“كنعان” تتابع نشر كتاب “فلسفة المواجهة وراء القضبان”، تأليف: محمود فنون، الحلقة (10)

  1. أسلوب الارهاب:

    في التحقيق كما في الساحة النضالية نفسها تمارس سلطات القمع الارهاب والتنكيل بالوطنيين الثوريين والمواطنين بغية تمرير سياساتها، ولجم الحركة الجماهيرية المناضلة  الرافضة لسياسة السلطة ووجودها.

      والارهاب الرجعي سمة ملازمة لسلطات الرجعية تكشف عنها بهذا الشكل أو ذاك حسب الوضع السياسي العام ودرجة خطورة الحركة الجماهيرية، فكلما ازدادت وتيرة النضال، ازدادت درجات القمع والتنكيل، ومن ضمنها زيادة حجم الاعتقالات المنظمة والعشوائية وازدادت وحشية المخابرات والجلادين في التحقيق.

    وعلى نطاق التحقيق بالذات، كلما شعر الجلادون (متأثرين بالوضع السياسي العام) بخطورة المنظمات والأحزاب ومجموعات المقاومة، كلما ازدادت فاشية ممارساتهم مع المعتقلين – نهج واحد، وهدف واحد.

    وكما أن القمع المتواصل، ونسف البيوت، ونظام منع التجول ومختلف أشكال المضايقات والكبت المادي والمعنوي لا يثني الحركة الوطنية، والأحزاب الثورية المكافحة عن أهدافها وسياسة تصعيد نضالها، كذلك الحال مع المعتقلين الثوريين المكافحين من أجل الحرية، تزداد درجة استعدادهم للصمود كلما زاد عسف المحققين ووحشيتهم.

     نهج واحد وهدف واحد – الصمود والتضحية وافشال أهداف الجلادين.

    فأهداف الارهاب واحدة في النهاية – التخويف- وضع الحركة الوطنية، وأحزابها على عتبة الخوف، وهنا تبدأ سياسات السلطة تعطي ثمارها :

     فالحزب الذي يخاف، ويرهب أعضاؤه الاعتقال والعسف، والاقامات الجبرية والمضايقات يحني رأسه للعاصفة ويتحول من حزب مكافح قولاً وعملاً، إلى حزب على هامش الحركة والنضال، ويحسب حساب السلطة ويخشى غضبها في كل سلوك يسلكه فردي كان أم عام.

    أما الحزب الذي يصمم على الكفاح وقيادة نضالات الجماهير، وتحسين ممارساتها وتوعيتها، وحشدها ودفعها للمواجهة فإنه يستثمر كل عسف سلطوي، واجراء همجي كفتيل يزيد الحركة اشتعالاً مما يربك السلطة ويدفعها باستمرار لتغيير سياساتها حتى تصل إلى درجة العجز.

    وفي التحقيق يقف المناضلون الممتلئون ثورية ووطنية، المؤمنون بقضيتهم وقضية شعبهم سداً منيعاً، وجداراً قوياً في وجه ارهاب المحققين، ويزداد حقدهم ورفضهم كلما ازداد تعسف المحققين ووحشيتهم إلى أن يستنفذ المحقق كل وسائله وأساليبه ويجلس مفرغاً منهكاً ومهزوماً.

    فأدوات  القمع المختلفة، هي في التحصيل النهائي جهاز واحد بيد السلطة يعمل في الساحة بما فيها المعتقلات خدمة لنفس الغاية الرجعية، وعلى درجة من التكامل والتمازج. والمناضلين في الساحة والشارع الذين يكيلون للعدو الصفعات والضربات، هم أنفسهم الذين يواجهونه بصدورهم ولحمهم ودمهم في الأقبية أضعاف أضعاف ما هي عليه في الشارع بسبب كثافة التحدي وعنف الصراع.

