“كنعان” تتابع نشر كتاب “فلسفة المواجهة وراء القضبان”، تأليف: محمود فنون، الحلقة (11)

  • تبسيط القضية:

    قبل كل شيء لا بد من الاشارة الى أن هذا الأسلوب لا يمكن أن يكون ذا جدوى بأي حال من الأحوال رغم كل التركيز والمهارة في استعماله، الا مع من هم على استعداد للاعتراف، أو البسطاء الجهلة بالتحقيق وأساليب التحقيق، الذين يسهل خداعهم، وتضليلهم، فهو ليس من مصيدة حظ ، ان جاز الكلام كان به والا لا حول ولا.

    علماً بأنه يمكن استخدام هذا الأسلوب في بداية التحقيق أو مع التشكيك والارهاب، أو بعد جولة قاسية فاشلة من الارهاب والتعذيب. ان امكانية استخدام هذا الأسلوب تظل معقولة مع جميع المعتقلين وأصنافهم وفي أي مرحلة من مراحل التحقيق بعد جو من التهيئة ، أو استغلالاً لجو قائم.

    والتبسيط هو تقليل حجم القضية التي يجري التحقيق حولها، أو تبسيط خطورتها على الأمن أو خطورة نتائج الاعتراف بها على المناضل، أو في حالات أخرى تبسيط وتقليل حجم الاعتراف المقدم من قبل المعتقل بالقياس لما هو مطلوب منه.

    وحتى ينجح هذا الأسلوب لا بد من خداع المعتقل ،حيث يشرح المحقق ما معناه: قضيتك بسيطة ولا تستحق كل هذا التعذيب، ولو كنت مكانك لما كنت عنيد مثلك، كلها كلمتين (وخلصنا)، وأساساً حرام أن تكون أنت في التحقيق لهذه المدة وتدخل السجن بقضية كهذه (والله ما انا عارف لماذا حبسوك بقضية من هذا النوع) احسن اعترف حتى نبحث لك عن حل،  لو أنك اعترفت أمس لكنت اليوم في البيت… ونحن من جانبنا لا نستطيع تقديمك لمحاكمة ونحكمك على قضية بسيطة كهذه أو أن قضيتك بسيطة وكلها ست شهور وتذهب للبيت وأنا سأساعدك وهذا أفضل من أن تخسر يداً أو رجلاً طول حياتك، أو تنخلع عينك أو تعجز جنسياً وتصبح مثل (المرأة). لم العناد.. نحن نعرف أنك لم تفعل شيئاً يمس بأمن الدولة. (وبفرض أن لدى المحقق بعض المعلومات) أنت فعلت كذا وكذا وهذه بسيطة، وفلان قال لك اعمل كذا وانت رفضت ليس في ذلك شيئاً…هذه مسألة بسيطة ولا أريد أن أقدم فيها تقريرا للمسؤولين أو هذه مسألة بسيطة وأنا نفسي الذي سأقدم التقرير وسأكتبه لصالحك واذا لم تتعبني سأساعدك،

     ويقول أيضاً ليس لدي وقت لقضية كهذه وأريد أن أذهب إلى البيت اذا تكلمت وساعدتني ولم تعطل ذهابي لبيتي وأولادي فإنني سأقف إلى جانبك… و

    أيضاً… انت عامل نفسك صامد… انت غلطان فلان مسؤول المجموعة اعترف، وضع كل ما لديه على الطاولة، وافرجنا عنه وماذا سنفعل بك انت أو ان قضية فلان المسؤول لا تستحق أكثر من خمسة أشهر سجن، فكم شهراً ستقضي أنت؟… اننا سنبقيك خمسة أشهر في الزنزانة اما اذا اعترفت فاما أن تعيش مع المساجين ثلاثة أشهر أو ربما نفرج عنك فوراً… ونريحك من العصا والتعذيب والسجن… نحن نعرف عنك كل شيء، والمعلومات وصلتنا من القيادة من الشام قبل ثلاثة شهور، ولو لاحظنا خطورة لاعتقلناك من قبل لكن مسألتك بسيطة… (واذا كان استخدام هذا الأسلوب بعد جولة قاسية من التعذيب والتهديد بتكرارها يلجأ المحقق إلى تبسيط القضية إلى أدنى حد ممكن، وتهويل التعذيب إلى أقصى حد ممكن بحيث أن قضية كهذه لا تستحق كل هذا التعذيب، وان التعذيب القاسي ينتظر الجميع وحتى ولو كانت قضاياهم بسيطة الا اذا اعترفوا.. وحتى تبسط القضية في جو من التشكيك لدرجة أنها لعبة مدبرة من السابق وليس فيها أي شيء أمني وأن مجرد الاعتراف وهو الحل الأمثل يعني نهاية المعاناة والسجن !!

