بالرأسمالية: الصين في المنزلة الوسطى، عادل سماره

صحيح أن الدولة القومية لم تنسحب من المشهد الدولاني/السلطوي ولا سيما اقتصاديا لصالح الشركات، وصحيح ايضا أن الشركات قد حولت الدولة القومية إلى مديرة وحارس وحتى أداة عدوان لصالح أعمالها في الخارج. هذا ما يمكننا تسميته الاندغام الثاني أي بين الدولة والشركة أل “دو/شرك” على صعيد النظام الراسمالي العالمي بعد اندغام راس المال الصناعي في البنكي في بدايات القرن العشرين، اي ان هناك قرنا بين الاندغامين، وكأن ذلك يحصل على صعيد قرنوي /من قرن لقرن، مما يذكرنا بحوليات قصائد زهير بن ابي سُلمى بقصائده الحولية من عام لعام.

وإذا انطبق ما نراه، تماما على الدول الراسمالية الإمبريالية الغربية وخاصة الولايات المتحدة، فما مدى صحة هذا على الصين الشعبية؟

المغزى من هذه المقالة هو وجوب التنبُّه الماركسي العربي وحتى القومي كي لا نجد انفسنا نلهث وراء سياسات الصين الشعبية  لسبب واحد هو أنها ، بلا شك، أفضل من الغرب العدو. إلا أن هذا الفارق وحتى لو كان فالقاً، يجب أن لا يورطنا في تبعية مجددة بعد تجربتنا مع الاتحاد السوفييتي السابق.

أُثير هذه المسألة لأنني ألاحظ المديح الهائل حتى التلطي وراء نجاحات الصين الشعبية سواء من حيث معدلات النمو او من حيث التفوق الإنساني على الغرب الراسمالي الاستعماري في مواجهة جائحة كورونا. ومن مخاطر هذا التلطي وكَيْل المديح أنه لا يطرح: وماذا عن الوطن العربي؟

ولننتقل من التقديم إلى المتن، صدرت عن قيادة الصين الشعبية مؤخراً مواقف متقدمة عن الغرب فيما يخص مساعدة البلدان الأشد فقراً في مواجهتها لوباء كورونا على الأقل على الأساس الصحي. وبالطبع معروف أن البلدان الأشد فقرا والفقيرة وغالبا مجمل المحيط تعاني أساساً أزمات تُغري كورونا باقتحامها ومنها:

  • عجز إنتاج الغذاء أي ضعف الأمن الغذائي بالمعنى المعيشي فما بالك بالمعنى الأمني الوطني لتجنب الاستعمار المتجدد.
  • وزيادة عدد السكان كمسألة منفلته تحسنت بموجب الوعي الصحي والذي لم يترافق مع وعي اجتماعي بمعنى عدم التناسل المنفلت بما هو  طريق إلى بطالة أعلى  وفقر منفلت ومن ثم التبعية.

ماذا تقول الصين في المديونية؟

“يوم 17 نيسان 2020  حثت الصين الشعبية البنك الدولي على تعليق مدفوعات الديون لأشد البلدان فقرا، اي السماح لأشد المقترضين فقرا بوقف سداد الديون أثناء تعاملهم مع جائحة الفيروس التاجي قائلة إن أكبر بنك تنموي متعدد الأطراف في العالم يجب أن “يقود كقدوة”.

هذا الخطاب الرسمي الصيني والمشوب بدبلوماسية عالية ليس خطابا اشتراكياً. فالمصرف الدولي ليس مؤسسة تنموية اساساً بل مؤسسة تعني بالنمو وطبقاً لرؤية المسيطرين عليه، ولا حاجة لتعداد دوره في الانكفاء عن إقراض مشاريع تنموية لدول خارج عباءة الإمبريالية، ولنتذكر كيف رفض تمويل مشروع السد العالي في مصر. أما ان يكون قدوة، فهذا خطاب ضار لوعي القوى الثورية وخاصة الشابة، فبئست من قدوة.

“… وقال وزير المالية الصيني ليو كون في بيان أمام لجنة التنمية بالبنك الدولي إنه يتعين على جميع الأطراف المشاركة في الإجراءات المشتركة التي وافقت عليها مجموعة الدول العشرين لمعالجة أوجه الضعف في الديون وسط الوباء ، بما في ذلك الدائنين التجاريين والمتعددي الأطراف والثنائيين الرسميين”

ولكن علينا أن نتذكر أن مجموعة العشرين، ومجموعة ال سبع G7  وهي قيادة العشرين، هي التي تتحكم بالاقتصاد العالمي وهي التي سواء أثناء أزمة 2008  الاقتصادية المالية والأزمة الحالية “كوفيد 19 ” الاقتصادية الصحية قد أمرت بلدان المحيط بأن لا تتبنى سياسات حماية اقتصادية لأن هذا “يُضر بالاقتصاد الدولي”! والمقصود أن تواصل بلدان المحيط اسيراد منتجات السبعة والعشرين بدل أن تقوم ولو ببطء بتبني:

  • الحماية الشعبية
  • وصولا إلى فك الارتباط.