    لم يحصل أن فكرت سلطة رجعية بإبادة الجماهير جسدياً عن بكرة أبيها، وهي ان قتلت أو جرحت أو استخدمت كل أشكال العنف انما تستخدمها بقصد الارهاب، بالاستناد إلى خلفية فاشية، تعسفية متوحشة. واستناداً إلى ايديولوجية حاقدة وتعبئة رجعية. وكذلك الحال في التحقيق: فإن المحقق لا يهدف إلى الإبادة الجسدية عبر جولات التعذيب المختلفة، إنه يهدف الى الارهاب، التخويف للوصول الى نتيجة أخرى هي الاعتراف. ان الارهاب هو وسيلة لتخويف المناضل وهز معنوياته وارتباطاته، وسيلة لهزيمته في التحقيق. فما هو أسلوب الارهاب؟

    أسلوب الارهاب: هو جملة من الممارسات الوحشية والمادية والمعنوية والعملية، واللفظية التي تتناول وبشكل مباشر نفسية ومعنوية وصمود المناضل عن طريق التعذيب الجسدي وتهويله، أو التهديدات باستمرار التعذيب إلى الأبد، أو التهديد باجراءات قمعية قوية كنسف البيت وقتل الأطفال، والاحكام العالية في السجن، أو كل الطرق معاً، وذلك لتشويش وضع المناضل وتصوير التحقيق له على أنه الموت الزؤام وأن التحقيق لن ينتهي وأنه يستمر إلى الأبد، وأن مركز التحقيق هذا لا شيء (بالرغم من كل قسوته) وأنه سيجري نقله إلى صرفند، أو مركز تحقيق آخر فيه تعذيب أبشع وأقسى…

    يبدأ المحقق في تهويل التحقيق، واستخدام الضرب القاسي وتمثيل مظاهر محكمة توحي بنتائج غامضة كأن يبدأ عملية الضرب على كفي القدمين بأن يحضر عصاة ضخمة، وسلسلة حديد كبيرة ومساعدين اثنين أو ثلاثة، ثم يحضر طشت ماء، وعلبة كاز، وخطافة تعليق اللحم وعدة أدوات أخرى من مختلف الأنواع بقصد الايحاء، ثم يفحص عيني المناضل، ويأخذ في تحريك الأشياء، فترة من الزمن فاسحاً فترة ولو صغيرة لبلبلة المعتقل ثم يبطحه على الأرض مصحوباً بصوت السلاسل، ثم يربط قدميه بالكرسي، ويبدأ الضرب وخلال ذلك يتلفظ بكل ما يهدف إلى الايحاء بالخطر القادم (علماً بأن العملية بسيطة وهي عبارة عن رفع القدمين والضرب) ثم يأخذ بالضرب واستمرار الايحاء بالأخطار والأهوال الارهابية مشيراً إلى أن هذا الوضع القاسي هو مجرد بداية… وأن المخفي أعظم… وأنه لا بد من الاعتراف… وأن غيره أعظم منه ولم يستطع الصمود… وأنه لا خلاص بدون اعتراف… وأن الثورة لن تنفعه، وأن أهله سيموتون جوعاً بعد موته… الخ من التهديدات   والتشكيك المتواصل بهدف اخافة المعتقل، ودفعه للتفكير بوضعه الخاص فهو فقط الذي يجلد الآن، أما قادته فهم في الكباريهات مع الحسان، وأن قادته يعرفون أنه عنيد وقد سلموه للتحقيق بهدف الخلاص منه لأنهم يعتقدون أنه سيموت تحت التعذيب.

    وهكذا يوحدون جملة من الممارسات، ويدعموها بأساليب التشكيك والتهويل بعد أن يطمئنوا أنهم خلقوا جواً ارهابياً يعتبرونه مناخاً مناسباً للسيطرة على المعتقل وتوجيهه نحو الاعتراف والسقوط.

