وإن كان جوهر الرأسمالية هو نفسه، إلا أن تطوراتها تولد اختلافا ما في علاقاتها بين مرحلة وأخرى. كما ان علاقاتها الداخلية وإن اتخذت شكل التهادن أحيانا إلا أنها تبقى علاقات المنافسة والاحتكار والصراع.
ففي حقبة الثورة الصناعية أي تصنيع الدولة القومية قبل أن تنتقل إلى إنتاج ما يفوق طاقة سوقها القومي كان التنافس بين دول أوروبا الغربية في بداية الثورة الصناعية غير تناحري وإن بدأت في بريطانيا قبل غيرها.
بكلام آخر، قبل الولوج إلى مرحلة الإمبريالية كان التطور الاقتصادي لأوروبا الغربية متكافئا نسبيا يسير تقريبا جنبا إلى جنب رغم الحروب القومية بين دولها القومية حينها.
ولكن بالمقابل، قامت أوروبا نفسها باحتجاز تطور مختلف بلدان العالم الخاضعة لاستعمارها ما أمكنها ذلك ولم يكن هناك من استشناء غير اليابان، وهو الحدث الذي صيغت إثره مقولة “لا يابان بعد اليابان” حيث تمكنت اليابان، نظرا لشروط عدة خاصة بها من جهة وبعدم هيمنة النظام الراسمالي العالمي كلياً ، أن تفلت من احتجاز التطور بينما مثلا تم قطع تطور مصر محمد علي عام 1840 بتحالف عدوان ثلاثي فرنسي، بريطاني عثماني . لذا يمكننا تطوير مقولة: “لا يابان بعد اليابان” إلى “لا أوروبا بعد أوروبا”
أوقف دخول الغرب ،وخاصة الأوروبي مرحلة الإمبريالية، تهادن التطور المتكافىء فيما بينها هي نفسها ودخلت أول حرب ضارية هي الحرب العالمية/بل الإمبريالية الأولى.
لم يلاحظ كاوتسكي أن علاقات “التصالح النسبي” قد انتهت بالانتقال إلى مرحلة الإمبريالية حيث رأى أنها تدخل مرحلة ما بعد الإمبريالية، اي مرحلة من تصالح بيني حيث لم يفهم جيدا أبعاد مقولة ماركس عن الراسماليين ” تآخي اللصوص”.
بدوره، ركز لينين في كتابه الإمبريالية أعلى مراحل الراسمالية على ان صراع الإمبرياليات وجوباً على العكس من كاوتسكي الذي حلم بتصالحهن.
إن نظرية لينين منصبة تحديداً على التطور اللامتكافىء، للراسمالية الاحتكارية وتنافس القوى العالمية على الهيمنة الجيوسياسية، مثلا، على قهر (أو السطوة) على منطقة ليس بأنفسهم مباشرة وذلك من أجل إضعاف الخصم وتقويض هيمنته. (فبلجيكا هامة بشكل رئيسي لألمانيا كقاعدة للتعاون ضد بريطانيا، بينما بريطانيا تحتاج بغداد كقاعدة للتعاون ضد ألمانيا…الخ” ( Lenin, Imperialism, the Highest Stage of Capitalism, 91–92.)
إذا قرأنا طرح لينين هذا في سياق علاقة مركز/محيط بشكل أعمق، لا بد أن نربطه مع مآلات التطور اللامتكافىء على مجمل صعيدي المركز والمحيط وهو ما يذكرنا بأمرين:
- إصرار المركز على عدم لحاق المحيط به من جهة/احتجاز التطور كما ناقشه سمير أمين،
- ومن جهة ثانية وجوب فهم أدق للمقولة الدارجة “لا يابان بعد اليابان” والتي نصفها ب “لا أوروبا بعد أوروبا”
مقولة التصالح التي خُدع بها كاوتسكي حيث رأى أنه رغم التنافس البيني الأوروبي إلا أن هناك استمرارا لتطور متكافىء نسبيا داخل هذا المركز نفسه وهو قديم قدم التطور المتكافىء تقريبا بين دول أوروبا الغربية منذ بدء الثورة الصناعية حيث لم يكن التفاعل محرما بينها، رغم حروبها البينية وتنافسها على المستعمرات. وينسحب التهادن نفسه بين أوروبا الغربية والمستوطنات الراسمالية البيضاء حيث كان نفس هذا الاستعمار الأوروبي ينهب من مختلف المستعمرات ليستثمر في مستوطناته البيضاء (الولايات المتحدة، كندا، أستراليا، نيوزيلندا وجنوب إفريقيا، والجزائر-قبل هزيمة فرنسا وطرد المستوطنين. أما الكيان الصهيوني فجاء متأخرا) مما يسمح لنا بالقول بأن ما حصل حقا هو “لا أوروبا بعد أوروبا أو لا غرب بعد الغرب”.