    ان استمرار التركيز بهذه العبارات أو بعضها أو مثلها إنما يهدف إلى حشر المناضل في الزاوية، زاوية مريحة له ظاهرياً (فمسألته بسيطة!!) وحصر تفكيره وخياراته بين أن يقول شيئاً قليلاً ولا أهمية له وبين أن يظل في أقبية التعذيب أبد الدهر. بين أن يقول يعضا مما عنده لهم ويرتاح، وبين أن يقضي في التعذيب، أو يمضي مدة طويلة في الزنازين ومسؤوله في الخارج بعيد عن الخطر.

    وبمعنى آخر يهدف التركيز بهذا الأسلوب لزعزعة تصميم المناضل وثباته، ودفعه لربط نتائج جولات التحقيق كلها معاً بحيث تبدو في نظرة مرعبة ومؤثرة يخشى استمرارها ويفضل الاعتراف لهؤلاء الناس اللطفاء الحكماء الذين يحبون مصلحته، ولولا أنهم يحبون مصلحته لما نسفوا بيته واعتقلوه وعذبوه!.

    وحتى يحققوا نتيجة خلق الترابط بين نتائج جولات التحقيق السابقة فقد يلجأ المحقق إلى ضرب المعتقل، وتشكيكه محاولاً التأثير عليه نفسياً بهذين الأسلوبين مثلاً، وحينما يعتقد المحقق أن المعتقل أصابه بعض التأثير ولكنه يخشى الاعتراف خشيته من التعذيب، فإنه من الممكن أن يلجأ للتأثير عليه وعلى نفسيته بطريقة أخرى تهدف إلى تشجيع المعتقل على الادلاء بأشياء بسيطة كي يستخدمها المحقق كنقطة انطلاق جديدة لجولات لاحقة… بعد أن يزيل الخوف من القضية وحجمها وخطورتها عندما يعتقد أن المعتقل لا يريد الاعتراف خوفاً من النتائج.

    ان التبسيط على هذه الصورة وضمن هذه الاجراءات يهدف إلى دفع المعتقل للتفكير في ذاته والتفكير بعقلية تجارية على طريقة المكسب والخسارة والموازنة : (ما الأفضل أأبقى تحت أشكال التعذيب القاسية أم أقول شيئاً بسيطاً وأستريح) ومجرد أن يلاحظ المحقق أن المعتقل يتفكر في الأمر ينهال عليه بحملة التشكيك والتبسيط وحركات ارهابية وبهلوانية (بيع، خلص، انكشفت… كلها بسيطة… لماذا هذه التياسة… بيع أحسن لك… حط على الطاولة والباقي عليّ… اليوم هذا تروح لامك…  الليلة هذه تنام عند أولادك.. لماذا تظل في التعذيب…. بيع وارتاح.. كلها كلمتين وينتهي التحقيق… كلها بسيطة…) ويستمر المحقق في ايهام المعتقل ويستخدم بعض الحركات فيجلس على الطاولة، وينزل عنها بشكل مفاجئ ويقف وراء المعتقل، ويصيح، محقق آخر يمسك يده ويترجاه أن ينتظر، (لماذا الضرب، اتركه لي.. سيقول كل شيء) يذهب الآخر ويحمل عصا ويضرب بها الأرض، يزيح كرسي بعصبية… يحضر سلاسل وقيود… يطفئ النور، وآخر يشعله). وعبر كل هذه الحركات يستمر التركيز وبشكل واضح على أن القضية بسيطة، وأن المعتقل بنفسه غير مهم وقضيته معروفة وحجمها معروف ولا تستحق كل هذه الغلبة.

    وعبر حملة كهذه، عبرة تمثيلية كهذه قد ينهار البعض؟!! قد يقع واحد في الفخ، أو تزل قدمه! فالناس أجناس! أو لأن المحقق يقول بأنها بسيطة فلماذا الصمود إذن؟!

    قد يقول المحقق عن أي قضية بأنها بسيطة، قد يتهم المعتقل بأعمال مسلحة، ثم يوجد لها تبرير من عنده ويطرحها على أنها بسيطة، قد يكون لدى المحقق اتهامات عديدة، يغفلها كلها ويتناول واحدة منها ويستمر في الايحاء بأنها بسيطة وليست مهمة، قد يتناول حدثاً واحداً كالاتصال بالمنظمات ويظهره على أنه أمر عادي وعابر وغير مهم ويطالب المعتقل باقراره لتكون البداية – متى اتصلت، كيف، من طلب منك الاتصال، من أعطاك العنوان، وماذا جرى في الاتصال ثم ماذا استتبع ذلك وهذه مقدمة ناحجة جداً وتكفى لاستمرار التحقيق مدة أطول، وتكفي لتقوية اندفاع المحققين ورفع معنوياتهم.