    صحيح أن المعتقلين أنواع في درجة استعدادهم للتضحية، وصحيح أن لكل منهم سمات فردية خاصة، وبنية جسدية خاصة، وصحيح أن درجة الشجاعة والاستعداد للتضحية متفاوتة، وصحيح أن الجميع مستهدفين أثناء التحقيق للوصول إلى حالة الاعتراف. ولكن صحيح أيضاً أن الظروف هي التي تخلق الانسان، وليس نادراً أن يقف الجبان في لحظات معينة موقفاً شجاعاً ويذوق طعم الشجاعة ويصبح بطلاً، وصحيح أيضاً أن لا أحد يقدم نفسه لقمة سائغة للعدو يحصل بواسطته على المعلومات والأسرار، ويتلقى بالاضافة للتعذيب القاسي (الذي يستخدم مع الجميع) يتلقى أيضاً أحكاماً واجراءات سلطوية تدوم سنوات وسنوات بدلاً من اجراءات زمن محدود وينتهي.

    والصحيح أيضاً أن أي فرد متماسك التفكير لا يقبل أن يحمي يده من الكسر (وهذه حالات وقعت نادرا في التحقيق) ولا يحمي عمره من السجن أو يحمي ثورته من عسف السلطة، أو يستبدل الخطر الواقع على يديه ورجليه بالخطر على عشرات الرفاق من جهة، والخطر الناتج عن سقوطه من جهة أخرى.

    ان المسألة كلها تتركز في وضع المعتقل في حالة رهبة عامة من كل شيء، من الضرب، من دخول الزنزانة، من الخروج منها، من السير أمام الجندي، من التوقيف في زنزانة جانبية لانتظار جولة أخرى، خوفاً حتى من تعصيب العينين، خوفاً من حركة يد المحقق، من قيامه عن الكرسي، من دخول أي شخص جديد، خوفاً من اطفاء النور، خوفاً من اشعاله : هذه حالة الخوف العامة المطلوبة التي يرجى أن يعيشها المعتقل في الجو الارهابي.

    واذا ما لاحظ المحقق أن المناضل أخذ يتعاون وينسجم مع المناخ، وأخذ يستجيب للوضعية الجديدة فإنه سيزيد من اجراءات القمع والتخويف واعداً بانهائها اذا (وضع المعتقل ما لديه على الطاولة) وبالتالي تصبح الحالة على الوجه التالي: نستمر في اجراءاتنا حتى تعترف، وهذا يهدف إلى بلبلة المعتقل ودفعه للتفكر (اقول اعترف واخلص).

    متى يصل المعتقل الى هذه الحال؟: ببساطة اذا خاف من اجراءات ومظاهر سلوك المحقق. أما اذا لاحظ المحقق أن كل هذه الأساليب لم تخيفه فلن يعود إليها. وخاصة أن هذا الأسلوب ليس مضمونا دائماً. فالمعتقل غير الواعي نضالياً، والغير واعي لأساليب التحقيق سوف يواجه هذا الأسلوب بإحدى احتمالين:
  2. أن يؤدي الارهاب إلى رهبة أكبر من الاعتراف بحيث أن المعتقل يرهب الاعتراف أكثر مما يرهب التعذيب، وأنه ما دام يتلقى كل هذا العسف فلن يقول شيئاً.
  3. احتمال أن ينفعل المعتقل لسذاجته مع الارهاب ويبدل كل شيء بالخلاص من الضرب مقدماً نفسه لقمة سائغة يلوكها المحققون ورجال المخابرات وأدوات القمع الأخرى كما يشاؤون.

    والمعتقل الملتحق بالحركة الوطنية والذي اعتقل من موقع نضالي، ولم يتلق الاعداد والتربية الثورية الكافية فإنه لن يختلف عن الصدفي الذي اشترك في عمل ما بالصدفة، فقد يعترف من أول لحظة وقد تشده ارتباطاته الاجتماعية، وعلاقاته الشخصية مع زملائه، والقيم الاجتماعية الرادعة ويستمر في الصمود ولا يعترف.

    ومن المهم الاشارة إلى أن الاعتراف يقع بسبب الاستعداد الشخصي للاعتراف وليس بسبب الضرب والارهاب.وقد لا يحدث الاعتراف أيضاً بسبب الاستعداد الشخصي للصمود في حالات اعتقالات الصدفية. أما المناضلين المحترفين فإن الأمر يختلف قليلاً من ناحية وجود الاستعداد الشخصي لعدم الاعتراف مسبقاً وقبل دخول أقبية التعذيب والتحقيق والاستعداد للتضحية لا ليتحمل الآلام فحسب، بل التضحية حتى الشهادة.