بالنسبة ل لينين الذي فهم جيداً المرحلة الإمبريالية في تطور الراسمالية ، فإن الصراع على الهيمنة على أجزاء من الاقتصاد العالمي كان نتيجة تاريخية للصراع بين دول الدولة-القومية على الاقتسام الجيو-سياسي ، وحتى الأهم، الاقتسام الاقتصادي للعالم – محفوزة كل منها من قبل شركاتها الاحتكارية. وبهذا فقد رفض على أساس تاريخي نظرية كاوتسكي المجردة والمسماة ” المرحلة التالية” للإمبريالية أو “ما فوق الإمبريالية”، والتي تدور عن تطور الكارتل العالمي، والذي بموجبه فإن القوى الصناعية الكبرى ذاهبة إلى استغلال جماعي للقطاعات الريفية AGRARIAN من العالم. وكما وضعها كاوتسكي فهي تأخذ شكل “ترجمة الاحتكارات إلى سياسة خارجية، حقبة ما فوق الإمبريالية”. (Kautsky, “Ultra-imperialism,” p. 46. )، أي ان كاوتسكي لم يلتقط ضراوة الأنظمة الراسمالية في المركز في مرحلة الإمبريالية لذا وصف لينين تصور كاوتسكي ب : ” قمة الإصلاحية الاجتماعية “الانتهازية” ( Lenin, “Introduction,” in Bukharin, Imperialism and the World Economy, 13–14)
يجد تصدي لينين لنظرية كاوتسكي معنى أعمق اليوم. فقد ارتدت الأنظمة الراسمالية في المركز إثر وباء كورونا كل إلى داخل حدوده مما شكَّل احترابا مخفياً بينها ليس من حيث سطو بعضها على شحنات وقاية للبعض الآخر وحسب، ولكن تخلي كل منها عن مساعدة الآخر وهو ما يذكرنا بمقولة ماركس “تآخي اللصوص” الذي لا يحصل في الأزمات بل في الوفرة التي قسط هائل منها منهوب من المحيط. وإذا كان هناك ما يمكن وصفه ب “ما فوق الإمبريالية” فهو العولمة التي كشف عورتها وباء كوفيد 19 /كورونا.
لعل الظاهرة التراجيدية هي ما يحصل في الوطن العربي حيث تقوم معظم الأنظمة الحاكمة بتبني سياسات من شقين:
على الصعيد الداخلي تتبنى سياسة التجويف والتجريف داخل القطر الواحد، تجويف الوعي وخاصة السياسي الطبقي وحتى الوطني كتمهيد للتمكُّن من تجريف الثروة وبالتالي تخليد التخلف والتبعية.
وعلى الصعيد البين/عربي تتبنى سياسة “تطوير اللاتكافؤ” (انظر عادل سماره، تطوير اللاتكافؤ في الوطن العربي ، المستقبل العربي، العدد 197- 7/1995، ص ص 16-28 ) أي توسيع عدم التكافؤ بين كل قطر وآخر بهدف القضاء على كافة العوامل المصلحية المادية المشتركة للمجتمع العربي والتي نظراً لكونها مصلحة مادية للطبقات الشعبية فإنها لا بد تلعب دورا ضاغطا من أجل الوحدة.بكلام آخر، إن “تطوير اللاتكافؤ” هو القضاء على اي مشترك عربي إقتصاديا بشكل خاص إلى جانب توسيع علاقات التبادل اللامكافىء لكل دولة قطرية مع السوق العالمية التي تسيطر عليها اقتصادات المركز الراسمالي.
وعليه، فإن جائحة كورونا تفتك بالاقتصادات العربية أكثر من اية اقتصادات أخرى نظراً للتفكيك الاقتصادي المقصود والمبني على التفكيك الجغرافي والسياسي. ويتمظهر هذا الفك بزيادة استيراد حتى الأساسيات من المركز.
وقد يكون من الطرافة الحامضة بمكان، أن نرى أنظمة المركز الرأسمالي الغربي التي كانت “متحالفة –كاوتسكيا- قبل كورونا سواء في الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي والمؤسسات المالية الدولية الثلاثة صندوق النقد والمصرف الدولي ومنظمة التجارة العالمية قد قلبت لبعضها ظهر المِجنَّ لتأكل بعضها بعضا إثر جائحة كورونا، لنرى أن الأنظمة العربية قد سبقت أنظمة المركز في حرب إبادة مجتمعية ذاتية أداتها أنظمة وقوى الدين السياسي وإدارتها أمريكية وحاصد ثمارها الكيان الصهيوني.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.