    قد يقول المحقق عن أية قضية بأنها بسيطة ويتابع الفلم مضيفاً إليه ومطوراً مع أيّ معتقل.

     ولكن كيف يفهم المناضل العارف بالمحققين وأساليبهم هذه الجولة؟ سوف لن يعير هذه الألاعيب أية اهتمام وحتى لن يتابع حركات المحققين، وماذا يهمه أن يقول المحقق عن قضيته أنها بسيطة، وقليلة الحجم، وأنه هو بنفسه لا أهمية له، وهل لهذا الطرح علاقة بصمود المعتقل الثوري المؤمن بعدالة قضيته؟

    ان المحقق يلجأ لهذا الأسلوب معتقداً بنجاعته، ولا يهمه أن يستمر في استخدامه بضع ساعات وربما بضع أيام، وربما يكرره مرة أو مرتين فهذا أحد أساليب التحقيق، ويرتجي منه أن يعطي نتيجة مباشرة أو غير مباشرة، والمعتقل الذي يستطيع ببساطة المحافظة على هدوئه في الرد على هذا الأسلوب يكفي أن يظل ساكتاً عن قصد، حتى يتفرج على المحقق، يلف ويدور، يصعد على الطاولة وينزل، ويمارس لعبته بنهم وحماس معتقداً أن بضع حركات أخرى كافية لسحق صمود المناضل، أو بضع كلمات أخرى كافية لخلق جو من التفاهم والانسجام حول الهدف أو على الأقل خلق البداية للتفاهم المشترك، وبينه وبين نفسه يتفرج على الممثل المنهمك ساخراً منه ومن حركاته البهلوانية ساخراً منه بصموده العنيد حتى يعتقد المحقق في النهاية أن الأمر مستحيل، وأن اللعبة انكشفت، وربما ومن خلال استمرار الصمود الهادئ يدفع المحقق للشك في نفسه وفي أساليبه، أو التردد في الحكم على الواقعة وهل المعتقل يصمد؟ أم ليس لديه شيء؟ ومن ثم يسعى لامتحان نفسه ونتائجه بل لمعرفة أي الاحتمالين الأصح ومحاولة التأكد حتى يكتب تقريره بالنتيجة التي وصل إليها لرؤسائه.

    ان هذ الأسلوب ليس سخيفاً بمعنى الكلمة، فهو لا يستخدم في الفراغ، والتحقيق ليس مجرد تمثيليات من حول المعتقل. ان التحقيق ممارسات و خدعاً وألاعيب يعول عليها المحقق علها تعطي نتيجة، واذا كان من السهل افشال هذه الالعاب فإنه يجب أيضاً افشال أسلوب الارهاب وان اختلفت الحالتين، وطريقتي الافشال: فاذا كان افشال الارهاب يعتمد على تحمل الألم وتجاوز حاجز الخوف، واذا كان المناضل يتعرض خلال نهج الارهاب الى كل صنوف الضرب والتبشيع ويصمد، واذا كان كسر اليد وشج الرأس لا يبرر الادلاء بأي معلومات، فكيف تكون تمثيلية مدبرة ومعروفة سلفاً قادرة على تشتيت تماسك أفكار المناضل ونفسيته وسحق صموده؟

    ان المناضل يستطيع حتى منع المحقق من الاستمرار في هذا الأسلوب ببضع كلمات، ويرد عليه وعلى أفلامه (القضية بسيطة أو غير بسيطة ليس عندي ما أقوله وأفعل ما شئت)، (ليس المهم أن القضية بسيطة أو غير بسيطة المهم أنه لا توجد لي قضية) وأية حركات وردود حتى يدرك المحقق فشل الأسلوب.

    أما اذا وقع البعير فستنكسر ساقه… اذا فكر باعطاء شيء بسيط يتناسب مع جو التبسيط المحيط فسينهال عليه المحقق من جديد –( قلنا لك من زمان نحن نعرف كل شيء، وكنت تصر أنك بريء… ضع كل ما عندك على الطاولة والا الموت).. حيث سيزداد الأمر صعوبة ولا يتم الانسحاب من الموقف والعودة للانكار الا بعد ثمن آخر من التضحية، ولكن اذا ثبت المعتقل العودة الى الانكار مرة أخرى فستكون صفعة قوية للمحقق وأساليب التحقيق ومراحل التحقيق.