    فإذا توفر هذا الاستعداد ، فإن تجاوز حاجز الخوف، حاجز الرعب يتم بخطوة واحدة. فبين الرعب والشجاعة حاجز بسيط وهش ما أن يخرقه المناضل بأصبعه حتى يقف في ساحة البطولة.

     واذا انعدم الخوف انعدم الاعتراف، وانهارت خطط المحققين، بل ان تجاوز حاجز الخوف، سيجعل من كل ضربة عصا، من كل صدمة كهربائية، من كل لسعة سيجارة، جداراً متنامياً برتفع ما بين المعتقل والمحقق، سيجعل من كل جولة تعذيب عربوناً آخر على الصمود والتحدي، ليضرب المحقق كفاً بكف باحثاً عن أسلوب آخر أو واصلاً للنتيجة المحتومة (لورتسي لدبير). 

    ان الجهل والخوف هما السببين الرئيسيين لوقوع ضحايا الاعتراف عبر هذا الأسلوب، وإن عدداً ليس يسيراً من مناضلي الحركة الوطنية الفلسطينية قد وقعوا ضحية جهلهم وخوفهم من الضرب، وكأن الضرب شيء غير مألوف، وصعب وعسير على الفهم، أو كان الضرب عملية سحرية فإذا ضرب الانسان على رجليه يتحرك لسانه، واذا ضرب على أعضائه الجنسية فإن الله ينطقه بأسرار تهم رجل التحقيق… (المهم أن أنتهي من هذا الوضع) هكذا يقول المعتقل الساذج وهو في حالة الخوف.

    غير أن المناضل الواعي بعكس كل هؤلاء، لا يسعى بنفسه إلى وقف الضرب، ولا يستجدي المحقق للكف عن التعذيب بل يشتمه، يصفه بالأوصاف التي يستحقها، ويزيده استفزازاً، وكأنه يقول له ( هيا اضرب فهذا لا يهمني) بل إنه قد يستفز المحقق في كل مرة دافعاً اياه لاستخدام الضرب والتعذيب الجسدي لأنه أبسط أشكال التحقيق وأقلها تعقيداً وأيسرها على الفهم لأن الارهاب المحاط بأشكال التعذيب لا يمكن أن يستمر على نفس الوتيرة وحجمه في اليوم الواحد محدود، غالباً ما يعاد المعتقل بعد الضرب للزنزانة فيأخذ حينها قسطاً من الراحة النفسية والجسدية بانتظار جولة أخرى لا يهم متى تأتي.

    هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن الضرب الجسدي هو زاد المحقق في جميع الأحوال وان اختلف التركيز أو الحجم، وان الجسد يستطيع تحمل الضرب ولمدة طويلة حتى دون اغماء، ما لم توجه ضربة إلى مكان معين في الجسم تؤدي للاغماء. والاغماء ليس خطيراً وهم يعالجوه عادة برش الماء على الوجه أو بعض المنبهات وربما كان الاغماء سبباً لاستراحة تالية.

