي للقائمين عليها، قادت إلى الفشل المؤكد في التعاطي مع والاستفادة من توفر الجاهزية والقابلية لدى المنتجين الصغار الذين هم مزارعون حقيقيون، وجاهزون للتعاون مع التنمية بالحماية الشعبية. فقد فشلت في البدء،  أو على الأقل تضمين هؤلاء المزارعين الصغار والذين هم من الطبقات الأكثر فقراً والمنتمين عميقاً للأرض، والذين ينتجون بشكل مستقل وجاهزون للتعاون، على الأقل لأن التعاون ضروري في نمط عملهم.

     إن هذا النمط من التعاونيات الزراعية (منفصلة عن النمط المشوه لقياداتها اللبرالية) هو نموذج يمكن أن يطبق بسهولة في بلدان متعددة من المحيط بما فيها البلدان العربية. إن تعاونيات على قطع صغيرة من الأراضي وعبر مساهمات ومبادرات الطبقات الشعبية تنتج الحاجات الأساسية هو في الحقيقة خطوة ثورية تهدف إلى:

  • تجنب الإستغلال الرأسمالي
  • مقاطعة المنتجات الإسرائيلية
  • إنجاز الإكتفاء الذاتي
  • إنتاج الغذاء الطبيعي والحاجات الأساسية
  • تجنب الإستغلال الطفيلي من التجار
  • الانفصال عن اقتصاد الطبقة الراسمالية في البلد نفسه.
  • والعمل على ضمان الأمن الغذائي الوطني.

3- نمط استهلاك واعٍ

     الإستهلاك ظاهرة عالمية، تم التركيز عليها وتشجيعها في عصر راس المال ولا سيما بالترافق مع الإنتاج الموسع، لدرجة أصبحت ثقافة بحد ذاتها، ثقافة مجتمع رأس المال الإستهلاكية. وعليه، فإن نمط الإستهلاك الواعي أو مقاطعة منتجات المركز والكيان الصهيوني هي سيرورة تحدٍ لثقافة الإستهلاك الراسمالية من خلال مقاومة واعية لنمط الاستهلاك.

لذا، فإلإستهلاكية ليست ظاهرة جديدة جُلبت إلى المناطق المحتلة خلال الإحتلال الصهيوني. كان نفس هذا الميل موجودا خلال الحكم الأردني للضفة الغربية والمصري لقطاع غزة 1948-67. لكن فترة الإحتلال كثّفت هذا الميل حيث جرى تطعيم نمط الإستهلاك المحلي المحدود بنمط الإستهلاك الإسرائيلي المترسمل والمتغربن جداً، والذي يقلد النمط الغربي وخاصة الأميركي بتفاخر. . .

وعلى مدار سنوات الإحتلال المباشر، قام الكيان الصهيوني بإغراق اسواق المناطق المحتلة بأنواع متعددة من المنتجات. ولكن، باستثناء السنوات الثلاث أو الأربع الأولى للإنتفاضة، فإن مقاطعة المنتجات المستوردة من الكيان كان لا شيىء. وهذا مؤشر على نقص في الثورة الثقافية التي لم تلتزم بها م.ت.ف لتثقيف المواطنين. وهذا مرتبط بنمط تفكير القيادة اليمينية فيها والفشل في الإعتماد على التربية والوعي لأنها معتمدة على البعد العسكري وحده.  وهذا ما جعل من أعضاء المنظمات الفلسطينية غير منتمين، بما هم مجرد عساكر، للأشطة السياسية والفكرية. ولا يخفى أن هذا الإنحدار محبَّب لدى قيادة السلطة الفلسطينية لأنه يسمح لها بالإحتفاظ بمواقعها الطبقية. في هذا السياق، يبرز دور المثقفين العضويين إلى الواجهة. وهذا يوضح مرة تلو أخرى، كم هو خطير إعتماد المثقفين الفلسطينيين على القيادة السياسية. لقد بدأت شريحة الرأسمالية الكمبرادورية مبكراً (في أعقاب بدء الإحتلال 1967) باستيراد وتسويق المنتجات الصهيونية والراسمالية الغربية. في وضع كهذا، فإن الإيديولوجيا السائدة ترتكز على تربية مفادها ربط الإستهلاكية بالتعبية.

