فك الارتباط:
“في هذا الوضع كان لا بد من تطوير قوى الإنتاج بعيدا عن الرأسمالية”
تلخِّص هذه الجملة رؤية أمين لفك الارتباط بمعنى أن تطور بلدان المحيط يضعها أمام أحد خيارين:
- إما مغادرة النظام الرأسمالي كلياً ارتكازاً على تطوير قوى الإنتاج، وتجاوز معايير العلاقات الاقتصادية الاجتماعية الثقافية المترتبة على الإضطرار لعلاقة ما بالسوق العالمية، وهذا خيار في مصلحة الأكثرية الشعبية.
- · أو الدوران في حلقة التخلف والتبعية المفرغة، وهو خيار في مصلحة أقل الفئات الاجتماعية عدداً وأكثرها ثروة وتخارُجاً وأقلها انتماءً للبلد حيث وطنها هو رقم حسابها المصرفي.
إلى ماذا تُردُّ مسألة الأقلية والأكثرية إن لم تُرد إلى المسألة الطبقية وانحياز كامل مشروع أمين إلى الطبقات الشعبية.
إن قوى الإنتاج/مستوى تطورها هي محورية في التطور، بل هي محوره الأساس بما أن الإنتاج هو الحلقة المركزية في أي اقتصاد وعليها تقوم الحلقات الأخرى، التوزيع والاستهلاك والادخار وإعادة الاستثمار والتبذير والإسراف…الخ. ويعني هذا، في هذه الحقبة تحديداً وفيما يخص الوضع العربي ولا سيما بلدان النفط، بأن الرّيْع كانتفاخ سيولة مالية ليس مدخلاً للتطور بل للتبعية. وفي حالتي التنمية والتبعية، فإن علاقات الإنتاج تلعب الدور الجدلي مع قوى الإنتاج، وهو ما يختلف فيه فقهاء الماركسية أيّها المقرِّر.
“…لا يتم فك الارتباط دون إخضاع العلاقات الخارجية وبلا كفاءة سياسية لإنجاز إصلاح إجتماعي عميق في اتجاه مساواتي. إضافة إلى استيعاب تكنولوجي والإبداع[1]“.
هذه الكفاءة السياسية هي التي نسميها “القرار السياسي” من السلطة الحاكمة، أي القرار الطبقي من الطبقة الحاكمة التي في كل تشكيلة اجتماعية إقتصادية تتموضع طبقاً لمصالحها وليس طبقاً لقوميتها أو جغرافيتها أو تاريخها…الخ.
الفائض، التراكم، وفك الإرتباط كبديل:
“… وفي حقيقة أن برجوازية العالم الثالث ليست قادرة حتى الآن على التجاوز. ولكن بوسع المرء القول بأن هناك بديلا للبرجوازية، البديل الآخر (التحالفات الاجتماعية الشعبية) هو الذي بوسعه القيام بذلك؟. هذه أطروحتنا. ولكن الأشكال اللازمة للقيام بذلك تتضمن ما نسميه فك الارتباط وهو جزء من الإشكالية حيث لم يعد هناك مجال لتوسع رأسمالي، وعليه فالممكن- وهو بالأحرى نقيض- الانتقال باتجاه مجتمع آخر (الاشتراكي)”[2].
يركز أمين في عمله هذا على التراكم مشيرا إلى أن هناك خلطاً بين التمحور على الذات وبين التصنيع بالبدائل (إحلال الواردات) بزعم أنها عكس الاستراتيجية الموجهة للتصدير (أخذ التصدير كقوة دافعة للنمو) وتجد توسعها في توسيع السوق المحلية. وهذا يطرح السؤال عن كون البدائل هادفة التحكم بالتراكم أو أنها تقبل بدرجة من تحكم رأس المال الاجنبي سواء ماليا وتكنولوجيا وتبعية …الخ. أي هل يفلت التراكم من يد الدولة[3].
طبعا، هو هنا يتجاوز وينقض نظريات اللحاق والتكيف والإقلاع…الخ بما هي مداخل برجوازية لبرالية للنمو لا أبعد.
ولكن، هل كان على أمين البدء أو العودة بنا إلى ما قبل التراكم، إلى أساس ومولِّد التراكم؟ أي علاقات الإنتاج الراسمالية الطبقية التي تقوم على وباء الملكية الخاصة[4] ومن ثم الاستغلال وسلخ القيمة الزائدة أي بزل الفائض والتحكم به؟ باعتبار الفائض هو ثمرة الإنتاج الذي تنتجه قوة العمل بما يعتوره بالطبع من الاستغلال والتغريب/الاغتراب. بالطبع كان يجب ذلك، لكنه ربما افترض أن الأمر تحصيل حاصل. فالفائض أساسه العمل ولذا هو أساس التراكم.