    كغيره من الأساليب ومتوحداً معها يواجهه المعتقلون المحترفون بصبرهم وصلابتهم وتماسكهم وينتهون من مرحلة أخرى في التحقيق على طريق الانتصار. فهم يدركون ان نعومة المحقق أحياناً ما هي الا حيلة للحصول على الثمن، عدد آخر من الرفاق، وكمية من الأسرار، أي ضربة قوية للحزب والثورة. فيستبدلون ذلك بتضحية من لحمهم ودمهم ليعززوا حزبهم وثورتهم.
  • أسلوب التهويل والتضخيم:

    بخلاف أسلوب التبسيط الذي يهدف الى الايقاع بالمعتقل من خلال ايهامه ببساطة قضيته، أو بالحجم القليل لاعترافاته، أو حتى بالاستخفاف بحجمه النضالي فإن أسلوب تهويل قضية وتضخيمها، وتهويل حجم المعلومات المعروفة عنه، ودرجة خطورته الكبيرة إنما يهدف إلى محاصرة المعتقل، وتصوير وضعه بأنه وقع في الفخ ولا خلاص منه.

    ان أسلوب التهويل هو ممارسة تهدف إلى المساس بنفسية المعتقل وبلبلة وضعه في التحقيق كمقدمة للاجهاز عليه.هذا الأسلوب الذي قد يبدأ به المحقق مع بعض النوعيات من المعتقلين، ولكن في الغالب يأتي في سياق مراحل التحقيق وبعد درجة من التهيأة بحيث يعتقد المحقق أنه وضع المناضل في المناخ المطلوب والذي يمكنه من خلاله مهاجمته ببعض الحيل والخدع والمظاهر، وربما بعض الحقائق لاسقاطه وانتزاع الاعترافات منه.

    ان المحقق يتعامل مع كيان محدد أمامه ومفهوم لدرجة معينة، محدداً ومفهوماً وفقاً لمعلومات  وتقديرات وفرضيات يصوغها المحقق عن شخصيته ونوعية ودرجة صلابته ومعرفة ما يمكن أن تكون نقاط ضعفه ونقاط قوته، ثم يبدأ تجاربه مع هذا الكيان المحدد افتراضياً، وخلال فرضيات جديدة أو تعديل فرضيات سابقة، أي أنه يحاول استجلاء الغموض الذي أمامه.

    أن الافتراضات التي يعتمد عليها في صياغة شخصية المعتقل وتحديدها لا تلغي بحال من الأحوال حالة الغموض العامة التي ينطلق منها المحقق في تكوين الصورة الافتراضية عن المعتقل. وهنا يمكننا القول أن المحقق يخوض مع نفسه معركة معرفة ، أهم شروطها المعرفة الأولية لخصمه، ومعرفة صحة افتراضاته عنه وعن تكوينه الشخصي والنضالي ودرجة اعداده وفهمه وعقائديته وصلابته وصموده، وقد لا ينجح المحقق مطلقاً في استجلاء الصورة ومعرفة ما خلفها حتى ولو حصل على بعض الادانات أو بعض المعلومات.

     فيظل المعتقل سراً مغلقاً في الحقيقة، ومكشوف بصورة مغلوطة. وقد يظل المعتقل سراً مغلقاً في الحقيقة ومكشوف خطأ بصورة افتراضية بحيث أن المحقق يتعامل مع الصورة الافتراضية التي لا تتطابق مع الصورة الواقعية. والمهم في الأمر أن المحقق يستخدم أساليبه، ويضع خططه بناء على الصورة الافتراضية التي تقترب قليلاً أو كثيراً، أو تبتعد كثيراً أو قليلاً عن صورة شخصية المعتقل الحقيقية، علماً بأن شخصية المعتقل في التحقيق وعبر مراحله المختلفة، والأساليب المتبعة قد لا تظل  ثابتة وذلك بسبب تغير العامل النفساني والصحي الجسدي. وهذه التغيرات قد تمس شخصية المعتقل وثباته كلياً أو جزئياً، بحجم مؤثر لصالح المعتقل أو قليل الأثر بقدر عزيمة واستعدادات المعتقل نفسه.

     وفي مرحلة افتراضية معينة من أحوال وشخصية المعتقل يلجأ المحقق لاستخدام هذا الأسلوب أو ذاك بقدر مطابقته للوضع النفسي والجسدي في هذه المرحلة وقد يكون المحقق مصيباً وقد يكون مخطئاً 100%.