     وهكذا، فإن العادات الإستهلاكية هي نفسها بشكل عام سواء في شكلها أو نتائجها. إن الإستهلاكية هي آلية نهب للفائض المحلي وعليه، فهي تنتهي إلى احتجاز التطور. ولكن هناك اختلافات في الظروف المحيطة بكل مجتمع. وأحدها الفوارق الواسعة في المداخيل الفردية بين بلد وآخر. ففي الكيان الصهيوني يصل متوسط دخل الفرد حتى 20,000  دولار سنوياً أو اكثر. وهذا يقارب عشرين ضعف متوسط الدخل لدى الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وثانيها، يخص مصدر الدخل، فإن الكيان الصهيوني كبلد مدعوم من الإمبريالية، فإن قسطا كبيراً من الإنتاج القومي الإجمالي فيه هو مساعدات وهبات من المركز الإمبريالي.

وهذا يشجع سكان ذلك الكيان على استهلاك أكثر  . هذا إضافة إلى حقيقة ان النظام الصهيوني قد طوَّر قاعدة صناعية وزراعية متطورة التي تزودها بسلع قابلة للتصدير، وهو الأمر الذي يغطي جزءاً من وارداتها. من جهتها فإن النخبة الفلسطينية المتأمركة قد سألت الإمبريالية الأميركية بأن تهب الفلسطينين نفس الهبات التي تقدمها لإسرائيل وهو الأمر الذي لا أساس له. إضافة إلى حقيقة أن هذا الطلب على “المساواة” من الغريب طرحه على الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة التي لم تخف ابداً دعمها المفتوح والمكشوف للدور الوظيفي العدواني الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.

     وما حصل على الآرض أن الفلسطينيين لم تتم ابداً مساواتهم بإسرائيل في السياسة الأميركية، بل بالعكس تماماً. فالمؤسسة الأميركية الحاكمة هي العدو الرئيسي للشعب الفلسطيني. وعليه، فإن عدم أخذ هذا الأمر بالإعتبار هو مثابة موقف تدميري على التنمية، والنضال السياسي، والوعي والتربية الشعبية. ولعل ما هو مدهش أن ما يحصل هو العكس. فإن الوجه القبيح للحكم في الولايات المتحدة قد تحسن لدى بعض الفلسطينيين، وقد يعود جزء منه إلى تأثير الإعلام الفلسطيني ، ودور منظمات الأنجزة وبعض الأكاديميين والمثقفين الذين اعتادوا على ذلك، أو واصلوا تسويقهم التطوعي للإمبريالية الأميركية.  تقوم هذه المجموعات بامتداح الولايات المتحدة مصورين إياها كما لو كانت وسيطاً “محايدا” في ما تسمى عملية السلام. وهذا في حقيقته مثال على عملية إعادة تثقيف الشعب الفلسطيني كي يغادر كافة اشكال النضال والعمل الجذري. 

     قادت هيمنة الإستهلاكية إلى تدمير اكثر للمشاريع الإنتاجية المحلية، وفي النهاية إلى انكماش السوق المحلي. وهذا انسجم مع زيادة في الطلب على السلع المستوردة. ولعل أحد العوامل المحفزة وراء هذا التوجه هو استمرار الإعتقاد التقليدي بأنه كلما كان الاستهلاك من المنتجات الأجنبية اكثر كلما كان المستوى الإجتماعي للمستهلك أعلى! كما أن عامل التقليد هو محفز آخر في تشجيع الإستهلاكية لا سيما حين يغيب التثقيف والتوعية ضد الإسنهلاكية.

