الجنازة السياسية لليوسفي …لحظة كشف الكذب، بقلم: نزهة جبري، خالد بوزهر، ابراهيم أحنصال – المغرب العربي

كل موقف ذاتي مهما تحصن في ذاتيته، وأغلق عليه منافذ الضوء فيها حتى لا يتسرب إليها بعض من شعاع الخارج الموضوعي بتناقضاته وتموجاته، إلا ويعكس موقفا طبقيا اجتماعيا محددا، يكشف ويعري ذلك الإطمئنان الزائف الذي استجار بالإنغلاق على الذات والإحتماء بها. هل هو استلاب وعي تآلف مع واقع مسطح كما ينعكس في ذلك الوعي ويعكسه هذا الأخير تآلفا وإحساسا بالضياع كنتيجة لذلك الإستلاب نفسه؟ أم هو حالة مَرَضية مشخصة الأعراض، كالمتلازمة السويدية “استوكهولم” الشهيرة؟ أم أنها طبيعة البرجوازية الصغيرة التي يغلب طبعها على ادعاءاتها الماركسية دون أن تتمثلها وتلتزم بها؟! الثابت ضمن هذا المتحرك الذي يسمى بالتاريخ، هو أن سجله يبقى مفتوحا لمن يبحث عن الحقيقة، وهذه الأخيرة تبقى دائما ثورية لأنها وفق تعبير لينين تتألف من حَصائل الحقائق النسبية، ويجب علينا دائما وأبدا الصَّدع بها حتى وإن كانت غير سارة. هذا الأمر لا ينحصر عند قلة من الناس، بل يكاد يكون شائعا ومستفحلا لدى كثيرين سيما في أوساط المثقفين والسياسيين، سواء كانوا من المحسوبين على السلطة الحاكمة أم ممن يَعُدون أنفسهم معارضين. الشيئ الذي لا يمكن تفسيره فقط بما ذكر أعلاه، فالنفاق السياسي والمحاباة الشخصية والحزبية الصنمية والرغبة في التسلق… كلها عوامل ضاغطة في إتجاه ذلك الموقف الذاتي الضيق؛ وهذا ما طفح عشية رحيل أحد رؤساء الحكومة السابقين في القطر المغربي (عبد الرحمان اليوسفي) كأبرز خُدَّام النظام الرجعي في المغرب. فالذين كانوا ينعتونه قبل عقدين من الزمن بـ”المتمخزن” الذي يخدم الطبقة الحاكمة، وهو بالفعل تفانى في اندماجه بـ”المخزن” (=نعت يطلق على النظام السياسي) وتماهى مع استبداده وطقوسه المتخلفة والمذلة، أصبحوا بين عشية وضحاها يصفونه بـ”المجاهد الأكبر” و”المناضل الحقوقي”!!