    وما يتعلق باستخدام أسلوب التهويل: فإن المحقق يستند غالباً إلى نتائج وتوالي اتباع الأساليب الأخرى، وما يفترض أن تكون قد سببته من أثر تجميعي على نفسية المناضل وصموده وتكوينه النفسي وعلى ارتباطاته الاجتماعية والسياسية والايديولوجية وذلك حتى يكون لعبارات التضخيم والتهويل والارهاب مفعولاً يعطي ثماراً.

    فعندما يأخذ المحقق في تصوير القضية على أنها خطيرة جداً، وأن المعتقل نفسه من أخطر الناس الذين تم اعتقالهم، وأنه يواجه مصيراً شديد القساوة، وأن كل التعذيب الذي لاقاه ما هو الا نقطة من بحر، وأن المحققين يعرفون عنه كل شيء وأشياء كثيرة جداً جداً، وأنهم كانوا بانتظاره مدة طويلة كان يخضع خلالها للمراقبة اليومية، وأن مئات التقارير كتبت عنه، وأن هذه الملفات الموضوعة على الطاولة كلها عنه وعن كل نشاطاته بل عن كل تصرف من تصرفاته في البيت والشارع ومع الأصدقاء والأصحاب والرفاق وحتى كل ما فكر به.

     وأن عملائهم  راقبوا كل خطوة من خطواته، وأن معتقلين عديدين سبقوه قد أدلوا عنه بكل ما عندهم من معلومات كلها رهيبة وكبيرة، وحتى تقارير قيادته الكثيرة أشارت إلى درجة خطورته، وبالتالي فإن أشكال عديدة من التعذيب تنتظره.

    بفرض أن المعتقل وأثناء التحقيق معه قد أدلى ببعض المعلومات وكتب افادة، والمحققون يريدون التأكد من الوضعية التي يتعاملون معها ويريدون اللجوء إلى أسلوب التضخيم هذا: فإنهم سيهاجموه من نفس الزاوية بأن يهمشوا كل المعلومات التي قدمها، وأنها لا تساوي 5% من ما عنده، وأنهم فقط أرادوا تثبيت ادانته عندما رضوا بافادته الماضية، (أما التحقيق الحقيقي فيبدأ من هنا) وان (عليك أن تضع كل ما عندك) والا والا، (وفقط ما حصل هو البداية).

    وقد يستفيد المحقق  من هذا الأسلوب بأن يضع المعتقل المعترف في موقف يسعى فيه للخلاص من التحقيق عن طريق الادلاء بمعلومات جديدة وزيادة خطورة الادانة وخطورة الاعتراف ويعتقد أيضاً بأنه مهما أدلى بمعلومات فلن تكفي نهم المحققين ويزداد وضعه سوءاً وقد يختلق أشياء كثيرة أو يتبرع بأشياء لم يسألوه عنها فيزداد انهياره وتزداد شراهتهم وصلافتهم ووحشيتهم وعنفهم لابتزاز المزيد إلى أن يبلغ المعتقل درجة لا يستطيع أن يقدم فيها شيئاً، وتتمزق شخصيته أمام جلاديه ويصبح شيئاً فارغاً لا قيمة له.

    وفي الحالتين المذكورتين أعلاه: حالة اتباع أسلوب التضخيم قبل الادلاء باعترافات، أو بعد الاعتراف سواء الجزئي أو الكلي فإن استخدام هذا الأسلوب لن ينفع دون أن تكون نفسية المعتقل مهيأة لقبوله والانسجام معه، فكيف يصدق المعتقل أن قيادته قدمت عنه تقارير كثيرة، قبل أن يخامره الشك في سلامة هذه القيادة، وكيف يصدق أن الأضابير الضخمة الموضوعة على الطاولة هي تقارير ومعلومات عنه اذا لم يصدق بأنه كان مراقباً ليلاً ونهاراً وأن المخابرات والمباحث كانت مشغولة به ليلاً ونهاراً وأنه بالتالي خطير (ربما وهو لا يعلم!!) بمعنى آخر فإن أي خطوة للأمام يحققها المحقق في صراعه مع المعتقل عبر هذا الأسلوب مرهونة بقدر الخطوات التي حققها عبر الأساليب الأخرى السابقة، وفكرة المحقق عن حالة المعتقل قبل اللجوء لهذا الأسلوب.

    واذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الموقف في التحقيق هو مسؤولية المناضل بالتحديد لحماية كل ما يمكن أن يتعرض للخطر والاضرار بسببه، واذا ما افترضنا أن المناضل يدرك ذلك، فإن لجوء المحقق لأسلوب التضخيم لن يكون في صالحه، لأن المناضل ستتعمق لديه احساساته بالمسؤولية أكثر فأكثر مما يزيده صلابة وصموداً، أي أن هذا الأسلوب أو غيره من الأساليب يحوي في طياته ما يفشله، ويعطي نتائج مناقضة لرغبة المحقق وأهدافه.

    ما الذي يمارسه المحقق لانجاح هذا الأسلوب؟

    جملة الألاعيب والحيل والخدع مقرونة بما يتطلبه الوضع من ارهاب، أو اقناع، أو نصائح، فقد يلجأ المحقق وبعد حملة  مقدمات للخروج من قبو التعذيب ليعود حاملاً رزمة كبيرة من الأوراق ضخامتها واضحة ويضعها على الطاولة بشكل تمثيلي ويقول للمتهم (هنا في هذه التقارير القليل من المعلومات عنك).. يفتحها… ويأخذ في تقليب الصفحات متظاهراً بأنه يدرسها ويتذكر… وفجأة… (أنت قبل أسبوع كنت في نابلس والتقيت مع..؟ لا أريد أن أقول لك الآن. وانت وفلان أصدقاء جداً جداً جداً.. هل تتذكر يوم ذهبت رحلة إلى الجولان؟.. مع من تحدثت يا بطل؟.. ثم يفتح اضبارة أخرى… وبشكل جاد يسأل.. جلس معك شخص من هو؟.. والشخص الذي عرض عليك التنظيم كنت معه في… في أي مكان؟! قل أحسن لك… ترددت في الأول… ولكن… لا. لن أكمل.

     وقد يعرض المحقق بعض الحقائق من الحياة اليومية ثم فجأة يطوي الأوراق ويسأل بعصبية… دعني من كل هذا الآن، احكي لي عن الأسلحة هذا ما يهمني الآن. الجرافات جاهزة لنسف البيت وليس لديك الا قليل من الوقت، نصف ساعة اما أن تقول واما أن تبدأ الجرافات.. الأسلحة ليست في البيت ولن ننسفه اذا سلمتها والحق عليك.. الكرة في ملعبك… الأمر مناط بك… البيت أم الأسلحة… لا تتردد..)

    وينساق الانسان الساذج وراء تتالي المعلومات، ومفاجآت الأسئلة والروايات العادية، ويتفاعل معها،وقد يعتقد أن المحقق علام الغيوب، وأن كل الناس متآمرة عليه وأنه في الدنيا وحيداً مقطوع الجذور وضعيفاً أمام كل هذا الجبروت… (صحيح، فلان جلس معي… وترددت فعلاً عندما عرض علي التنظيم.. وربما لا يكون قد تردد ولكنه يفترض ذلك انسياقاً ولكنه لسذاجته اعتبر أن كله واحد) صحيح، نحن جلسنا في المطعم وشربنا شاي (انهم يعرفون كل شيء)، كيف عرف أن فلان هو الذي دفع الحساب ولماذا لم يقل اسمه؟ والمصيبة الكبيرة كيف عرف عن الأسلحة ولماذا سألني عنها اليوم ولم يسألني الأمس لقد كان يخدعني واذا لم أعترف فسيحطمني من التعذيب… والبيت… لا ان الأسلحة ليس في البيت كما ذكر…. هل أتركه ينسف البيت… ألا يكفي أنني في السجن وأيضاً يضيع البيت.

     هذه نماذج من التفاعلات النفسية التي يفسح لها المحقق المجال قليلاً، وقبل أن تتماسك الشخصية وعندما يفترض المحقق أن المناضل في أوج البلبلة ينهال عليه تعذيباً وأسئلة وألاعيب حتى يوقع به.

    في البداية لا بد من تسجيل الملاحظات التالية:
  • ان كل منظم لا بد وأن هناك شخصاً ما عرض عليه التنظيم.
  • ليس غريباً أن يتردد المرء عند مفاتحته بمسألة الانتماء سيما عندما تكون المقدمات غير كافية.
  • كل معتقل يسأل عن التنظيم بدون استثناء، وبالتالي يسأل عن الشخص الذي نظمه.
  • في كل مرحلة تحقيق يجري السؤال مشدداً عن الأسلحة.
  • دائماً يهدد المناضلون باستمرار التحقيق وقسوة التعذيب وغالباً يهددون بنسف البيوت.
  • ان البيوت تنسف اذا اعترف المتهم بأن له علاقة ما بالأسلحة والعمليات العسكرية من قريب أو بعيد ولا يمكن غير ذلك أي أن الاعتراف بالعلاقة بالأسلحة والعمليات هو الذي يؤدي إلى نسف البيت وليس عدم الاعتراف. والبيوت تنسف مهما كان حجم الاعتراف ونوعيته ومهما أعطت المخابرات من وعود.
  • ان التحقيق يبدأ وينتهي مع المناضل على أساس ما يمكن أن يقوله هو عن نفسه وليس ما تقوله التقارير أو اعترافات الغير التي في النهاية لا تشكل سوى سبباً للتحقيق معه، أو تساهم في توجيه التحقيق.