لم يكن أمين بعيداً، بل كان من أبرز أعضاء مدرسة مونثلي ريفيو[5] (بول باران وبول سويزي وهاري ماجدوف وآيلين ماكيمس وود وجون بولاني فوستر…الخ) ولا سيما عمل باران عن الفائض في كتابه الهام Political Economy of Growth ، 1957.
من أهم نظريات ماركس في الاقتصاد ، نظرية فائض القيمة أو القيمة الزائدة التي تنتجها قوة العمل البشرية وحدها ولا يبقى لها من جهدها المبذول في الإنتاج المتحول إلى سلع سوى ما يحقق لها حدا أدنى من البقاء أو الكفاف لها ولمن تُعيل؛ أما النسبة الأعم بما يقارب الإطلاق فتذهب للذي يملك ولا يعمل كي يُنفق ويدخر ثم يستثمر مجددا أي يستغل قوة العمل مجددا…وهكذا. وكلما تطورت التقنية يحقق الرأسمالي فائض قيمة حيث يتحول هذا الفائض إلى ربح.
اهتمّ الاقتصاديون كثيراً بمسألة فائض القيمة، وخاصة اقتصاديو التنمية، حيث ربطوا الأمر بنمو ومن ثم تنمية هذا البلد أو ذاك؛ بمعنى أن النمو والتنمية كي يتحقق أحدهما هنا والآخر هناك لا بد للبلد أن يحتفظ بالفائض المتحصل على صعيد وطني/قومي، وبأن أسباب التخلف تنكشف حينما لا يتحكم بلد بالفائض المتحصل فيه، أي بمجموع القيمة الفائضة/فائض القيمة للبلد ككل.
هذه المسألة شغلت الاقتصادي الأمريكي بول باران، ولا سيما في قرائته لتخلف بلدان محيط النظام العالمي، فطوّر نظرية في الفائض أطلق عليها الفائض الاقتصادي بما هو على مستوى الوحدة الدولانية أي البلد القومي. ورأى أن الفائض هو الفارق بين المُخرج الكلي والاستهلاك الكلي للبلد. وتقدم ليرى أن هناك ثلاثة متغيرات محددة لمفهوم الفائض الاقتصادي هي: 1. الفائض الاقتصادي الفعلي، وهو الفارق بين المخرج الجاري للمجتمع والاستهلاك الجاري لنفس المجتمع، وهذا هو الفائض أو المدخرات التي تتعامل معها النظرية الاقتصادية. كما لاحظ أن بلدان المحيط تحقق فائضا ضئيلا وبأن هذا أساس تخلفها، أي نقص رأس المال.(طبعاً لاحقا لم يعد توفر المال هو الأساس في التنمية بقدر ما هو الإنسان والسياسة الاقتصادية)؛ 2. الفائض الاقتصادي المحتمل وهو الفارق بين المخرج الممكن إنتاجه في شرط أو بيئة طبيعية و تكنولوجية بمساعدة استخدام موارد إنتاجية وما سيعتبر استهلاكاً أساسياً؛ 3. مفهوم الفائض الاقتصادي المخطط المرتبط بنظام اشتراكي. وهو الفارق بين المخرج المتحقق “الأمثل” في بيئة طبيعية وتقنية تاريخية في ظل شروط تخطيط أمثل في الاستفادة من قوى الإنتاج المتوفرة واختيار مستوى استهلاكي أمثل. وأهمية المخطط أنه قائم على سياسة ترشيد علمية تحافظ على الموارد البشرية والطبيعية. هذا المخطط المتماسك لباران، والمهتم أساساً بقراءة مسببات التخلف، لم يركز كما يجب على السلطة الطبقية في المحيط والتي غالباً ما تحوّل دورها إلى آلية تسهيل نزيف الفائض. وهو الأمر الذي يتم تلافيه في النظام الاشتراكي.
بدوره، قام الراحل أنور عبد الملك بتوسيع نظرية الفائض. فإذا كان ماركس قد ناقشها وأسس لها على نطاق المشروع الواحد، علاقات الإنتاج والاستغلال الطبقي، ولامس المستوى القومي/الوطني، وقام باران بتوسيع مفهوم الفائض ليتعدى القيمة الزائدة فائض القيمة في المركز وفي المحيط أي في النظام الرأسمالي العالمي في فترة معطاة؛ فإن عبد الملك طور المفهوم ليعطي الفائض مستوى تاريخياً غير ساكن ولا محدد بفترة زمنية محددة أو بلد محدد، وإن ركز على، أو بدأ من، القرن الخامس عشر، وهو مدخل يتقاطع في الحقيقة مع قراءة ماركس لمفهوم القيمة عموما، بمعنى أن قيمة السلعة هي مقدار العمل الإنساني/الإجتماعي المبذول فيها، أي العمل بتنوعاته، الحي والميت والمجرد …الخ. إنه العمل المتراكم تاريخيا.
