العالم بين أزْمَتَيْن 2008 – 2020، بعيون عربية، الطاهر المعز

مقتطف من مقال مُطول

العالم بين أزْمَتَيْن 2008  – 2020، بعيون عربية 

الطاهر المعز

الولايات المتحدة: 

انطلقت في الولايات المتحدة، انتفاضة ضدّ المَيْز الإجتماعي والطّبَقي، الممزوج بالعنصرية، وعَبّر المواطنون، من خلال هذه الإحتجاجات، عن الغضب من ارتفاع حجم المظالم المتراكمة، منذ تأسيس الولايات المتحدة، على جماجم ملايين السُّكّان الأصليين، وملايين السود الذين اختطفهم الأوروبيون واستعبدوهم في أمريكا، ما جعل النظام السياسي في الولايات المتحدة مبني على نَفْي العدالة، ونفي المُساواة (فالمواطن هو الأوروبي الأبيض المسيحي البروتستنتي…)، وغياب قيَم المواطَنة، وتمجيد قوة السلاح، ضد المواطنين الأصليين، وضد السود، وضد كافة شعوب العالم، وحلّت القوة محل التحليل والمنطق ومحاولة فهم دواعي الغضب…
نقلت وسائل الإعلام مشاهد عُنف المتظاهرين في “هونغ كونغ”، بدعم سياسي وإعلامي، أمريكي وبريطاني، ومشاهد احتلال المتظاهرين البرلمان، رافعين أعلام ورايات الولايات المتحدة وبريطانيا، ولاحظنا عدم تدخّل الجيش الصيني لتفريق المتظاهرين أو لإخلاء مَبْنَى البرلمان، رغم الحرائق والعُنف، بل تدخلت الشرطة، بعنف أقل بكثير من عُنف شرطة الولايات المتحدة، في حين يُهدّد الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” باستخدام الجيش (أقوى جيش في العالم) لقمع بضعة آلاف المحتجّين من المواطنين العاديين الأمريكيين، المُتظاهرين ضد عُنْصُرية وجرائم مؤسسة رسمية (الشرطة)، ما يجعل من الولايات المتحدة دولة دكتاتورية، تَقْتُلُ شُرطتُها الأبرياء، خاصة إذا كانوا مواطنين من ذوي البشرة السوداء، وتستخدم “العنف المفرط” ضد المتظاهرين، بِلُغَة منظمات حقوق الإنسان، ما جعل الأمين العام للأمم المتحدة يَطلب “التحقيق في حوادث العنف في الولايات المتحدة”…
أثناء فترة “الحرب الباردة”، وبعد الملاحقات والمحاكمات خلال الحقبة “الماكارثية”، تورّطت الإمبريالية الأمريكية في حرب فيتنام، حيث كان السود الفُقراء يُشكلون نسبة 50% من الجنود القتلى، فيما لا تتجاوز نسبة السود 12% من سكان الولايات المتحدة، وكانت تلك الحرب من دوافع انطلاق حملة المطالبة بالحقوق المَدَنية وبالمُساواة، لكن العُنصُرية مُتأصِّلَة في تاريخ وبُنْيَة المجتمع الأمريكي وفي المُؤسّسات (خاصة الشرطة والقضاء)، وفي الإيديولوجية السائدة، ولئن تحرّر السّود من العُبُودية التقليدية، فإنهم بقوا فُقراء يُعانون من البطالة ومن افتقاد السكن اللائق والصحي، ومن الأمراض، وكان عدد الإصابات بالفيروس التاجي، وعدد الضحايا من بين المواطنين السود مرتفعا جدًّا، ولا يتناسب مع نسبتهم من العدد الإجمالي للسّكّان…
كانت الولايات المتحدة مسكونة بأهلها الذين سماهم المُستعمِرُون الأوروبيون “الهنود الحُمر”، قبل إبادتهم، والإستيلاء على أراضيهم، ووطنهم، ثم جلبوا العبيد من إفريقيا لزراعة الأرض، فاختطف تُجار العبيد الأوروبيون ما يزيد عن 12 مليون شخص من السواحل الغربية لإفريقيا الواقعة على المحيط الأطلسي، وتوفي منهم ما لا يقل عن مليونَيْن أثناء الرحلة، أَلْقى الأوروبيون بجُثَثِهِم في البحر، وتحول من وصلوا من النَّاجِين إلى عبيد، وقُوى عاملة مجانية، تُباع وتُشْتَرى في أسواق العبيد، وأصبحت الولايات المتحدة أقوى دولة رأسمالية، بفضل العبودية، وقوة العمل المجانية، والعبودية والميز ليست مسألة أخلاقية فحسب، بل لها علاقة وثيقة بالإقتصاد، فالعنصرية والمَيْز ضد السود أو ضد النساء (أي خفْض رواتبهم وزيادة عدد ساعات عملهم) مُرْبِحٌ، لأن حجم التراكم