عندما تعتقل مجموعة في مناخ معين كأن يكون اعتقالها بعد مظاهرات، أو بعد عمليات عسكرية فإن المحققين سيسألون عن دور أفراد هذه المجموعة في الأعمال المذكورة. سواء كانوا مشتركين فيها أم لا.

ووفقاً لهذه الملاحظات فإن المحقق الذي كما ذكرنا سابقاً يكون صورة افتراضية عن كيان محدد أمامه غامض في الحقيقة، سيهاجمه بالتهم والأسئلة المباشرة في فترة من الفترات علّ السنًارة تلتقط شيئاً فهو سيسأل المعتقل عن الانتماء ويصر عليه بشدة ويراقب النتيجة. فلو فرضنا أن المعتقل غير منتمي ماذا سيقول للمحقق؟ وعندما يسأل المحقق عن الشخص الذي نظمه ماذا يقول له (ليس غريباً أن نسجل هنا أن بعض المعتقلين اعترفوا بالتنظيم، وأن فلاناً نظمه، زوراَ، وعندما يعتقل فلان ويصر على أنه لم ينظمه يفرج عن فلان ويبقى المعتقل سجيناً ويواجه حكماً بالانتماء لمنظمة غير مشروعة، وربما تهمة الاتصال بمنظمة غير مشروعة).

 وفي الحالة التي يصرّ فيها المحقق على المناضل لتسليمه أسلحة وعلى فرضية أنه ليس لديه أسلحة ماذا يفعل لو اعترف؟ لن يستطيع أن يسلم أسلحة ولكنه سيتهم بحيازة أسلحة حتى لو لم يسلمها فيما اذا قبل ضغوطات المحقق.

 والمقصود من هذه النماذج ان المعتقل سيواجه الضغط حول العديد من المسائل التي يعرفها والتي لا يعرفها وفقاً لتصورات المحقق ومرحلة التحقيق. وأن الاعتراف على واحد كذباً سيزيد الوضع سوءاً فلو اعترف على أسلحة فسيحقق معه عن العمليات العسكرية… والمحقق قد يعرف 100% ان المعتقل يكذب على نفسه ومع ذلك يتهمه بصورة قانونية في المحكمة لأنه في العادة يصعب التمييز بين الحقيقة والكذب، وحتى لو كان أحد زملاء المعتقل معترفاً بحيازة زميله للأسلحة فإن هذا سيشكل فقط دافعاً للتحقيق حول الأسلحة ولا يشكل الدليل القطعي، ان التحقيق سيكون أكثر قساوة ولكنه ينتهي دون الاعتراف على الأسلحة اذا أصر المعتقل وينتهي الأمر. فالمحقق أساساً لا يكون متأكداً 100% من الأقوال. والذي يهم في هذه الحالة هو استعداد المناضل للاعتراف عن نفسه أم لا. قد يأتي المحقق ويقول للمناضل ان رفيقك اعترف بحيازة أسلحة وأنك تحوز أسلحة (وقد يكون المناضل كذلك) ان المحقق كما ذكرنا سيسأل عن الأسلحة أو أي شيء آخر يحلو له سواء نتيجة لاعتراف الزميل أم لا وهذا يجب أن لا يضعف موقف المناضل بل يشعره بأهمية صموده مما يزيده عزماً.

ليس غريباً أن نقول أنه في تجربة الحركة الوطنية قد وقع العديدون في براثين الاعتراف والسقوط، عبر استخدام هذا الأسلوب، ولكن الكثيرون أيضاً قد هزموه برغم حجم المعلومات المستوفية عنهم.

