أثّرت جائحة “كوفيد 19” بشكل سلبي في حياة العاملين والمُعَطَّلِين عن العمل والمُهمَّشين والعاملين بالإقتصاد الموازي، وتأثرت النّساء، من جميع هذه الفئات، أكثر من الرجال، بسبب عدم المُساواة المُتجَذّرة في المجتمعات، سواء في الدّول الرأسمالية المتطورة، أو في البلدان الفقيرة، التي يُسميها صندوق النقد الدّولي “نامية”، وفيما يلي، بعض النماذج من كفاح العاملين والعاملات، من أجل الرواتب وتحسين ظروف العمل، خلال شهرَيْ نيسان/ابريل، وأيار/مايو 2020، في ظل الحجر الصحي، في بلدان “الجنوب”، أو البلدان التي حَوّلتها الفئات الحاكمة بها، إلى “مَنْجَم” للعمالة الرخيصة، لِصُنع السلع التي لا تتطلب مهارات خاصة، لحساب شركات عابرة للقارات، ويُباع الجزء الأكبر من هذه السّلَع في البلدان الرأسمالية المتطورة، بأسعار رخيصة، وهي بمثابة رَشْوة تُمَكّن عاملي ومُهمَّشي الدول الغنية من الحُصُول على الحد الأدنى من السلع الإستهلاكية والملابس والتجهيزات بثمن منخفض، أملاً من البرجوازية الإحتكارية في هذه الدول، في شراء السلم الإجتماعي، وتجنّب الثورات أو الإنتفاضات من أجل زيادة الرواتب، وتغيير نمط الحُكم ونمط الإنتاج…
في الطرف الآخر من العالم (في جنوب الكرة الأرضية، عمومًا) يئن العمال والعاملات من الإستغلال الفاحش، ومن الرواتب المنخفضة ومن سوء ظروف العمل، في غياب تنسيق عالمي، عُمّالي أو شعبي، من أجل خلق شبكات تضامن أُمَمِي، تُدافع عن حُقُوق العاملين والفُقراء في أي مكان، ضد العنف والتّحرُّش والمُضايقات التي يتعرض لها العُمال المطالبون بحقوقهم، وخاصة النقابيون، والنساء …
يتعرض العاملون والعاملات في معظم بلدان العالم “النامي” (وخاصة النساء) إلى الإستغلال الفاحش والقمع وعدم المساواة، والتّهْمِيش، وغياب الحماية الإجتماعية والرعاية الصحية، وغير ذلك من الخدمات الإجتماعية الضّرورية، لتستمر عملية إنتاج وإعادة إنتاج الفَقْر وعدم المساواة، من قِبَل الحكومات وأرباب العمل، وتتلخص مطالب النقابات في توفير شروط أمن وسلامة العاملين والعاملات، وحماية صحتهم (هن)، عبر توفير وسائل الوقاية، وعبر الحماية القانونية، وتنظيم أوقات العمل والإجازات الأسبوعية والسنوية، ومتابعة تأثيرات العمل على صحة العاملين، وغيرها من المطالب البسيطة، التي يرفض الرأسماليون الإستجابة لها وتوفيرها، لأن ذلك قد يخفض قليلاً من الأرباح الصافية، ويتميز قطاع صناعة النسيج والملابس والجِلْد، بالتلوث وبالظروف السيئة للعمل، وهو قطاع تبلغ نسبة النساء العاملات به، نحو 80% من إجمالي عدد عاملي القطاع في العالم، وخاصة في البلدان الفقيرة، ليُباع إنتاجُهن في المَحلات الفاخرة في اليابان وأستراليا وأوروبا وأمريكا الشمالية، بأسعار مُرتفعة، بينما يُعاني العاملون والعاملات، من البؤس والفقر والأمراض، ورفضت العديد من الشركات العابرة للقارات، التي تتعاقد من الباطن، في معظم الأحيان، مع شركات محلية، تحَمُّل مسؤولية ظروف العمل، وحماية النساء، وخاصة النساء الحاملات، وتعديل ظروف عملهن وتمكينهن من حماية خاصة أثناء فترة الحمل، أو تكليفهن بأعمال أخرى، أو منحهن إجازات طويلة، مع المحافظة على نفس الراتب، وسبق أن أشار تقرير للأمم المتحدة إلى ارتفاع حالات العُنف الأُسَري، خلال فترة انتشار وباء “كوفيد 19″، ما يزيد من معاناة النساء، عمومًا، وخاصة النساء العاملات، خارج البيت…