    ان سلطات الاحتلال في المعتقلات تستعمل كل أساليب التعذيب الجسدي والنفسي وفي معظم الأحيان وفقاً لترتيب معين وبرمجة محددة: كأن يبدأ الضرب بالصفعات على الوجه والرأس، والقبضات المغلقة على جميع أجزاء الجسم، والضرب بعصي أو أسلاك على جميع أجزاء الجسم، والضرب على الأعضاء الجنسية، وعلى كفي القدمين وبشكل وحشي وقاسٍ يتحسسه المرء في الضربات الأولى وقبل أن تتخدر أعصابه، وكذلك الرش بالماء البارد شتاء يليه الماء الساخن والرش بالماء الساخن صيفاً، وتعليق الجسم، وأحياناً التعليق من يد واحدة وهذا نادر الحدوث وإن حدث فلبضع ثواني قليلة، والتعليق من القدمين مع الضرب، ورش الملح على الجراح (وهذا مع ما يثيره من شدة الألم له نتائج ايجابية من حيث حماية الجراح من التعفن) وكذلك الصعق بالكهرباء، ووضع المرء في غرفة مع غاز يسبب آلام في الرأس والعينين، وضع الرأس في سطل ماء بغية المضايقة، تغطية الرأس بقطعة قماش وصب الماء عليه أيضاً بغية منع الهواء والمضايقة أو تلبيسه بالكيس ذا الرائحة الكريهة مع صلبه، الكي بالنار والسجاير، ووضع البيض المسلوق الساخن جداً تحت الابطين، الوخز بالابر، ضرب الجسم بعد أن يكون قد تعرض لجولات ضرب سابقة بقضيب طري وبشكل متواصل، تكسير الأظافر، كسر اليد عمداً ( مع علمهم أن كسر اليد لا يقتل الانسان).  التجويع لمدة طويلة، الحرمان من الماء لمدة طويلة، الحرمان من الدخول لدورة المياه مدة طويلة، الصلب والتوقيف والمعتقل مربوط إلى الحائط من يديه المقيدتين إلى الخلف ومكان الربط عال عن مستوى الجسم، وابقاء المعتقل في هذا الوضع ست ساعات، عشرة وربما أيام. حرمان المعتقل من النوم أيام عدة أو من الأغطية والفراش أثناء النوم ليظل يعاني من البرد وقسوة الأرض، تعصيب العينين أيام متواصلة دون أن يرى الانسان النور. ارغام المعتقل وبالقوة للجلوس على زجاجة، أو وضع عصا في فتحة الاخراج، وضعه في أوضاع صحية قاسية لمدة من الزمن دون علاج، وضعه في ساحة واطلاق الكلاب عليه فتنهش كل أجزاء جسمه، وضع كلاب معه في الزنزانة. ضربه بعصا قوية على رأسه وشج رأسه عدة مرات، واذا كان جريحاً توسيع جراحه، واذا كان جرحه معالجاً بعملية جراحية، يزيلوا القطب ويجرحوه ثانية وربما عدة مرات كما حصل مع العديد من المناضلين الجرحى في سنوات 67-72، واذا كان جريحاً أيضاً عدم ارساله للعلاج، أو ارساله للمستشفى والتحقيق معه وتعذيبه في غرفة المستشفى كما يحصل عادة في سجن الرملة. والفتيات يتعرضن لكل أو بعض ما ذكر أعلاه كالرجال مع تخريب مظاهر جمالية لديهن. وهذا فيض من غيض. وقد يستخدم كله أو بعضه في جولات التحقيق اعتماداً على خطورة التهمة أو المناضل نفسه.

    هذه وحشية الاحتلال وكل السلطات الرجعية في كل مكان، وهذه أشكال التعذيب التي يصمد لها الأبطال المكافحين بثبات وتصميم ويفشلونها تماماً ولا يحصل العدو منهم على بنت شفة.

    ان ادراك المعتقل لغايات الارهاب والتخويف المصحوبة بأشكال وألوان التعذيب المختلفة تعتبر خطوة هامة وحاسمة على طريق الصمود، فالمحقق يهدف إلى اخضاع المعتقل، أما المناضل الذي يصمم على ضرب مثال بطولي في الصمود والتضحية، وعدم الرضوخ مطلقاً مهما كانت الأساليب، ومهما كانت درجة التعذيب، فإنه سيدرك ابعاد التهديد والارهاب ويرد على المحقق (… افعل ما تشاء… هذا لا يهمني… اضرب.. ارسلني الى السجن العسكري لا بأس… هات الكلاب… اعطني السم الذي تتحدث عنه… علق لي مشنقة هذا افضل… ان شئت ان اساعدك في الضرب واضرب رأسي في الحيط.. كل شيء لا يهم المهم أنني لا أعرف شيئاً).

