“كنعان” تتابع نشر كتاب “فلسفة المواجهة وراء القضبان”، تأليف: محمود فنون، الحلقة (13)

7- تشتيت الأفكار

ما دامت كل الممارسات والأساليب التي يتبعها المحقق، تهدف إلى تحطيم شخصية المعتقل الوطنية، ونفسيته وصموده، فإن تحطيم تماسكه واتساق تفكيره، وتشتيته يشكل خطوة هامة لتحقيق هذا الهدف. فما دام المناضل ثابت البنان متماسك الشخصية، مترابط الأفكار، فإن ردود فعله تظل واعية، ووحدة جوانبه الداخلية تظل سداً يحميه من هجمات المعتدين، وهذه الحقيقة تدفع بالمحققين لزعزعة أركان المناضل وتشغيل أفكاره في أكبر عدد ممكن من القضايا، وجره للتفكير في أكبر عدد ممكن من القضايا، وجره للتفكير في أكبر عدد ممكن من الحلول والمخارج، والعلاقات، والصداقات، والخيارات المطروحة عليه، بل فإن المحققين حتى يبلغوا هذه الغاية يحاولوا أن يفرضوا عليه الاجابة على أسئلتهم في وقت واحد،أو تقديم مؤثرات متعددة له دفعة واحدة كأن يقولوا له بعض القرائن ضده، وفي نفس الوقت يتعمدوا ملاقاته مع أحد زملائه المعتقلين، وفي لحظة قريبة جداً يجعلوه يشاهد أحد أقربائه أو قريباته، ويحدثه أحدهم عن ظلام السجن والقسوة التي سيلاقيها فيه ومدة حكمه التي تزيد عن كذا سنة، وينصحه بأن يتعاون معهم حتى ينتهي من هذه الورطة… وربما يوهمه أحدهم بأنه أدلى بالكثير مما لديه بينما كان نائماً في الزنزانة وأنهم سجلوا كل أقواله، مع تذكيره بكل ما قيل له في عملية التشكيك التي يكونوا قد مارسوها من قبل.

والمعتقل يلاحق كل شيء بأفكاره وتصوراته، ثم يشك في وضعه، ثم يشك في زملائه في الزنزانة أو أي شيء من هذا القبيل اذا انساق وراءهم، وهو سيتداعى في نفسه وتفكيره شريط متلاحق وربما متشابك، عن حياته في السجن، حالة أولاده وزوجته، أو حالة أمه، امكانياته في الاستمرار بالصمود، واستمرار فترة التحقيق والتفكير برفاقه، وهل أحدهم عميل.. أي أن الاستجابة الميكانيكية لأسلوب التحقيق هذا تجعل المعتقل يفكر لحظياً وعلى وجه السرعة بعدة أشياء ليس بينها من ترابط، والرابط الوحيد الذي يمكن أن يجمعها مع بعضها هو عملية التحقيق، وطولها، وشدتها وهل يعمل ما من شأنه الخلاص منها بالادلاء بالاعترافات أم يصمد للتحقيق ويخلص من العار والسجن معاً.

في حالة التشتت المقصودة هذه، والتي يحاول المحقق استجلائها وافتراض وجودها بعد جملة من الممارسات (تعدد المحققين، تعدد  الأسئلة من نفس السياق، تعدد سياقات الأسئلة، طرح القرائن التشكيك بالرفاق والثورة، الاغراء، والترهيب واثارة العواطف..) ومن ثم يدخل في صميم الموضوع من خلال نقطة ضعف يلاحظها في حينه.

