أعلنت منظمة الصحة العالمية، في بداية شهر آذار/مارس 2020، ان الفيروس التاجي (كورونا) أصبح “جائحة”، أطلقت عليها “كوفيد 19″، وأدّى ذلك إلى إغلاق الحدود، ومعظم قطاعات الاقتصاد والحياة الاجتماعية، وحَبْس مواطني معظم بلدان العالم، في بيوتهم (إن كانت لهم بيوت)، ضمن حالة الطوارئ الصحية، كثيرة الشّبه بالأحكام العرفية، التي تُقرها الجيوش إثر الإنقلاب على الحُكْم المَدَني، فوقع تجريد المواطنين من حقوقهم وحرياتهم الأساسية، ولكن هذه القرارات الحكومية الفَوْقِية، وإغلاق المصانع والطرقات والمحلات، قد تؤدّي إلى كوارث، بسبب العدد المرتفع من مواطني العالم الذين فقدوا عَمَلَهم، ومن يعملون بالمياومة (عمال باليوم) والمُعَطّلين “غير المُعترف بهم”، والفقراء الذين فقدوا كل إمكانية للبحث عن القُوت، وتتخوف منظمة الأغذية العالمية من ارتفاع عدد الوفيات بسبب الجوع إلى أرقام فلكية، بحلول نهاية عام 2020، كما تسبب فَرْضُ الحَبْس المنزلي، وحظر التجمعات وتقييد السفر وإغلاق المدارس وإغلاق العديد من القطاعات الاقتصادية، وتعليق بعض الخدمات الرعاية الصحية في مشاكل أخرى للعديد من الفقراء والمَرْضَى (أمراض القلب والأورام وما إلى ذلك) ومشاكل أخرى، منها ارتفاع نسبة البطالة والفقر وانعدام الأمن الغذائي والبؤس لمئات الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم، ففي الولايات المتحدة، أكبر اقتصاد عالمي، ارتفع معدل البطالة الحقيقي من 22,9% بنهاية شهر آذار/مارس إلى حوالي 41% بنهاية شهر نيسان/أبريل 2020، وفقًا لموقع “إيكونوميك كولابس”، ويتوقع بنك الاحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي الأمريكي) ارتفاع نسبة البطالة إلى حوالي 50% بحلول نهاية العام 2020، وتم تسجيل 27 مليون مُعَطّل عن العمل، فيما لم يتم تسجيل واحتساب ملايين العاطلين الآخرين، وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز (1 أيار/مايو 2020)، وتتوقع الصحيفة أن يعود ملايين الأشخاص الذين انتشلوا من براثن الفقر، منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، إلى وضع أكثر بؤسًا من السابق…
في مجال الحقوق المَدَنية والحُريات الفردية والجَمْعية (الجماعية)، نَسَفَ إعلان حالة الطوارئ، هذه المكاسب، ونَقل العالم إلى مجتمع خالٍ من الحريات المدنية، حيث حَظْرُ التجمع، بل مجرد الخُرُوج من البيوت، ليتابع المواطنون في العالم برامج الإعلام الرديء، الذي تمتلكه، والتي تستغل هذه الفُرصة لغسْل الأدمغة، وبث الرعب، والحث على طاعة الحُكّام، وأدى قرارات الحَجْر الصّحي والحبس المنزلي إلى تكثيف الرقابة البوليسية والتجسس على ملايين المواطنين، عبر تحديد الموقع الجغرافي، واستخدام الطائرات بدون طيار، ومحاولة فرض التلقيح إلزامي، وغيرها من الإجراءات التي لا تُحاول السلطات إقناع الناس بضرورتها، بل تعمل على فَرْضِها، كأمْرٍ “مُنَزّل من عزيزٍ حكيم”، وهي إجراءات “استثنائية”، تتعارض مع مبادئ المجتمع الحر والديمقراطي، ولكنها، أصبحت “مقبولة” لدى الرأي العام، بفضل تلاعب الإعلام بعقول الناس، “من أجل المصلحة العامة” أو باسم “الحفاظ على صحة الجميع”. لكن هذه الإجراءات لن تكون مؤقتة، كما يَظُنُّ العديد من المواطنين، بل يُبيّن لنا تاريخ الدول والشعوب، أن الإجراءات “المُؤقتة” و “الإستثنائية” تُصبح دائمة، فقد أصبح قانون “باتريوت أكت” الذي وقع إقراره في الولايات المتحدة، عقب الهجمات على مركز التجارة العالمي في أيلول/سبتمبر 2001، وكذلك قوانين الطوارئ في فرنسا، بعد هجمات 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، أصبحت فُصولاً ومواد في القانون العادي لهذين البلدين…