    لقد تعرض العديد من المناضلين لأصناف من التعذيب تعجز عن الوصف، من شدتها وقسوتها وطول مدة وقوعها، في سجن صرفند، وفي المسكوبية، والخليل، ونابلس، وتعرض رفاق مكافحين لقساوة التعذيب لهذه الاشكال من العسف، وليس لديهم من سلاح يقي جلودهم سوى صبرهم وايمانهم، وانتصروا على جلاديهم، هذه تجارب ودروس الثوريين، هذه المواقف دفعت وتدفع الجلادين في البداية لزيادة وحشيتهم، وفي النهاية لليأس والتسليم، فلا الجلوس على المسامير، ولا الجلد بالقضبان لفترة طويلة يكفي لزعزعة صمود الابطال وتحريك ألسنتهم ما دامت هذه طبيعة الصراع. والتحقيق يخلق الأبطال والرموز الثورية.

    ولو كانت أساليب الارهاب هذه مجدية تماماً ولو كان الضرب وسيلة تعطي الثمار الحتمية لاستخدمت لوحدها دون غيرها، فهي لا تحتاج إلى كفائة عالية وتدريب خاص فبإمكان أي انسان أن يحمل العصا ويضرب، وأثناء الضرب يشتم ويصيح، ويهدد ويتفوه بأبشع الألفاظـ وبالتالي يصل إلى أفضل النتائج. غير أن الواقع يختلف، ونجاعة هذا الأسلوب ولّى زمانها ولم تعد تنفع شيئاً مع المعتقلين السياسيين الملتزمين الأقوياء في انتمائهم المستعدين للتضحية ببعض الآلام أثناء فترة التحقيق.

    ان صبر المناضل، وعدم اكتراثه، وعدم لجوئه إلى طلب الرحمة -علما أن هذا الطلب غير المجدي و فقط يشجع المحقق على الاستمرار. ولا يظهر السجين أي قلق أو تذمر، والاستمرار في الصمود سوف يجعل المحقق يدرك أنه فاشل وأن أسلوبه لا يمكن أن يعطي الثمار بل سيخشى من زيادة الهوة بينه وبين المعتقل، وبالتالي هو الذي يصل إلى حالة التردد، و يدفعه إلى التوقف في النهاية لينهي التحقيق أو يتبع أساليب أخرى يسهل افشالها، بعد أن يكون المعتقل قد تناول جرعة قوية من الصمود، فقط يظل المحقق يهدد باللجوء إلى العسف بين المناسبة والأخرى ليدرس ردود فعل المعتقل.

    سيستمر المحقق في التهديد باستعمال العنف والعسف فقد يلجأ بعد احدى الجولات الفاشلة إلى التظاهر بأنه الآن مشغول والا لما أوقف الضرب وأنه سيعود له مرة أخرى قريباً، فيقتاد المعتقل ويضعه في زنزانة قريبة للانتظار، وقبل أن يتركه يهدده بأنه سيعود قريباً وسيستمر في ضربه هذه المرة بأشد كثيراً من المرات السابقة إلى أن يشوهه أو يعترف.

     وأن الانكار هذا تياسة ولن يجلب له الا التعذيب وصور الارهاب التي شاهدها، وان هذه فقط هي البداية، والمخفي أعظم، ثم يغلق عليه الباب وينصرف. وبعد قليل يأتي بشكل تمثيلي ثم يفتح الباب ويغلقه (ظاناً أن أعصاب وحواس المعتقل ستظل مثارة وفي حالة وجل، ويكرر هذه الفعلة بضع مرات، أحياناً يدخل عنده ويلكمه على بطنه، ثم يتظاهر بأن أحداً استدعاه، ويعود مرة أخرى  وأخرى ويقول له بأن الوقت قد حان للبدء، وفي مرة أخيرة يقتاده من الزنزانة ويبدأ بلكمه وضربه واعداده مادياً للتعذيب فإذا لاحظ أي ضعف فإنه سيواصل، واذا لاحظ الثبات والصمود فسوف يلقي على مسامعه بضع كلمات فيها الوعيد والتهديد ويعيده  إلى الزنزانة.