ان المحققين الصهاينة، ورثة تراث التحقيق البريطاني في فلسطين، وهاضمي دروس التحقيق النازي، الذين يصوغون نظرياتهم في التحقيق بالاعتماد على هذه الخلفية ووفقاً للعلم الأمريكي وخبرات الفاشية في العالم ولا يتورعوا عن فعل أي شيء من شأنه ايصالهم لأهدافهم وهم لا يحتكمون الى نظم أخلاقية محترمة، أو يراعون مشاعر انسانية، أن أخلاقهم هي الأخلاق الاستعمارية العنصرية، وسلوكهم فاشي النزعة، وغارقين في بحر من القذارة والعفونة بحيث أن دفاعهم عن استمرار اضطهادهم مقرون باستمرارهم في ممارسة أبشع أنواع الاضطهاد ودفاعهم عن استغلاليتهم أيضاً مقرونة باستمرارهم في ممارسة أبشع أنواع الاستغلال مهما كان نوعه أو مداه.

 ولا يهمهم في مجال التحقيق أن يستغلوا ويستثمروا كل شيء حتى العواطف الانسانية، والأبناء، وسيتقدمون بنات المعتقل وأهله ويرهبونهم، وأحياناً كثيرة يطلبون منهم أن يضغطوا على المعتقل بعد أن يقنعوهم بأن مجرد اعترافه يكفي للافراج عنه واراحتهم جميعاً من المشكلة. انهم يلجأون الى المساس بالشرف الانساني، وهتك الأعراض، ويسببون العاهات الجسمية والعقلية، وتشويه السمعة، ويستثمرون نسائهم في ابتزاز المعلومات من المعتقلين.

وضمن هذا الاطار الهجومي، يتلقى المعتقل الضربات الجسدية ، والمعنوية، والأحكام التعسفية ونسف البيوت وليس له من سلاح الا صموده وصلابته في عمليات التحقيق.

ان المعتقل لا يستطيع أن يستند الى عدالة القوانين، ولا الى انسانية القضاة ونزاهتهم، ولا يستطيع أن يستند إلى كفاءة محامي الدفاع، فكل هذه العناصر محسوب حسابها عبر عملية التحقيق وصياغة افادات الاعتراف التي غالباً ما يصوغها شرطي لم يسبق له أن شارك في عمليات التعذيب والتحقيق وغالباً ما تختفي كل الوجوه التي اشتركت في التحقيق عدا هذا الشرطي الذي تقدم له أوراق جاهزة ينسخها على الأوراق الرسمية التي تقدم للمحكمة.

 ان هذا الشرطي هو الذي يقدم الافادة للمحكمة، ويصبح شاهداً يدلي بأنه وبكل بساطة جلس مع المناضل وقدم له سيجارة ومن أول سؤال أدلى المناضل بكل ما هو مكتوب في الافادة، وأن الشرطي هذا قد حذره من عواقب ما يقول. الا أن المناضل أصر على الكلام وفضل أن يقدم كل ما لديه للسلطة.

هكذا تسير العملية كذباً وخداعاً، ولا يستطيع المناضل أن يثبت في المحكمة أنه تعرض لأي تعذيب حتى ولو كانت آثار التعذيب بادية للعيان. كل ما جرى في أقبية التعذيب يجري اخفاؤه، وينبري المدعي العسكري لكيل التهم والقاضي للحكم رغم دفاع المحامي الذي ينظر له من قبل المحكمة والسلطة نظرة سلبية لأنه يدافع عن الفدائيين ولا تحمل أقواله محمل الجد.

اذن بقي شيء شديد الأهمية وهو أن يمتنع المناضل عن تقديم أي افادة مهما كانت حتى يعجز طاقم المؤامرة عن تقديمه للمحاكمات الصورية. هذا هو جوهر الأمر.

هذا الامتناع يتطلب صلابة وصموداً في التحقيق، تفشل كل الأساليب، تصمد للضرب، ولا تستجيب للمؤثرات النفسية الأخرى. وهذا يتطلب أيضاً مزيداً من التماسك والفطنة، وثبات الشخصية، وانسجام في التفكير.