استغلت السلطات (خصوصًا في الدول الرأسمالية المتطورة) هذه الأزمة الصّحّية، والتي أدت إلى انهيار الاقتصاد، لإضافة لبنات جديدة، من أجل بناء مجتمع خاضع للسيطرة، بدعم من السُّمُوم والتجهيل، والدعاية التي تَبُثُّها وسائل الإعلام ليتلقاه المَحْبُوسُون، المُعتقَلُون في بيوتهم، بهدف جعل الناس منصاعين، في هذه الظّروف التي اعتبرها بعض الحُكّام “حالة حرب”، ضد “عدو” غير مرئي، بعدما انخفض الإنفاق على الرعاية الصحية، في القطاع العام، في معظم بلدان العالم، فالمرض والأوبئة تُحارَبُ بميزانية وبمنظومة صحية لائقة، بينما نحن أمام أعداء حقيقيين، هم من يستغلون الأزمات ويمتصّون دماء العاملين، ويضطهدون الشعوب الواقعة تحت الهيمنة، ووجب الاستعداد لأزمة اقتصادية طويلة، ومحاربة المتسببين بها، لأن هذه الأزمة بدأت قبل الإعلان عن انتشار الوباء “كوفيد 19″، حيث بدأ الحديث عن الركود أو الكساد، الذي كان يلوح في الأفق، منذ بداية سنة 2020، وكانت معدلات البطالة والفقر مرتفعة، وسوف تزيد هذه المعدّلات بالتّأكيد، بسبب الصعوبات في عدد من القطاعات الإقتصادية، وإفلاس العديد من الشركات، وارتفاع الدّيْن العام، والإنفاق العسكري وما إلى ذلك، فيما تُحاول الولايات المتحدة استغلال هذه الفرصة الذهبية لفرض النيوليبرالية، وعسكرة السلطة السياسية والمجتمع، بعد نَشْر الخوف لدى غالبية مواطني العالم، أما في صف الشعوب، فإن هذا الوباء سوف يُتَرْجَمُ إلى ذريعةٍ لِفَرْضِ مزيد من البطالة والفقر، وانعدام الأمن الغذائي، والبؤس على مئات الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم، خصوصًا بعد الصعوبات التي تُعاني منها مئات الآلاف من الشركات الصغيرة والشركات المتوسطة، بالإضافة إلى عدد قليل من الشركات الكبيرة، وقد تُغلق الكثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة، نهائيًّا، مع إلغاء ملايين الوظائف، لينضاف الملايين من الناس إلى المُعَطّلين، ولا يحصل العاملون في البلدان الفقيرة على إعانات البطالة، لكنهم مُضْطَرّون لتسديد إيجار المسكن، وثمن الغذاء والرعاية الصحية وغير ذلك من المصاريف، وكانت منظمة العمل الدولية قد أشارت إلى ارتفاع البطالة إلى مستويات غير مسبوقة ، وأن ما يقرب من نصف القوى العاملة العالمية، أو حوالي 1,6 مليار شخص مُعَطَّلون أو مُعرَّضُون للبطالة، بدون أي دَخْل، من إجمالي 3,3 مليارات عامل وعاملة…
أما منظمة الأغذية والزراعة، فقد أفادت أن حوالي 9 ملايين شخص يموتون من الجوع، سنويا، في جميع أنحاء العالم، وحَذَر تقرير المنظمة المنشور بتاريخ 25 نيسان/ابريل 2020، من احتمال أن تتسبب جائحة “كوفيد 19” في “مجاعات واسعة النطاق”، قد يتضرر منها مئات الملايين من الناس، كما تهدد المجاعة، المرتبطة بوباء الفيروس التاجي، نحو 30 دولة، وأفاد “التقرير العالمي عن الأزمات الغذائية 2020″، الذي نشره برنامج الغذاء العالمي (الأمم المتحدة) في 20 نيسان/أبريل 2020، أن نحو 135 مليون شخص في العالم كانوا مهددين بالفعل بالمجاعة، قبل انتشار “كوفييد 19″، ويمكن أن يُضيف لهم الوباء 130 مليون شخص آخر، بحلول نهاية عام 2020″، ما يرفع العدد الإجمالي للفُقراء الجُدُد، إلى 265 مليون شخص ، دون احتساب اللاجئين وضحايا الحروب التي أثارتها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، لمواصلة تضخيم أرباح المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، أداة الهيمنة الأمريكية في العالم.
لم يكن قرار تعميم الرقابة المُكثفة والتحكم في حياة المواطنين، وتتبع حركاتهم وسكناتهم، موضوع نقاش عام، بل كان قَرارًا فَوْقِيًّا، إذ استغلت الحكومات الفرصة التي وفرها وباء “كوفيد 19″، لفرض “الاقتصاد الرقمي”، والعمل عن بُعد، والتّعلّم عن بعد أيضًا (ما يُوَسِّعُ الفوارق، بين المُتعلّمين)، والتجسس على سكان العالم، من خلال تطبيقات مختلفة (الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر)، ومن خلال “تحديد الموقع الجغرافي”، وجمع البيانات الشخصية، والتتبع، ويمكن استخدام المعلومات والبيانات الشخصية، من قبل أصحاب العمل وشركات التأمين والشرطة والمحاكم ، إلخ.
إن مجمل هذه العوامل والمعطيات تفرض علينا طرح الأسئلة عن الغاية من تعميم الرقابة ومن فَرْض الرأي الواحد، وإلغاء النقاش، وتفرض على كل منا الشك “كطريق إلى اليقين”، كما كتب جَدُّنا أبو عمْرو بن بَحْر الجاحظ، ومن حقنا أيضًا إعلان العصيان، إذا لم نقتنع بوجاهة قرارات الحاكمين، لأن هذه “الأسلحة” (السّلْمِية و”المُهَذَّبَة”)، في متناول المواطن، على أن يتخلّص من هيمنة الإعلام الذي يُرَوِّجُ الإيديولوجيا السّائدة. إن المقاومة السياسية ذات التوجهات التحررية ضرورية لتجنب العبودية الطوعية للديكتاتورية، فالمقاومة واجب مدني وشرط لسلامة الذّهن وشرط للبقاء على قَيْد الحياة…
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.