ويضيف، إن جذور العنف، جذور الحرب المعولمة، الطريق إلى السلاح، قابعة/متأصلة في البنية التاريخية للنظام العالمي، وهي في التشكيلة التاريخية للهيمنة الغربية المتجذرة في فائض القيمة التاريخي منذ القرن الخامس عشر وما تلاه. إن الشيء الأساسي في التحليل البنيوي للهيمنة الغربية، ليس محصوراً على أية حال في بُعد الميل الحربي. فبالأحرى، يجب تسليط البحث وتركيزه على تشكيلة فائض القيمة التاريخي”[6]؟
لا أحد من اليمين ولا اليسار، أهمل مساهمة ماركس أو مساهمة بول باران في مسألة الفائض، لكن، قلما أشار أحد إلى مساهمة أنور عبد الملك! هل هي مركزانية الثقافة الغربية وتبعية غير الغربيين؟ هل هي لا سامية في الاقتصاد السياسي؟
لا شك أن امين قد اطلع واستفاد من أطروحة عبد الملك لا سيما أنهما من نفس الخلفية من جهة، وعاشا أيضاً في شبه هجرة عن مصر، ومن هنا أنهى أمين مساهمته في بلورة فائض القيمة المعولم..
فك الارتباط والمسألة القومية:
تقع المسألة الطبقية في مركز أطروحات أمين، وخاصة فك الارتباط، لأن تبني فك الارتباط يعني تحدي قوة اجتماعية سياسية، طبقة، هي الطبقة المتخارجة سواء الرأسمالية الكمبرادورية أو الطفيلية أو الريعية أو المضارباتية على صعيد وطني، وطبعا الثورة المضادة على صعيد معولم. صحيح أن القرار السياسي السيادي بفك الارتباط في بلد معين هو طبقاً لجغرافية البلد، ولكن، إذا انطلقنا من معطيين مركزيين هما:
1-أن أمين ورفاقه يرون جغرافيا العالم مغطاة برأس المال بمعنى أن أي تطور، والأصح تغير أو حدث كبير في بلد لا ينحصر في البلد نفسه.
2-وبأن الثورة المضادة لا تترك لبلد قراره الحر أبداً.
فهذا يعني أن قرار فك الارتباط، بل حتى أية درجة من الفك، له تبعاته عالمياً، إنه اشتباك معولم. ولكن أمين لم يتورط في خطاب التزييف الذي يقول بأن العالم قرية واحدة أو صغيرة. هو قرية صغيرة بمفهوم تطور تكنولوجيا السفر ونقل المعلومة، ولكن العالم (اجتماعياً)حافظ على، بل وكرَّس، الفوارق الطبقية، عالم الفقراء وعالم الأغنياء فبقيت القرية منقسمة بوضوح بين Chanty Town and Down Town. إنه الاستقطاب.
في مستواه الأول، يقول أمين، يفتح فك الارتباط باب الصراع مع الاتجاهات القومية الاندماجية:
“…فك الارتباط يفتح الصراع بين الاشتراكيين وبين الدولانيين والميول الرأسمالية القومية”[7]
لكن هذا المشروع، بما هو للأكثرية الشعبية، فهو مشروع تحالفي يحمل هموم التحالف التقدمي في البلد نفسه، وبهذا المعنى هو قومي أيضاً أي بمضمون قومية الطبقات الشعبية[8]:
“…فك الارتباط يهدف استعادة استقلال الدولة القومية .. ومراجعة علاقات شمال-جنوب بهدف تقوية الاستقلال القومي للشركاء وتوسيع منظور الحركة الشعبية كأساس للأممية الجديدة” [9]
إلى أن يصل أمين إلى المآل الضروري والنهائي لفك الارتباط:
“…إذا كان تشكيل دولة برجوازية قومية وانشاء اقتصاد رأسمالي ذاتي التمحور مستحيلا في المحيط ، فإن طريقا مختلفا للتطور لا بد منه. .. انها مسالة فك الارتباط والاشتراكية.[10]
وحيث يقول أن: “التمحور على الذات أساسي في فك الارتباط لأنه يعني التحكم القومي بالتراكم”، فهو لا يعني القومي بالمعنى البرجوازي الكلاسيكي بل مصلحة الشعب في البلد المعني.
يرتكز أمين في اهتمامه بقوة الدولة القومية، رغم منظوره الماركسي، على البيان الشيوعي الذي يؤكد بأن الدولة القومية القوية هي القاعدة الأنسب أو المقدمة الموضوعية للانتقال إلى الاشتراكية.