     لقد تنامى هذا الميل مع سواد توجه قيادة م.ت.ف في تنفيذ تكتيكها بصدد استغلال الإنتفاضة الأولى بشكل وظيفي لتخدم مصالحها السياسية ومكاسبها الإقتصادية التي انتهت باتفاق أوسلو.

     وخلال حقبة الإحتلال المباشر، أي قبل أتفاق أوسلو، كانت الناقلة الإجتماعية للإستهلاكية هي شريحة الكمبرادور والطبقة التجارية والنخبة المثقفة المتغربنة.

كانت هذه هي الآليات الأساسية للإستهلاكية. وعليه، كسبت كثيراً من الإمتيازات بسبب من دورها. لقد اصبحوا عملاء للشركات الإسرائيلية التي حازت على أو مُنحت قروضاُ تجارية ورخصاً للإستيراد من الخارج. وقادات هذه الأنشطة إلى منافسة قوية ضد المنتجات المحلية. كما تم رصد ما ربحته هذه الفئات في البنوك الأجنبية وفي أفضل الأحوال تم استثمارها في إنشاء شركات التعاقد من الباطن التي قوّت بدورها تبعية اقتصاد المناطق المحتلة  لإقتصاد الكيان الصهيوني.

     وبموجب تطورات الإنتفاضة الأولى، ظهر نمط استهلاكي جديد هو القرار الشعبي بالاستهلاك والذي تمحور حول مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وإلى حد ما مختلف السلع المستوردة من الخارج، وهذا مثابة انسحاب إستهلاكي إلى الداخل كما اشرنا أعلاه.

     من الواضح أن هذا قرار سياسي وطني. ونظراً للدعم والقبول الشعبي الواسع له فهذا يؤكد بأن تسييس التنمية أمراً ممكناً. وفي الحقيقة، فإن الجماهير نفسها هي التي ابدعت وتبنت هذا التسييس بما هو نمط تنمية أبدعه الشعب. وهذا هو الجوهر الديمقراطي الشعبي للتنمية بالحماية الشعبية، وهو الفعل والتفاعل المباشر من الجماهير. وما كان له ليحصل لو لم تقتنع به الجماهير نفسها. فالشعب هو الطرف الذي بادر بالنموذج واتخذ قرار التفعيل. إن نتائج الإنتفاضة هذه هي في جوهرها نفي للتقزيم البرجوازي لسلوك الإنسان بحصره في المستوى الإقتصادي. وهنا لا بد من التفريق بين المصالح المادية بمستوياتها الإقتصادية، والسياسية واالثقافية والقومية، وبين العامل الإقتصادي البحت. وفي حين أن هذا الموقف الشعبي المسيَّس، موجه ضد الإستهلاكية وبأنه بدأ بشكل عفوي، فهو لا يعني ان لا أحد يجب أن يهتم بتطوير هذا الموقف والقرار الإجتماعيين بأن يطور عبر تحليل وتربية عميقين.

     ولسوء الحظ، فإن القيادة السياسية كانت غير قادرة وتنقصها المهارة على  دفع هذه المبادرة الشعبية إلى تعاون واعٍ وإلى مستوىً اشتراكي كي تستمر. إن تجربة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية عبر إنتاج الحاجات الأساسية، هو نمط لتوجيه وقيادة الإستهلاك من قبل الجمهور نفسه. لقد تفعَّلت مقاطعة المنتجات الإسرائيلية سريعاً بين شرائح الطبقات الشعبية. وعلى العكس من ذلك كان الأغنياء الفلسطينيون هم الذين عجزوا عن وقف استهلاكهم من منتجات الكيان الصهيوني. فشلوا، وربما لم يعملوا على، وقف سلوكهم بل ولعهم  الإستهلاكي الغربي. وفي الحقيقة، لم يكن التغيير على أجندتهم. ومن الجدير ذكره هنا ان العدو كان بالإنتظار ليهاجم كافة المظاهر الثورية للإنتفاضة. ففي السنوات الثلاث الأول للإنتفاضة، ونظراً لانشغال جيش الإحتلال وغيابه النسبي عن الأحياء الشعبية كان هناك مناخاً ديمقراطياً ما مناسباً للتنمية. بل إن إنشغال الإحتلال بعمليات قمع شاملة طالت الرجال بشكل موسع، مما أدى إلى تراخي دورهم الأسري، وهو الأمر الذي أعطى المرأة فرصة  الإشراف أكثر على نفقات الأسرة، وهو ما هيىء للنسوة فرصة التعاونيات المنزلية إلى جانب مشاركتهن في الإنتفاضة.