 وقد حصل في الواقع أيضاً أن بعض المعتقلين أقروا بجزء من التهم الموجهة إليهم، ونفوا قطعياً الجزء الآخر رغم أنه محاط كغيره بالتعذيب والادلة. ووضع هذا النوع من المعتقلين يثير التساؤل ليس في نفس الدارس فحسب بل وعندهم هم أنفسهم:

 فكما كان بمقدورهم انكار جزء من التهم كان بمقدورهم انكار الجزء الآخر هذا ما يؤكده مئات المعتقلين الذين عانوا من هذا الوضع وفي هذا تأكيد آخر على قدرة مناضلينا على الصمود تحت هراوات الجلاد الفاشي. وحتى الذين اعترفوا بكل شيء، وظل المحقق يحاول معهم للحصول على المزيد ضمن سياسة تقليل ما طرحوه بالقياس للحجم المطلوب، كيف انتهوا من هذا الوضع؟ بالتأكيد ليس بالاقناع والمنطق لأن المحقق يستمر في الضرب والتعذيب حتى يصل إلى نهاية ويفترض بالتالي أن المعتقل: اما مصر على استمرار الانكار لدرجة لا يمكن دفعه لقول شيء، أو أنه قال كل شيء وتظل مسألة تقدير.

ان ما يزيد على 90 بالمئة من المعتقلين الذين أدلوا باعترافاتهم في البداية، قد أكملوها في جولات ثانية بدرجة من السهولة واليسر واضحة، وأدلوا بأشياء لمجرد أنهم سئلوا عنها، وأشياء أخرى تذكروها وأدلوا بها للدلالة – (حسن نية) – (حقائق) بالغة الدلالة- وكلها تدل على سطحية وضحالة الفهم، وضعف الموقف  والانتماء، وانعدام أي تفكير عقلاني بالمصير والمستقبل، وكلها على الاطلاق كان بالامكان أن لا تحدث، وفي حينها. ولا ينفع الندم بعد فوات الأوان، وبعد أن ينتهي التحقيق ويسترجع (المناضل) نفسه ويأخذ باللوم الذاتي والتباكي والتمني.

ان المحقق في جميع الأحوال على الاطلاق يهدف إلى تحطيم شخصية المناضل ولا يمكن أن يكون صديقاً له أو محابياً معه، بل يمتصه، ويقول هل من مزيد، ليعزز بذلك شخصيته أمام مسؤولية ومرؤوسيه بنجاحات لم يكن قد حلم بها (تصوروا مناضلاً ألقي القبض عليه في مظاهرة، أو اعتصام، أو في لمة جماعية، وعند وضعه بين أيدي الجيش ينهالوا عليه ضرباً وأسئلة عن كيفية اعتقاله، وفي وقت كهذا ومن خلال أسئلة عامة عن نشاطاته، ينهار، ويدلي بأشياء ليس لها أي علاقة بمسألة القبض عليه.

 في معركة الكرامة آذار 68 ألقي القبض على عدد من الفدائيين واحتجزتهم قوات الاحتلال كأسرى وبالطبع حققت معهم ( وهذا يحصل دائماً مع الأسرى في كل أنحاء العالم) وفي التحقيق وجهت لهم أسئلة عن نشاطاتهم وما اذا كانوا قد قاموا بعمليات ضد اسرائيل، وبالطبع عومل الجميع بوحشية وفاشية وهذه طبيعة الاحتلال، ثلاثة منهم فقدوا شخصياتهم النضالية وتبرعوا بمعلومات عن أنفسهم ونشاطهم السابق ومعلومات أخرى عن قواعد المنظمات، وكانت النتيجة أن كافأهم الاحتلال بأن حاكمهم وأبقاهم في السجن مدة محكوميتهم، أما الباقون فقد أعادهم الاحتلال إلى الأردن مرة أخرى ولعل في هذا عبرة لمن يريد أن يفهم.

وما دام هذا أسلوب الاحتلال ومحققيه، فإن تهوين قضية المعتقل أو تهويلها، وتجاهل بعض جوانبها، أو اضفاء  هاله من التكبير والمبالغة عليها واضافة جوانب أخرى لها، كل هذا يصب في نفس الطاحونة: محاولات مختلفة ومتباينة للاطاحة بصمود المناضل ودفعه لموقف خياني.

 وفي هذا الباب قد يطرح المحقق سيلاً من التهم المضخمة والمبالغ فيها ليشعر المناضل بصعوية الموقف: انه يطرح الكثير بغية الحصول على القليل، لا بأس فهذا يساعده، واذا ما واجه المناضل أطروحات المحقق بالانكار والصمود، والاستخفاف فإنه سيربك المحقق ويفشل أسلوبه دافعاً اياه للبحث عن أسلوب آخر أو اقفال ملف التحقيق وتبقى الفرصة متاحة للمناضل ليعيد نفسه، ويعيد ترتيب أفكاره ويزيد من تماسك ذاته وشخصه استعداداً لجولة أخرى أو جولات بعد عقبة تجاوزها.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.