في إندونيسيا، تظاهرت العاملات، احتجاجًا على قرار شركتَيْن عالميّتَيْن للصناعة الملابس، إغلاق مصانعهما، إثر مطالب العاملات بزيادة الرواتب، ونقلها إلى بلد آخر، حيث أُجُور العُمّال أكثر انخفاضًا…
في المغرب، رفضت إدارة بعض المصانع (النسيج، وصناعة الأسلاك…)، التي بقيت مفتوحة أثناء انتشار فيروس “كورونا”، تزويد العاملات والعاملين بأبسط وسائل الوقاية، مثل الأقنعة والقفازات، والمُطَهّرات…
في تونس
قَدّر الإتحاد العام التونسي للشغل (نقابات الأُجَراء) أن حوالي 1,5 مليون عامل وعاملة في القطاع الخاص، لم يحصلوا على رواتبهم كاملة، خلال شهْرَيْ آذار/مارس ونيسان/ابريل 2020، إثْرَ إعلان الحَجْر الصّحي (يوم 22 آذار/مارس 2020)، رغم مواصلة العديد من العُمال والعاملات، العمل في عدد من القطاعات التي اعتبرتها الدولة “قطاعات أو خدمات أساسية”، وأعلنت الحكومة تسديد 200 دينار تونسي (أقل من سبعين دولار) للعمال الذين توقفوا عن العمل، بسبب انتشار وباء “كوفيد 19″، لكن هذا المبلغ زهيد، ولا يكفي للحصول على الحد الأدنى للمواد الضرورية، خصوصًا خلال شهر رمضان، وكانت نقابة الأُجراء قد وقعت اتفاقًا مع اتحاد أرباب العمل، لتسديد الرواتب كاملة، حتى نهاية شهر نيسان/ابريل 2020، للتعويض عن فترة الحبس المنزلي، وعدم تسريح العُمّال، خلال فترة الحَجْر الصّحّي، لكن العديد من الشركات لم تلتزم بهذا الإتفاق، بحسب شهادات بعض العاملين والعاملات في العديد من القطاعات، ومن بينها النسيج والملابس والجِلد، والبتروكيماويات والمَعادن، بل لا تحترم العديد من الشركات (الأجنبية والمَحَلِّية) قوانين البلاد، وتُطرد العُمال المنتسبين للنقابات، ناهيك عن الشركات الصغيرة والمتوسّطة، التي لا تحترم قانون العمل ولا أي من قواعد الصحة والسلامة المهنية، والإتفاقيات المشتركة، ولهذه الأسباب أضرب عُمّال شركة “غارتيكس” (شركة تابعة لشركات أجنبية، ألمانية وهولندية، في قطاع النسيج والملابس، وتُوظف في تونس نحو ألف عامل وعاملة) لمدة يومَيْن ( 13 و 14 أيار/مايو 2020)، بسبب تَعَمُّد إدارة الشركة فَصْل النقابيين المُنْتَخَبِين سنة 2018)، ورفض تطبيق قوانين البلاد، بشأن العمل النقابي وقواعد الصحة والسلامة المهنية في ورشات العمل، كما رفضت (في حزيران/يونيو 2019) التحقيق في صحة العديد من المخالفات التي أثارها النقابيون، منها شروط النظافة والصحة، ثم عَمدت إدارة الشركة (شهر شباط/فبراير 2020) إلى فصل 56 عامل، منهم النقابيين المُنْتَخَبُين (للمرة الثانية في أقل من سنَتَيْن)، وأعضاء اللجان الإستشارية، وهيئات مُشتركة (بين أرباب العمل والعُمّال)، ما يُشكّل خرقًا صريحًا للحقوق النقابية…
في العراق