     ولكن في أعقاب السنوات الثلاث الأولى للإنتفاضة بدأ طوفان منظمات الأنجزة التي خلقت منظمات خاصة للنساء أخذت منحىً غير شعبي وبعيد عن النضال السياسي/القومي. وعليه، فليس فقط هو توسع تيار الإسلام السياسي الذي قلَّص دور المرأة، بل كذلك منظمات الأنجزة ذات التوجه الرأسمالي المتغربن.

     وفيما يخص النوع، فقد كانت النساء طرفاً اساسياً في مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، بالانسحاب إلى الداخل استهلاكياً. فالمرأة هي مديرة ميزانية الأسرة واستهلاك المنزل. لذا، كان بوسع النساء التخطيط والتقرير فيما يخص نمط الإستهلاك الجديد وتربية الأولاد على استهلاك المنتجات المحلية. كما بدأت النساء تعاونياتهن المنزلية التي كانت النواة الأساسية للتعاونيات على نطاق أوسع. ومن خلال التعاونيات المنزلية هذه، توسع استهلاك المنتجات المحلية التي أعيدت إلى الطاولة. ونظراً لمحتواها السياسي والتربوي، كانت هذه ثورة ثقافية من الأدنى.  ومن ناحية عملية، لم يكن النضال ضد العادات الإستهلاكية ممكن الحصول دون مساهمة النساء. وهذا أحد أهم مساهمات المرأة في الإنتفاضة، وبالتأكيد في التنمية بالحماية الشعبية ايضاً. وهذه النقطة تؤكد بأن التنمية بالحماية الشعبية لم تكن لتصبح ملموسة باليد دون مساواة النوع الإجتماعي سواء في التخطيط أو المشاركة او الإدارة الذاتية التي كان لا بد أن تبدأ من الأسرة. وعليه، إذا كان لا بد للتنمية بالحماية الشعبية من رفض بيروقراطية قيادة الحزب من الأعلى، فلا بد لها بالطبع أن ترفض الهيمنة الذكورية كذلك. لقد اثبتت التجربة أنه إذا ما حصلت النسوة على حقهن في المساواة أو كن قد حصلن عليها بنضالهن، فبوسعهن الإثبات أنهن أكثر تقدمية من الرجال. وقد تجد هذه المسألة تفسيرها في حقيقة أن الرجال طالما مارسوا ومثلوا السلطة، والملكية، والإيديولوجيا المهيمنة.

     وهكذا، فإن النقاش يدفعنا ثانية إلى دور الطبقة وموقعها في دائرة الأستهلاك لكي تقودنا ثانية إلى دائرة الإنتاج ولكي تؤكد لنا مرة تلو أخرى، أن الطبقة التي تفتقر إلى التوجه والثقافة الإنتاجية لا بد تنتهي إلى حالة استهلاكية جداً. وستنتهي بدورها إن لم نقل بثقافتها إلى موقف لا تنموي. وإذا ما دفعنا النقاش إلى الأمام أكثر، سيكون واضحاً لأعيننا أن التقسيم الإجتماعي للإنتاج والإستهلاك هو طبقياً. فالتقسيم الإجتماعي في هذا المستوى يحفز الصراع الطبقي حتى خلال الصراع القومي.