الرأسمالي وفائض القيمة يرتفع كلما ارتفع حجم ونسبة الإستغلال والاضطهاد، ما يدعو إلى مزيد من التأمل والتفكير في العلاقة العضوية بين الصراع الطبقي والرأسمالية بمكوناتها الثقافية والإيديولوجية وتفضيل لون أو “عِرْق” على آخر، لتقسيم الناس وخلق “تَراتُبِيّة” بين المُعَرّضِين للإستغلال والإضطهاد، لكي يُعادِي البرولتيتاري الأبيض رفاقة السّود، ولتصبح العنصرية أداةً لتقسيم صفوف الطبقة العاملة، ولاحتواء الصراع الطبقي، لكي يتمكّن رأس المال من تحقيق التراكم والفوائض، بدون إزعاج، ورغم إنهاء العبودية رسميا، لا يزال المواطنون السّود يعيشون في حالة فقر، ويعتبرهم أحفاد المُستعْمِرِين الأوروبيين البيض، سكانًا من درجة ثالثة، وتشير الأرقام الرسمية الأمريكية أن الوفيّات (في المستشفيات) نتيجة وباء كوفيد – 19 بين السكان المنحدرين من أصول أفريقيّة يبلغ أربعة أَضْعاف عدد الوفيّات بين السّكان ذوي البشرة البيضاء، رغم عدم تجاوز نسبة المواطنين السود 12% من إجمالي عدد سكان الولايات المتحدة، ويتَعَرّضُ السكان السود للإصابة بمرض ارتفاع ضغط الدم أكثر بمرتين من ذوي البشرة البيضاء، بسبب سوء أو غياب الرعاية الصحية في المناطق الفقيرة التي يسكنها السود، وظروف العيش التي تُعيد إنتاج الفَقْر، وخلال العدوان الأمريكي على فيتنام، شكّل الجنود السّود نسبة 50% من الجنود القتلى الأمريكيين، لأنهم كانوا (ولا يزالون) فُقراء، يُجَنّدون بسهولة، ليموتوا دفاعًا عن مُسْتَغِلِّيهم ومُضْطَهِدِيهم…
إن ما يُزعج الرأسمالية والطّغمة المالية، هو اتحاد العمّال والكادحين والفقراء والمُضطَهَدِين والنساء، مهما كان لون بُشْرَتِهِم، وقد يَذْكُرُ بعض المُتظاهرين تاريخ الصراع الطبقي في الولايات المتحدة، وإضرابات ومظاهرات وتضحيات عاملات النسيج، وعُمّال مدينة “شيكاغو”، وانطلاق فكرة اليوم العالمي للعمال (1 أيار) واليوم العالمي للنساء (08 آذار)، ويتخوف النظام القائم من اتحاد 43 مليون مُعَطَّل عن العمل، وقرابة 45 مليون فقير، وحوالي خمسين مليون مواطن ومواطنة لا تشملهم منظومة الحماية الإجتماعية، من بينهم ثلاثين مليون مواطن غير مشمولين بالرعاية الصحية…
إن العنصرية مُتأصِّلَة في المجتمع الأمريكي، ومُترابطة عُضْويًّا مع تطور الرأسمالية، بهذا البلد، الذي شَرّع العُنف، منذ وطأت أقدام المُستعمرين البيض الأوروبيين تلك الأرض، لإبادة السكان الأصليين، بداية من القرن السابع عشر، ولا تزال الجرائم متفشّية، حيث تفيد البيانات الرسمية بحدوث 16214 جريمة قتل و132 ألف جريمة اغتصاب و 1,2 مليون جريمة عُنف، سنويا (أرقام سنة 2018)، وتتميز الشرطة بكثرة “الإستخدام المُفرط” للعُنف، إذ قتلت الشرطة، خلال عشرة أيام، أربعين من المُتظاهرين ضد عُنف الشرطة الذي أدّى إلى اغتيال “جورج فلويد” (من 26 نيسان إلى 04 أيار/مايو 2020)، وجرحت الشرطة ما لا يقل عن 2500 متظاهر، واعتقلت حوالي 16 ألف متظاهر في أكثر من مائة موقع ومدينة، ونشرت السلطات أكثر من 17 ألف جندي من الحرس القومي في المدن الرئيسة، واعتدى هؤلاء الجنود بالضرب، وبالرصاص المطاطي، على ما لا يقل عن مائة صحافي، كانوا يُؤَدّون عملهم، ويتابعون المظاهرات، وفقدت إحدى الصحافيات عينها، في “مينيابولس” جراء إطلاق الشرطة الرصاص، واعتقل الجنود ما لا يقل عن عشرين صحافي، خلال عشرة أيام، واغتنمت مليشيات اليمين المتطرف هذه الظروف ودعم السلطات لها، لتمارس كافة أشكال العنف، بما في ذلك العنف المُسلّح ضد المُحتجّين، ودهسهم بالسيارات والشاحنات، بتشجيع من دونالد ترامب ومُسانديه…

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.