تُعتبر مُحافظة “البصرة” أهم موقع لحقول المحروقات (النفط والغاز) في العراق، وعَمَد الإحتلال الأمريكي إلى خصخصة هذا القطاع منذ بداية الإحتلال (آذار/مارس 2003)، لتُهيمنَ عليه شركات أمريكية وبريطانية، ترتبط مصالحها مع مصالح أُسْرَة “بوش” ونائب الرئيس “ديك تشيني” في قطاع النفط والمحروقات، ومع مصالح مُجمّع الصناعات الحربية، وأنشأت شركة “شل” فرعًا لها تحت إسم “شركة غاز البصرة”، حيث يعمل ما لا يقل عن خمسة آلاف عامل، تم نَقْلُ معظمهم من “غاز الجنوب”، وهو فرع آخر، لنفس الشركة العابرة للقارات (شركة “شل”)، ولم يحصل هؤلاء العُمال (حوالي خمسة آلاف) عن رواتبهم، منذ نقلهم من فَرْعٍ إلى آخر، دون موافقتهم، ما اضطرهم إلى الإضراب، يوم 18 أيار/مايو 2020، بسبب تكرار مشكلة عدم انتظام تسديد الرواتب، وعدم وجود مُخاطب كُفْء للعمال، حيث تُحاول كل شركة إلقاء مسؤولية عدم تسديد الرواتب على الشركة الأخرى، رغم تواصل العمل بانتظام، حتى أثناء استفحال المظاهرات الإحتجاجية وإغلاق الطرقات وتعطيل المواصلات، مع الإشارة أن شركة “غاز البصرة”، هي ائتلاف رأسمالي تمتلكه شركة “شل” بنسبة 44%، بشكل مباشر، وبنسبة 51%، بشكل غير مباشر، عبر شركة “غاز الجنوب”، وتمتلك شركة “ميتسوبيتشي” اليابانية نسبة 5% من قيمة رأسمال الشركة…
في بنغلادش
أعلنت الحكومة تطبيق الحجر الصحي، وحالة الطوارئ، في الرابع من شهر نيسان/ابريل 2020، وعلقت الحكومة جميع خدمات النقل وأغلقت المرافق العامة والخاصة ، باستثناء “الخدمات الأساسية”، وانتهزت الشركات المحلية، التي تُمثل مصالح مجموعات رأسمالية أجنبية، الفُرصة لتسريح آلاف العمال في قطاع صناعة الملابس، وتخفيض رواتب من لم يقع طَرْدُهُم، فاحتج العُمّال، وقتلت الشرطة عامِلَيْن، خلال الاحتجاجات، وأدّت حالة الخوف والذّعر، في أوساط العُمّال القادمين من مناطق داخلية، ويسكنون العشوائيات في العاصمة “دكا”، إلى مغادرة العاصمة، للعودة إلى مسقط رأسهم، قبل أن تمنع الحكومة أي حركة دخول الأشخاص إلى العاصمة “دكا”، أو خُرُوجهم منها، وتطبيق نفس القرارات على مراكز صناعية ومُدُن أخرى، ولكن بعض الشركات، واصلت العمل، دون أي تدابير وقائية أو أمْنِيّة لحماية العُمال من خطر وباء “كوفيد 19″، ولم يحصل هؤلاء العمال على رواتبهم، بنهاية شهر آذار/مارس، ولا بنهاية شهر نيسان/ابريل، ولا أحد يَضْمَنُ حصولهم على رواتب شهر أيار/مايو 2020، رغم الإرهاق الذي يُسببه العمل والصيام، ومصاريف شهر رمصان، واضطر العاملون إلى تنظيم عدد من الإحتجاجات وأغلقت مجموعة من العاملين طريقا رئيسية، بعد إغلاق أحد المصانع دون سابق إنذار، وهددت الشركات العُمّالَ بإدراج أسمائهم في “القائمة السوداء”، التي تتداولها الشركات، بهدف عدم توظيف من وَقَع طَرْدُهم من أي شركة أخرى، لأنهم انتسبوا إلى نقابة، أو طالبوا بحقوقهم (القليلة )، وبررت جمعية أرباب العمل (جمعية مُصَنِّعِي ومُصَدِّرِي الملابس في بنغلادش) عمليات التسريح الواسعة، في بيان بتاريخ الثامن من نيسان/ابريل 2020، ب”إلغاء طلبيات ملابس بقيمة فاقت ثلاثة مليارات دولارا، ما يؤثر سَلْبًا على إيرادات مصانع النسيج التي تُشغل 2,2 مليون عامل”، مع الإشارة إلى رفض العديد من الشركات