عندما يأخذ المحقق في طرح سمومه التشتيتية أو التشكيكية، فإن الاستعلاء من قبل المناضل على هذا الضابط الحقير والذي يدل على عدم التأثير والاستجابة ،يكفي لأن يغلق ضابط التحقيق فمه ويتعرى من أسلحته الهمجية واللاأخلاقية ويظل أمام خيارات صعبة بالنسبة له وسهلة بالنسبة للمعتقل مكتفياً فقط بالأسئلة المباشرة والتحقيق المباشر المكشوف والصراع المكشوف من أي غطاء، فاما أن يجبر المعتقل على الاقرار والاعتراف وهذا صعب جداً أو يسلم بعجزه عن ذلك.

8- التركيز على العواطف والقيم الاجتماعية:

ان محاولات تشتيت أفكار المناضل تأخذ عدة أشكال كلها تهدف إلى زعزعة صموده، ولكن عبر هذا التشتت الذهني، يستفرد المحقق بالمعتقل مركزاً على الجوانب العاطفية والانسانية والأخلاقية لديه، كما ذكرنا سابقاً فإنه لا توجد أية معايير تمنع المحقق من اتباع الأساليب والوسائل التي يعتقد أنها مفيدة له ومؤثرة في صمود المناضل قيد التحقيق. وقد حصلت عدة وقائع لا حصر لها في هذا الشأن منها قصة المعتقل (أ) وهو أب لثلاثة أولاد من بينهم فتاة جميلة في السابعة عشر من عمرها يبدو عليها تمام النضوج والتفتح للحياة، شديدة التعلق بوالدها الذي يحبها (بكل الدنيا كما يقول، ويغدق عليها من عطفه وحنانه ما لا يوصف من عطاء أبوي، يعيش هذا الأب مع أولاده، ومنذ توفيت زوجته التي كان يحبها، يشعر أن هؤلاء هم كل عالمه، هذا العالم المحاط من كل جانب بالألفة والمحبة والتفاهم. وفي يوم من أيام عمله مر عليه ثلاثة رجال طلبوا منه طعاماً وبعض المساعدة، قدم لهم حاجتهم بعين الرضا، وبعد أن لاحقة الواشون اعتقل وثبت في أقواله ثبات الفلسطيني على قضية، وبعد اليوم السادس عشر وبينما هو في قبو التحقيق، انفتح الباب عن ابنته عارية الصدر، منفوشة الشعر باكية، ولشدة ذهوله سقط على الأرض، وبعد أن رشوا عليه الماء أقعدوه، وأخذ أحدهم يغازل الفتاة ، ويعرض عليها نقوداً اذا ما قبلت بمضاجعته، ويمرر يديه على صدرها، ويحتضن بكفه ثديها، والآخر يساوم الأب الذي شعر بالعجز. فهو لا يستطيع أن يمنع الوغد الذي يطعن بعرضه، بل بما هو أغلى من كل الوجود، ابنته،  والآخر يعده بطرد زميله ان هو ذكر لهم اسم الرجال الثلاثة الذين مروا عليه وأوصافهم، وان لم يذكر فإن أولاده الموجودين في الغرفة المجاورة سيتعرضون أمام عينيه لأبشع مما تعرضت له ابنته الغالية.

هذه هي ابنتك، هل تحبها، هل تخشى العار، هل هي غالية عليك، وسمعتك هل هي غالية عليك، ماذا سيكون موقف أولادك بين الناس حين يقال أن عرضها مهتوك، وأن أباهم باع ابنته للمخابرات كي تفرج عنه.. سأسمح لزميلي أن يضاجع ابنتك وبعد أن ينتهي تأخذها وتذهب للبيت أنت وأولادك بالسلامة، لا من رأى، ولا من دري… خذها…

 وهنا طار صواب الأب وبعد أن حاكم المسألة بأنه اما أن يعترف ويسلم عرضه، أو يظل صامتاً ويطعن، بعد ذلك انهار وقال كل شيء).