كهذا هم الإنتهازيون في كل مكان، يستغلون لحظة الموت لغسيل الصفحات الملطخة بعار الخيانات بذريعة واهية مهتزة من أصلها، تكثفها العبارة التي تلهج بها ألسنهم في مثل هذه اللحظات الوجودية “أذكروا أمواتكم بخير/أذكروا محاسن موتاكم” ويردفونها “أنهم الآن لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم”! وذلك لإعطاء الإنطباع بأن من يذكر بحقائق الشخص -الذي بالمناسبة هو شخصية عمومية ومؤثرة- لا يقدر جلال اللحظة ورهبتها، كمدخل لإتهام تارة ضمني وأخرى صريح للمادية التي يصدر عن أصحابها مثل هذا الموقف بأنه “لا إنساني”؛ مع العلم أن إنسانية الشيوعيين غير إنسانوية البرجوازيين، ومن يستظل بهم، فالأولى عامة في شكلها ومضمونها وأهدافها السامية، أما الثانية فأحادية منافقة موجهة لخدمة الطبقة الحاكمة. هنا المأساة ينسخها التاريخ ملهاة، فتحت نفس اليافطة ذابت بينهم الفروق الشكلية، وامحت الحدود الطبقية الفاصلة بين موقع وآخر. عندما مات الديكتاتور الحسن الثاني قبل عقدين من الآن نعاه اليوسفي أنذاك على طريقته، بأن كان في سابقة تاريخية أول (وزير أول) يوقع على عقد البيعة الوراثية لخلفه على العرش، الذي جير لصالحه تضحيات الشعب المغربي ونضالاته؛ عوض استثمارها في تحقيق التغيير الذي سالت لأجله دماء الشهداء وفي طليعتهم الحاضر المغيب المهدي بنبركة، رفيق اليوسفي الذي لم يسعه وهو في منصب المسؤولية الشخصية الثانية بعد الملك (وفق الدستور الممنوح في المغرب) لإجلاء الحقيقة حول إختطاف واختفاء الشهيد المهدي. هذا بالرغم أن وزير العدل أنذاك محمد بوزوبع من نفس حزب (اليوسفي)، هذا الأخير -أي اليوسفي- وصفه المقاوم والمناضل الراحل محمد بوكرين (المعروف باسم: معتقل الملوك الثلاثة) وهو في حالة اعتقال سياسي في سجن مدينة بني ملال في تصريح لجريدة “المشعل” عام 2008 بأنه: “سياسي الصالونات، ورجل التسويات، والإبتسامة الديبلوماسية لا تفارقه، فهو عين حزب الإستقلال على المقاومة وجيش التحرير، أنجح انتقال العرش، وأفشل الإنتقال الديموقراطي”.

فالخدمات التي قدمها عبد الرحمان اليوسفي للحكم المغربي الوكيل الحصري للإحتكارات الإمبريالية، أكثر جدوى مما قدمه باقي رؤساء الحكومات السابقين له، وذلك لاعتبارين أساسيين على الأقل: أولهما طبيعة المرحلة وحساسيتها التي تعتبر مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر، جاءت بين ملكين بكل ما لذلك من أهمية ورمزية (تسهيل الإنتقال بسلاسة دون عوائق)، وما كانت تحبل به من مد نضالي وزخم جماهيري في ظل تعمق أزمة الحكم على كافة الأصعدة والمستويات، وهو ما اعترف به (الحسن الثاني) نفسه الذي وصف خطورتها بـ”السكتة القلبية”، واشتداد عزلته الداخلية والخارجية. وثانيا، كون اليوسفي وحلفائه (أحزاب الكتلة) ساهم بشكل كبير في إفراع ذلك الزخم الجماهيري ومده النضالي في طاحونة الحكم، في واحدة من أكبر عمليات التضليل التي عرفها المغرب تحت شعار: “التناوب الديموقراطي” أو “التناوب التوافقي” و”التغيير من الداخل”. والتي تفرعت منه شعارات انبرى لها مصفقا ومهللا كل من إلتقط إشارات اليوسفي بالإصطفاف وراء “الملك الشاب” لإنجاح وهم “الإنتقال والقطع مع الماضي”!! فهب غالبية معارضي الأمس من كل الطيف اليساري لدخول البلاط الملكي، بعد ان أصبح الطريق إليه معبدا منذ أقسم اليوسفي أمام (الحسن) على القرآن أن يبقى مضمون القسم سرا بينهما! قبل أداء اليمين الدستوري فور تكليفه بتشكيل الحكومة. هكذا اكتلمت جوقة ما يسمى “العهد الجديد”، التي ستصبح مع الأيام وعاء شاملا تندغم فيها وتنصهر -كما هو حاصل الآن- مختلف التيارات اليمينية والقومية وحتى الماركسوية الذين تم تدجينهم، لدرجة أنه زالت وامحت وتلاشت الفروق بينهم حتى على مستوى الشكل ولغة كتابة المرثيات المرفوقة بمناقب الميت، تماما كما نمقها الجهاز الإيديولوجي للنظام الذي أفرد له دعاية خاصة. وإذا كان هذا الأخير منسجما مع نفسه في إشادته بأحد خدامه الأوفياء، فإن اندفاعة المحسوبين على القومية العربية ضمن جوقة المهللين للوزير السابق، قيد حياته، كشف نفاقهم اتجاه مناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني، وعرى تفاهة موقفهم المتهافت لحجز موقع في أي ترتيب جديد يقدم عليه النظام، وأبان عن عجزهم وهشاشة تحليلهم السياسي لبناء رؤية سليمة وفق تصور موضوعي مقنع. وإلا ما معنى قفزهم وتعاميهم عن عقد المنظمة المسماة “الأممية الإشتراكية” التي شكلتها أحزاب برجوازية داعمة لحروب التوسع والهيمنة الإمبريالية كحزب العمال البريطاني، والحزب الإشتراكي الفرنسي الذي كان ليونيل جوسبان الذي تجمعه علاقة مصاهرة مع (اليوسفي) وأحد أكبر داعميه على المستوى الخارجي، مؤتمرا في ظل حكومة يرأسها اليوسفي وبدعوة من حزبه الإتحاد الإشتراكي الذي يتزعمه “المجاهد الأكبر” كما لقبته الدعاية التضليلية، وحضره حزب العمل الصهيوني في أبريل 2002، رغم معارضة واستهجان المغاربة الرافضين لأي تطبيع مع العدو بأي شكل من الأشكال وتحت أي ذريعة كانت. وفي هذا الإطار وجب التذكير بما نشرته مجلة الإختيار الثوري المغربية في عددها الأول سنة 1983 نقلا عن جريدة السفير اللبنانية، عن لقاء جمع الراحل عبد الرحيم بوعبيد الكاتب الأول لحزب الإتحاد الإشتراكي أنذاك مع زعيم حزب العمل الصهيوني شيمون بيريز، مؤكدا إستنادا إلى نفس المصدر، عن استعداده لمعاودة لقائه مجددا إذا تطلب الأمر ذلك، وهو ما حصل بحضور اليوسفي حسب تسريبات إعلامية سنة 1979.