“…وعليه، ليس في الجوهر بل حتى في الشكل، فإن نضال البروليتاريا مع البرجوازية هو أولاً نضال قومي. فبروليتاريا أي بلد، يجب بالطبع، قبل كل شيء أن تحل أو تسوي القضايا مع برجوازيتها[11].
“..فالشيوعيون أيضاً متهمون بأنهم يرغبون في إلغاء البلدان والقومية. إن العمال لا وطن لهم. فليس بوسعنا أن نأخذ منهم ما لم يملكوه. وحيث أن على العمال الحصول أولاً أو إنجاز التفوق السياسي، فعليهم أن يبرزوا كطبقة قائدة للأمة، وأن يمأسسوا أنفسهم في الأمة، وهي، بهذا المعنى قومية، ولكن ليس بالمعنى البرجوازي للكلمة[12]“.
وهذا ما توصلت إليه في قراءة العلاقة بين الماركسية والمسألة القومية بأن هناك:
* الفهم والموقف البرجوازي للقومية، القومية الحاكمة.
* وهناك فهم وموقف الطبقات الشعبية للقومية، القومية الكامنة.
الأول طبقي برجوازي يبحث عن الانخراط في النظام الرأسمالي العالمي، والثاني له مضمون قومي وطني وحدوي اشتراكي[13].
كما كتب ماركس في تحليله كميونة باريس:” ..لم تكن وحدة الأمة تحت أي نوع من التهديد، بل كانت سيتم تضبيطها بدستور الكميونة، ففي جميع نداءاتها لسكان مناطق فرنسا، دعت الكميونة مختلف الكميونات الفرنسية إلى تشكيل اتحاد فدرالي مع كميونة باريس، من أجل ترتيب قومي على يد الأمة الفرنسية نفسها، وللمرة الأولى في تاريخها[14]“.
ما نخلص إليه هنا، أن أخذ المسألة القومية في الاعتبار وخاصة في بعدها التقدمي لم يأخذ أمين إلى إضاعة المستوى الطبقي. لكنه في الحالة العربية بقي مُراوحا بين العروبة وبين قوميات للأقطار المكتملة، مصر مثلا، بل لم يستفد من أطروحة كميونة باريس في دعوتها لفدرالية للأمة الفرنسية. هذا رغم أنه اقترب من المسألة العروبية حينما حلَّل المزاعم الكردية في وجود قومية كردية موحدة[15]. على أية حال، لهذا حديث آخر.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
[1] Amin Delinking: Towards a Polycentric World, zed books, 1985, P. 60
[2] Amin Delinking: Towards a Polycentric World, zed books, 1985P.13.
[3] Amin Delinking: Towards a Polycentric World, zed books, 1985.p.18
[4] لا تقوم مشكلة البشرية تاريخيا على الأساس الاستحواذي الاستغلالي الذي كرسته الملكية الخاصة بما هي سلاح طبقي وهزيمة طبقة لأخريات، بل كذلك على المفعول والمحفِّز الننفسي للربجوازي الذي يتعالى بما يملك وبما ليس جوهره كشخص وهذا يدفعه للتمسك بالملكية الخاصة بناء على تغذية متبادلة بين البحث عن الربح اللامحدود وتوظظيف ذلك في رفع مكانته الاجتماعية فالسياسية.
[5] هذه المدرسة القريبة من الماوية هي التي اعتبر نفسي قريبا منها واستفدت منها كثيرا، لكنني لست ضمنها.
[6] نشرة “كنعان” الإلكترونية، السنة الثامنة عشر – العدد 4724، 28 آذار (مارس) 2018.
[7] Amin Delinking: Towards a Polycentric World, zed books, 1985.p.35.
[8] أنظر عادل سماره، دفاعاً عن دولة الوحدة: إفلاس الدولة القطرية. رد على محمد جابر الانصاري. منشوات دار الكنوز الادبية، بيروت 2003. ومركز المشرق/العامل 2004
[9]Amin Delinking: Towards a Polycentric World, zed books, 1985.p.52
[10] Amin Delinking: Towards a Polycentric World, zed books, 1985.p.12
[11] Marx Engels, The Communist Manifestos. Ed. By Samuel J. Beer Appleton-Century-Crofts, Inc. New York. 1955. P. 21.
[12] Ibid. p. 29
[13] أنظر عادل سمارة، دفاعا عن دولة الوحدة، مصدر سبق ذكره
[14] The Communist Manifesto: the First Unforged Edition, ed. by Lafif Lakhdar. Galileo Publications, Jerusalem, 1976, p. 108.
[15]http://monthlyreview.org/2016/10/01/the-kurdish-question-then-and-now/.