وعليه، فإن تجميد دفع الديون اي تأجيل ذلك هو تحويل مؤقت لبنود الاستيراد من مجال إلى آخر اي ان دول المحيط سوف تستورد، اي تواصل الدفع، وهي مواصلة تقوم على استدانة دولارية، أي مديونية جديدة، وهذا الأهم، ولكن انتقالا من بند لآخر. وبالطبع في هذه الدعوة، أي التركيز على الصحة، وللإنصاف رفض للتوجه الإجرامي لتقليص سكان العالم عبر مؤسسة بل جيتس وعائلات الحكومة العالمية روتشيلد وروكفر…الخ.  لكنها ايضا، اي دعوة الصين لا تخرج  عن نطاق الشعار الرأسمالي المعولم “تحرير التجارة الدولية” أي  تبعية المحيط للمركز.

“… وقال ليو إنه إذا فشلت مجموعة البنك الدولي في المشاركة في الإجراءات الجماعية من أجل تعليق مدفوعات خدمة الديون ، فإن دورها كرائد عالمي في التنمية متعددة الأطراف سوف يضعف بشكل خطير ، وسوف تقوض فعالية المبادرة”.

لعل هذه الفقرة في الخطاب هي الأوضح، بمعنى أن المطلوب هو تعليق خدمة الديون وليست أقساط الديون. ومعروف أن البلدان الأشد فقراً هي عاجزة عن دفع كل من اقساط وخدمة الديون.

من ناحية ثانية، تقاطعت تصريحات دول العشرين مع دعوة الصين كي توضح الأمر أكثر:

“… إتفقت الاقتصادات الرئيسية لمجموعة العشرين …. على تعليق مدفوعات خدمة الديون الرسمية الثنائية لأفقر دول العالم حتى نهاية العام ، وهي خطوة سرعان ما تواكبها مجموعة من مئات الدائنين من القطاع الخاص. وكان من المتوقع أن يوفر أكثر من 20 مليار دولار للدول لإنفاقها على مكافحة تفشي الفيروس التاجي”.

ولكن، طالما أن تعليق دفع خدمات الديون للفئة المقصود من بلدان المحيط هي حتى نهاية العام، مع العلم بأن نتائج الإقراض تحقق عادة أضعاف قيمة القرض نفسه مما يجعل الإقراض عملية مربحة ماليا  دون جهد، بل هي نمط من الريع،  ومما يعني أن تأجيل دفع خدمات الديون ليس مسألة كبيرة من جهة، ومن جهة ثانية، فهذا التأجيل قد طُرح في نيسان من هذا العام، ولو افترضنا بوشر به فورا فإن فترة التأجيل جِد قصيرة من جهة، ومن جهة ثانية، فإن دول المركز الإمبريالي نفسها تتحدث عن موجة من نفس الوباء في العام القادم هي الأقوى من الأزمة الجارية.

بدوره قال رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس ،”… الذي دفع من أجل مبادرة ديون مجموعة العشرين، في اجتماع لمسؤولي المالية في مجموعة العشرين إن تحمّل الديون من قبل بنوك التنمية المتعددة الأطراف سيتطلب منهم الحفاظ على الجدارة الائتمانية.”

وهذا يحتوي على تحذير مبطن لصالح الدائنين بمعنى وجوب الحذر فيما يتعلق بتحمل الديون من جهة وبقاء الجدارة الإئتمانية في مستوى عالٍ ومضمون ذلك لأن راس المال يهمه التراكم في التحليل الأخير.

يقودنا ما ورد أعلاه إلى السؤال المركزي وهو وجوب إلغاء الديون وليس تأجيل خدمات الديون وذلك للأسباب التالية:

أولأ: لأن الديون من الدول الغربية خاصة هي ريوع واستغلال من بلدان المحيط تم نهبها على مدار قرون ولم تتوقف.

ثانيا: معظم الديون مع مرور بضعة أعوام تغطي الفوائد والخدمات والأقساط قيمة القرض وتزيد بشكل مضاعف، فهي اساس “استثمار” مريح ومربح للدائن.

ثالثاً: موقف الصين ليس موقفا اشتراكيا، فهي ايضا دولة إقراض رغم أن شروطها أفضل.

رابعا: دعوة الصين تضع كوابح في وجه أية دولة في المحيط تحاول الخروج على النظام العالمي وترفض دفع الديون وتتجه نحو فك الارتباط بالسوق العالمية لأن الصين نفسها في مقدمة هذه السوق إن لم تكن تقودها.

من هنا، نعودلبداية المقالة بمعنى، أن انحيازنا للصين الشعبية يجب أن لا يكون ارتماء في أحضانها ولا تناسٍ لوجوب بناء واقع عربي تنموي ووحدوي مهما كانت الصعوبات وذلك من أجلنا ومن أجل مختلف الأمم المنهوبة.

هذا العالم اساسا ودائما وخاصة مع ازمته المضاعفة المزدوجة: أي الاقتصادية والصحية لا مجال له سوى التوجه لفك الارتباط والإشتراكية، وهذا يؤكد بان الحلول الجزئية كتاجيل خدمات الديون هي تخديرية وإبقاء الفقراء في فقرهم وليس حفزهم إلى ثورتهم.

_______

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.