    إن المحقق يعتقد أنه بواسطة هذه التمثيلية سوف يزعزع ثبات المناضل. أما المناضل الصابر فإنه سيستريح أثناء فترة الانتظار هذه ولن تهمه كل المسرحيات. وأحياناً يلاحظ المحقق أن المعتقل غير مكترث من هذه الأفلام فيوصي باعادته إلى الزنزانة دون أن يستدعيه وينتهي الأمر، وتنتهي جولة مهمة جداً وهي أخطر جولة في مراحل التحقيق المختلفة هذه الجولة التي قد تستمر يوما اثنين أو ثلاثة وربما أسبوع متواصل هي في الغالب الجولة الحاسمة في مراحل التحقيق وهي التي تدخل إلى نفسية المعتقل معنى جديدا للصمود، وتدخل إلى نفسية المحقق حالة اليأس ومقدمات الفشل.

    ومن الملاحظ مما ذكر أعلاه أن فترات الانتظار في زنزانة قريبة، أو تنبيه المعتقل بأنه مطلوب للتحقيق، ومن ثم تأجيل بداية الجولة معه، من الملاحظ أن هذه الفترة هامة بالنسبة للمحقق ويراهن عليها كثيراً، ويمكن أن يطيلها يوما أو يومين وربما أكثر وخاصة عندما يضع المعتقل في مكان صعب ووضع صعب، معصوب العينين مقيد اليدين والقدمين، مربوط إلى شيء ما، أو ملقى على الأرض في وضع متعب وجو رطب ومظلم، وبين كل فترة وأخرى يأتي المحقق، ويمارس شيئاً، أو تأتي مجموعة من الجند بشكل تظاهري وتأخذ في التهديد محاولة فتح الباب والدخول إلى المعتقل، وممارسة أشياء أخرى كأن يظهر شخص في الغرفة المظلمة بعد وضع المعتقل بفترة من الزمن وكأن الأرض انشقت عنه… الخ. إن هذه الترتيبات والجهود تهدف إلى خلق مناخ الرعب والخوف وزعزعة الاركان بشكل متواصل، وعلى الأقل الاستمرار في تنبيه أعصاب المعتقل وعدم اعطائه أي فرصة للراحة.” (اما أنا) يقول المعتقل (فهذا وقت الاستراحة من جانبي وسأحافظ على توازني وانسى كل شيء إلى أن يطلبوني لشيء آخر) وبالتالي تذهب كل جهودهم وترتيباتهم سدى.

     أي أن المعتقل الذي يعي الأوضاع المحيطة به سوف يعرف وببساطة حقيقة الأفلام المحبوكة حولة، ويكتشف اللعبة، اذ، كان لديه تصور مسبق عنها. ان مجرد معرفة هدف المحقق هي نصف الطريق في التحقيق. وبالتالي سيفهم اللعبة من وجهة نظر أخرى، وسيتعامل مع كل فترات الانتظار على أنها فترة راحة لاعادة الحساب وتجديد العزم والهمة دون خوف أو وجل. ولن يفسح المجال أمام المحققين وخططهم لتركيم الآثار والنتائج الحاصلة في جولات التحقيق السابقة.

    فالمحققون يسعون وفي كل جولة لاحداث أثر ما سواء نجحت جزئياً أم فشلت كلياً، فهم قد مارسوا أشكال أخرى من التحقيق، وأساليب أخرى كالتهويل، والتشكيك، وغير ذلك، وبعد جولة الضرب القاسي أو بدونها يتركون المعتقل في فترة الانتظار متيقظاً حتى تفعل آثار الجولات الأخرى فعلها مع الخوف من المستقبل المجهول فيقع المناضل في المصيدة. ان المحقق سينظر للمسألة على الوجه التالي: شرحنا له كل ما يلزم، ووضعناه نفسياً ومادياً في جو التحقيق الارهابي، وضربناه ساعتين متواصلتين، وشككناه بقيادته وبانتمائه، وتركناه يعيش على أعصابه في حالة توتر واثارة شديدتين، ولم يبق الا القليل حتى يرفع يديه ويستسلم ويعترف ويدلي بكل ما عنده.