     لعل ما كان ضرورياً في ذلك الوقت هو الشروع بإقامة تعاونيات توزيع تستثني بدورها احتكار التجار للسوق لكي تصل شبكة التوزيع إلى مختلف المواقع الإجتماعية ولتفرض سعراً شعبياً وليس احتكارياً للسلع. وبالفعل، فقد تواجدت شبكات من هذا النمط، لكن الإحتلال أعاقها بسبب الحواجز وطلب التصاريخ للتنقل والنقل من منطقة إلى أخرى في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث كان من حينها قد قسمهما إلى منعزلات لتصبح كل مدينة أو قرية أو مخيم مثابة وحدة اقتصادية اجتماعية منفردة. ومعروف أن الحصول على التصاريح يحتاج إلى وقت يستغرق اياماً للتنقل من منطقة إلى أخرى، وهي تصاريح من الحكم العسكري الإسرائيلي وكثيرا ما لا تُعطى التصاريح كما يكون كل تصريح لزيارة واحدة. وتكون نتيجة ذلك، إما عدم توزيع، مما يفرض على المتتجين تقليص إنتاجهم، وهذه خسارة كبيرة، كما أن التحكم بها ليس سهلا أو سريعاً، أو أن يتوقفوا عن الإنتاج، وفي الحالتين يترتب فصل عمال. كما واجه المزارعون مشاكل أكثر. فكثيرون منهم كانوا يفقدون موسمهم بأكمله. وهذا جعل من المستحيل عليهم تشكيل شبكات وطنية للتوزيع في السوق المحلية. ولكن في الإنتفاضة الثانية، فرض الإحتلال الإسرائيلي سياسات مدمرة قطعت أوصال المناطق المحتلة وصفَّت وسائل ومواقع الإنتاج الفلسطينية.

     طالما أن الاستثمار والانتاج والاستهلاك جرى تصميمها على يد مبادرة مسيسة ومحفوزة على وعي قومي وطبقي أخذته الطبقات الشعبية في المناطق المحتلة، إنها شكل من النضال الطبقي جرى تحريكه كرد على الطبقة الرأسمالية الإسرائيلية والمركز الإمبريالي. إنه كذلك ضد التجار المحليين وطبقة الكمبرادور التي تصرفت بصفتها معتمدة على نظام حكم الإحتلال. إنه نضال طبقي ضد الطبقات الرأسمالية في المركز لأنها تقلل استهلاك منتجاتها. قد يعترض البعض قائلين ان الطاقة الإستهلاكية للضفة والقطاع ليست ذات قيمة كي تجتذب رجال الإعمال الأميركيين. ولكن المسألة هنا ليست في كمية الإستهلاك. فلم يقم الرأسماليون، وليس من عادتهم، تقليل أرباحهم. لذا، فإن القنصل الأميركي في القدس كان قد نشر تقريراً مفصلاً يخبرفيه الراسماليين الأميركيين  عن المجالات المربحة في الضفة الغربية وقطاع غزة[2]. وهذا يبين معنى معادلة الكلفة-الفائدة إضافة الحساب الدقيق لأية كلفة صغيرة لصالح الإبقاء على المعدل الأعلى للربح. هناك مبادىء اساسية في حسابات الرأسماليين، التي نسبها ماكس فيبر بشكل فاشل إلى ما اسماه “الأخلاقيات البروتستنتية”. وعليه، فإن نسب الإنتقال إلى الراسمالية والتطور الراسمالي إلى الدين ليس سوى تكريس الدين لصالح راس المال.

     تشتمل مقاومة الإستهلاكية على التحريض وتربية الشعب ضد الإعلام الإمبريالي الذي قام ويقوم بالكثير ويقوم من الدعاية التسويقية للمنتجات الملوثة وغير الصحية. وهذا مظهر ثقافي آخر  لثورية الإنتفاضة. وهو شكل آخر لمناهضة التطبيع الإقتصادي مع الإمبريالية في حقبة الهزيمة الثورية .