نفس الملاحظة نطرحها وبخط التشديد اتجاه المتمركسين ونضيف إليها، أن هؤلاء استبدلوا منهج التحليل الطبقي بالمنظور الإنسانوي البرجوازي الفج الذي يمتح من معجم أخلاقها الزائفة، وكيفوا عقولهم لتطابق منطقه الشكلي، وأسدلوا ستارة سوداء على عيونهم كيلا يروا الواقع على حقيقته، وحتى لا يطرحوا السؤال الجوهري التالي الذي يستنطقه: أي حكومة ترأسها عبد الرحمان اليوسفي؟ هل كانت إفرازا وتعبيرا عن إرادة الكادحين عمالا وفلاحين فقراء، أم أنها حكومة مملاة وبمعزل وضدا على إرادة ومصالح الجماهير الكادحة ومصادرة لحقها في تقرير مصيرها؟ ثم هل تشكيل حكومة اليوسفي بقرار من النظام الكمبرادوري ساهم مثلا في إطلاق الحريات ولو في حدها الليبرالي أم أن القمع الفاشي ظل هو هو؟ هل قامت بتحصين ممتلكات وثروات الشعب من النهب والخصخصة أم أنها كانت قمة الهجوم على القوت اليومي للكادحين واستباحة وتفكيك لأهم القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية للشعب؟ هل عرفت الحركة الجماهيرية في مرحلة الحكومة هذه حالة نهوض واستنهاض أم تم الارتداد والنكوص بها؟؟؟ أسئلة كثيرة يتجاهلها المتمركسون ذوي النزوع الليبرالي، حيث يجدون في عبارات عاطفية من قبيل: (اللحظة الإنسانية، التفريق بين اليوسفي الإنسان واليوسفي السياسي…!) منفذا للتملص من إعمال التحليل الطبقي والقراءة السياسية الثورية. إن الجامع بين كل هؤلاء هو التنكر للمكافحين الذين ناضلو ضد التكتل الطبقي الحاكم ونظامه العميل، وضحوا في سبيل بناء مغرب اشتراكي متحرر من التبعية للامبريالية والصهيونية، وقدموا في سبيل ذلك آلاف الشهداء. وحيث ربطوا بين النضال الطبقي ضد الرجعية المحلية والنضال ضد الامبريالية والصهيونية، فحاربوا كتفا بكتف إلى جانب فصائل الثورة العربية الفلسطينية أمثال: عمر دهكون الذي أودع وصيته الأخيرة لدى إبن أخ المقاوم محمد بن عبد الكريم الخطابي الدكتور الخطابي فور مغادرة هذا الأخير سجن القنيطرة المركزي، بعد شهور من التعذيب داخل سراديب المعتقل السري الرهيب دار المقري، يقول: “أما نحن فسوف نموت -كان متأكدا من إعدامه- ولكن مسيرينا [يقصد بوعبيد، اليوسفي، وجماعتهما] سوف يخرجون من هنا لينهوا أيامهم في الوزرات- وهذا ما حصل فعلا – قل للرفاق إن العدو بيننا…” أوردها في كتاب أبطال بلا مجد ص 239، مؤلفه مهدي بنونة إبن الشهيد محمود بنونة رفيق درب الحلم والسلاح الذي إرتقى في ساحة الشرف أشهرا قليلة قبل إعدام الشهيد عمر دهكون ورفاقه صبيحة عيد الأضحى فاتح نونبر عام 1973. فهل يشفع لهواة الرثاء أصحاب المغسلة السياسية إبداء اليوسفي حسرته على “المنهجية الديموقراطية”، عندما تخلص منه النظام الحاكم الذي جاهد لخدمته بتفان الخادم الوفي أمام الشعب المغربي، وهم يقومون بالتزوير والتضليل…؟