متعددة الجنسية وممثليها في بنغلادش تعويضات لذوي العاملات والعُمال الذين توفوا (1300 عاملة وعامل) أو جُرِحو (ما لا يقل عن ألفين من العاملات والعمال)، سنة 2013، عند انهيار مبنى “رانا بلازا”، به مصانع نسيج، في إحدى ضواحي العاصمة “دكا”، رغم صغر المبلغ (ثلاثين مليون دولارا)، فيما تغض الحكومة الطرف عن الخُروقات العديدة وعدم تطبيق شروط الصحة وسلامة العاملات والعُمال، وتثشكل صادرات النسيج والملابس، أهم صادرات البلاد، بقيمة حوالي عشرين مليار دولار سنويا…
في إندونيسيا
أعلنت وزارة تنسيق الشؤون الإقتصادية، منتصف شهر نيسان/ابريل 2020، أن 2,8 مليون عامل فقدوا وظائفهم، كنتيجة مباشرة لوقف النشاط الإقتصادي، بعد انتشار الفيروس التاجي، فيما أعلنت الحكومة مساعدة مالية، لحوالي 1,4 مليون عامل، شرط التحاقهم ببرنامج التدريب والتّأهيل المهني، قبل توظيفهم، ما يُشكل خَفْضًا مُصْطَنَعًا لحجم ونسبة البطالة، في ظل ضُعْف أنظمة التأمين الإجتماعي والرعاية الصحية، وانخفاض ميزانيتها ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي، خلال العقدَيْن الماضيَيْن (منذ سنة 2000)، بحسب تقرير منظمة العمل الدولية (بمناسبة الأول من أيار 2020)، الذي يعتمد البيانات الرسمية الحكومية، وأشار التقرير إلى الإرتفاع الكبير في معدّلات البطالة، وعجز العديد من المُعَطّلين عن العمل، على تلبية احتياجاتهم الأساسية، كالسّكن والغذاء والمَلابس، بسبب عدم وجود نظام تعويض للبطالة، أو مساعدة مالية للعاطلين عن العمل، وأعلنت نقابات العمال، أن الحكومة تقف إلى جانب أرباب العمل، وتمثل مصالح رأس المال، ولا تراقب تطبيق القوانين، وتهمل مُراقبةَ حالات التسريح، خاصة في قطاع النسيج والملابس وصناعة الجلد، بل تسربت أخبار (تأكدت صحتها فيما بعد) عن إعداد الحكومة مشروع قانون، يُقر إلغاء تحديد عدد ساعات العمل اليومية والأسبوعية والشهرية، وإلغاء الحد الأدنى للرواتب، مع خفض منحة “نهاية الخدمة”، وتيْسير العمل الهش، وكانت نقابات العمال قد أقرت تنظيم مظاهرة احتجاجية، كانت مُقررة ليوم الثلاثين من نيسان/ابريل 2020، قبل أن يقع إلغاؤها، بسبب الحجر الصّحّي وانتشار وباء “كوفيد 19″، لكن أرباب العمل قبلوا تأجيل تقديم مشروع القوانين، ولم يتراجعوا عنها، مَدْعُومين من قِبَل الحُكُومة…
تُبَيِّنُ هذه النماذج القليلة التي ذكرناها، ضرورة تضامن (أو وحدة) العُمال، على نطاق وطني، وعالمي، لأن أرباب العمل والرأسماليين يُنسّقون فيما بينهم ويُدافعون عن مصالحهم، متحدين، وتُمثلهم الحُكومات في معظم بلدان العالم، وتتطلب مقاومة الإستغلال والإضطهاد والإستعمار وهيمنة رأس المال، وجود جبهة مقاومة واسعة، تضم ضحاياه، وفي مقدمتهم الحركة العمالية، ويتطلب ذلك مستوى عالي ومُحْكَم من التنسيق بين المنظمات وحركات مقاومة الرأسمالية في العالم، وهو ما سَعت إلى تنظيمه وإنجازه الأُمَمِيّة العُمالية (أو الإشتراكية)، منذ منتصف القرن التاسع عشر، أي منذ بروز الإحتكارات وبدايات مرحلة الإمبريالية…
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.