من الغرابة أن المنظمات الأجنبية، الأنجزة، والدول المانحة والبنك الدولي يبالغون في مشكلة التلوث في المناطق المحتلة. وفي حين أن التلوث ليس غائباً تماماً، لكنه ليس المشكلة المستحكمة، أو المستحكمة الأولى. فالقليل من الناس يحتجون على استخدام المواد الكيماوية السامة القادمة من إسرائيل في الزراعة في المناطق المحتلة، وهي مواد محظورة دولياً.

نظراً لموقف الطبقات الشعبية في مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، أي بسبب ذلك النموذج السياسي الجديد، قرر الإمبرياليون إعادة تثقيف الشعب الفلسطيني، ولكن بفكر الثورة المضادة. وذلك بضخ كميات هائلة نسبياً من الأموال عبر منظمات الأنجزة، التي دورها حث إيديولوجيا السوق، وتقديم قروض فردية، وليس قروضاً لتعاونيات، وما يسمى تشجيع والتربية على الديمقراطية.

إن التنمية بالحماية الشعبية بما هي مشروع مناسب لدى الطبقات الشعبية في الوطن العربي، فإن هذه الطبقات تفترض سلفاً مقاطعة المنتجات الصهيونية والرأسمالية الغربية. وما تجدر الإشارة إليه هنا ان هذه الطبقات قد بدأت انسحابها إلى الداخل بمقاطعة المنتجات الصهيونية. وعليه، يمكن للمقاطعة أن تنتشر في فترة قصيرة نسبياً، في حين أن العملية الإنتاجية تحتاج دائماً إلى وقت أطول. هذا إضافة إلى حقيقة أن المقاطعة مثل الإستهلاك هي مجال وقرار فرديان. وهذا يمكن أن يكون طريقاً مناسباً وفعالاً لمواجهة الجهود المتواصلة لطبقة الكمبرادور لإعاقة والإضرار مباشرة أو لا مباشرة بكل من المقاطعة والاستثمار في الأنشطة الإنتاجية. فالمقاطعة مسيرة طويلة. وهذا ما يكشف الأهمية العالية لكونها بدأت كمسيرة شعبية، لكنها تظل بحاجة إلى حركة سياسية شعبية لحملها بشكل متواصل في مستويي التثقيف والاقتصاد. ولا حاجة للمنظمة السياسية أن تفترض بأن يقوم كل مواطن بمراقبة نفسه استهلاكياً وبشكل متواصل ويومي. فالكمبرادور، سيظل يقذف بكميات متنوعة من المنتجات الأجنبية إلى السوق والتي تشكل حرباً اقتصادية ونفسية معاً، طالما أن البلد  تحت الإحتلال، أو تحت سلطة الحكم الذاتي، وحتى في البلدان العربية المستقلة شكلياً، وهذا يبرز أهمية المنظمات القاعدية الشعبية والمنظمات السياسية للمتابعة اليومية لهذه المسيرة ولمقاومة الطريق المضاد. ما يطلبه الواقع هنا منظمات مجتمع مدني شعبية ثورية. فإذا ما تم استيعاب وتمثل وتطبيق هذه الثقافة في البلدان العربية عبر حركة مناهضة للتطبيع، فإنها ستكون خطوة لتوحيد الطبقات الشعبية  على صعيد عربي. وبعبارة أخرى، إنها صراع طبقي ضد الطبقات الرأسمالية الكمبرادورية العربية. إنها بداية الإعتماد على الذات في المستوى الطبقي وهي شكل من إعادة أو استعادة الفائض من أيدي البرجوازية المحلية والأجنبية.

رابط الجزء الأول:

رابط الجزء الثاني:

رابط الجزء الثالث:

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.


[1] See Adel Samara Epidemic o Globalization, 2001, Chapter six.

 [2]  نشر هذا التقرير في كنعان، رقم 85 لسنة 1987.