حاشية: ما الذي يرسخ في صفحات التاريخ من واقعة كهذه ومثيلاتها في الوطن العربي وكثير من بلدان العالم؟ إنها صفحة مكتوبة بحامض الكبريتيك، صفحة الانتقال من النضال إلى خيانة الشعب عامة والطبقات الشعبية خاصة  والانخراط في ما كينة القمع سواء لوقاية الجلد أو “لبهاء” الموقع.الانتقال من عُلو المكانة إلى عُلوْ المكان على حساب الملايين ممن يوما ما خدعهم هؤلاء!

ولا يتوقف الأمر عند هذا الشعور المر، بل يذهب لما هو أخطر، فتحوُّل الثوريين إلى غاسلي موتى السياسة، وإن كان لا يطمس صفحات التاريخ التي لا تُمحى، لكنه يخصي الوعي النقدي والموقف الثوري للجيل القادم، وهنا معنى وواقع تكريس التخلف وإعاقة الثورة.

ليس الأمر شتم هذا ومديح ذاك، ولكنه “كل الحقيقة للجماهير-لينين” والحقيقة ليست ثوباً أو جثة متوفى، اي لا تموت، ومن الجريمة محاولة إماتتها بمراثٍ لا يتقنها سوى المنافقين ومتساقطي الجبهات.

نعم، أذكروا محاسن موتاكم، واذكروا جرائم من ماتوا متشردقين بدم الشعب وهم يحتسون الدم على موائد الحاكم المحكوم.

وإذا كان كاسترو في محاكمته قد قال: “التاريخ سينصفني” وقد أنصفه، فإن هذا يعني بالضرورة والقطع أن يقول أمثال هذا الميت” يا ويحي، التاريخ سيكشفني”. وها قد كشفه عمر دهكون، مسبقاً وسلفاً ليعطينا درساً في الصمود أمام المشنقة.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.