     أي أن المحقق يربط نتائج مراحل التحقيق وأثارها الجسمانية والنفسية مع بعضها البعض، وهو يتبع نسقاً محدداً أو مفهوماً لديه، ويغير أساليب التحقيق بتوالي معين وملائم قبل أن تنكشف، ويغيره من مرحلة لأخرى حتى لا يبقى المعتقل في وضع واحد قد يساعده على الاستقرار… ومن ثم قد يلجأ إلى أشد أشكال العنف والقهر لساعة او ساعتين ثم يغير…

    أما المناضل الواعي، المرتكز على أرضية صلبة من التصميم والصلابة والصمود والتحدي فإنه سينظر للمسألة من زاوية أخرى علمية وصحيحة 100% وليست مجرد تخمينية كما يقول المحقق: (أفشلت أساليب التحقيق التي اتبعت واحداً واحداً) فهو يصبر أثناء الضرب مهما كانت قسوته، ويتعامل مع فترات الانتظار على أنها فترات راحة، فإن أعيد للضرب مرة أخرى لن تكون هذه الخطوة أكثر من تكرار لما حدث قبل بضع ساعات من الضرب والتعذيب دون تواصل حسب فهم المحقق، بل يتم التواصل والدمج بين الصمود في المراحل ويدرك ماذا يعني المحقق عندما يبسط له قضيته ويستهين بها على أنها لا تستحق كل هذه المعاناة، ويزداد صلابة… أي أنه يفسخ الروابط بين أساليب التحقيق بردود فعله الصامدة مما يفقدها أثرها التجميعي.

    ان أساليب الارهاب التي يتبعونها مع المعتقل ويوهموه بأنها ستستمر إلى يوم القيامة، ستنتهي وان التحقيق نفسه سينتهي، ولا يوجد من هم قابعون في أقبية التعذيب أبد الدهر. ان التحقيق سينتهي يوماً ومع نهايته ستنتهي أشكال التعذيب والارهاب، والمعاناة الجسدية والنفسية، ولكن هل ستنتهي معه شخصية المناضل وكرامته الثورية؟. هل سيعترف ويدلي بما لديه ليصبح في نظر المخابرات ليس أكثر من كيس نفاية بعد أن كان بطلا في المراحل السابقة؟

     وينظر لهذا الصمود في المرحلة الحالية على أنه غذاء روحي يعزز نفسه فهو يفهم أساليب التشكيك ويسخر منها، ويرى نفسه وهو مغلق شيئاً رهيباً يستحق كل هذا الاهتمام؟

    أما ما يتعلق بشدة الضرب والتعذيب فإنها ستستمر كلما لاحظ المحققون أنها ستعطي ثمارها، وكلما اعتقد المحقق أن مزيداً من الضرب يعني مزيداً من الانهيار والاعتراف. أما المناضل فسيظل يقول (سأصبر ساعة أخرى، وأخرى إلى أن يكفوا) وهم بالفعل سيكفوا لدى ملاحظتهم عدم الاكتراث للارهاب والتعذيب.

    وفي حالات ونماذج عديدة وعندما يكون المناضل تحت التعذيب القاسي فإنه يتصور ويتذكر أهله ورفاقه ويتمنى أن يعرفوا أنه وهو في أشد الحالات يتذكرهم وأنه لن يبوح بأي شيء يمسهم من قريب أو بعيد، وأنه سيظل المناضل الذي عرفوه يساهم في بناء التجربة الثورية ويشارك في رعايتها، وفي التحقيق يصونها، يحميها بكل ما لديه من عزم وتصميم ولا أهمية لما يحدث لجسده وما يعانيه من آلام.

    ومع استمراره في الصمود يفتش المحققون عن أساليب أخرى أقل بطشاً جسدياً وأكثر أهمية نفسية.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.