هو رجل في الخامسة والخمسين، فلاح أمي شديد التمسك بالقيم، وشديد العطف على شرف ابنته الذي تدنس بين يدي رجال التحقيق وسيكون مصيرها الموت بالطبع غسلاً للعار، فالأسهل من زاوية النظر هذه أن يشي بثلاث رجال، ولأنهم مسلحون، يحكم هو بعشر سنوات، وينسف بيته- واذا استمرينا في وضع المسألة بهذه الصورة فإن خياره كان شديد الصعوبة، ولأنه (شهم) فرط بنفسه وبالرجال الثلاث حماية لعرض ابنته ولحياتها التي تهددت منذ أن وضع الجندي يده على ثديها دون ارادتها!

ان المسألة أمام هذ الرجل لم تكن مسألة انتماء عقائدي ثوري، بل انتماء عشائري وعقائدي عشائريي. وضمن هذه القيم فإن العرض أغلى من الأرض ومن الروح فهو يوازن بين طرفين يعطيهما نفس القيمة، وحتى يعطي ما يسمى شرفه العشائري قيمة أكبر من شرفه الوطني ويختار على هذا الأساس.

ان هذا النموذج من البشر موجود فعلاً في بلادنا واذا حدث وان مر بتجربة التحقيق واستطاع المحقق كشف نقطة الضعف هذه فسيستعملها ضده، ولكن المحقق قد يلوي عنقه في تجربة من هذا النوع، عدا عن ذلك فإن تجربة كهذه ليس بالضرورة أن تنجح.

ان رجل المخابرات لم يحضر الفتاة لأقبية التحقيق بهدف المتعة معها، وهو ان مارس اي شيء انما يمارسه بغية الضغط والاذلال والترهيب من خلال اثارة العواطف استناداً على فهمه للقيم الاجتماعية التي يتحلى بها المعتقل.

وعليه، ومع أن كل أب يثار لمصلحة ابنته، فان هذه الابنة لا يتعين بالضرورة أن تحجب المسألة الوطنية بل يمكن استعمالها فيما لو حصلت كنوع من بلبلة المحقق نفسه وافشال خططه.

وان موقف المعتقل أمام هذا النوع من الضغط والإثارة بطريقة تعكس صموده وصبره سوف تعني فقط أن طاقم المحققين بذل جهداً وأضاع وقتاً دون جدوى. ان المحقق الذي يهدد بجلب الأولاد أو النساء وضربهم والاساءة اليهم انما يهدد صمود المعتقل وليس الاولاد مهما كانت ممارسته معهم، وتجربة الأولاد ستكون فخراً لهم اذا ما توجت بصمود والدهم وصلابته وعدم خضوعه للضغط والإبتزاز.

 فمن باب أولى أن يحرص المعتقل على نفسية وكرامة أولاده، بأن يصمد ولا ينهار ليكون في نظرهم بطلاً تعرض لكل هذه الأشكال من التعذيب والضغط وصمد.

لقد كثر استعمال هذا الأسلوب في الآونة الأخيرة دون جدوى تذكر فعلى ما يبدو أن أنواع المعتقلين المختلفة قد أدركت اللعبة وأفشلتها، وليس قليلة الحالات التي يعرض فيها أحد الأبناء أو الأقرباء على المعتقل في التحقيق وينكر أية صلة شخصية به، بل حتى ينكر أنه يعرفه وهذا بالتأكيد يسقط في يد المحقق ويزعزع نهجه في التحقيق ويدفعه للنتيجة المرجوة (اعلان افلاسه).

ان المحقق الذي لا يتقيد بأية قيم انسانية شريفة، يفترض أن المعتقل وفي ظل ظروف التحقيق سوف يثار من أية مشكلة… قيمه الأخلاقية على وجه الخصوص، وضعه الجنسي، سمعته الشخصية وربما الوطنية، وليس غريباً أن يجري اعتقال مواطنين من قريته أو أقربائه أو من عشيرة أخرى ويوحي لهم بأن فلان هو الذي اعترف عليكم، ثم يستغل هذه الوضعية المؤثرة ضد فلان هذا ويضغط عليه ليعترف بما لديه مقابل الافراج عن الآخرين وانقاذ سمعته في القرية، أو انقاذ القرية من مذابح بين أفرادها.

ان الحقيقة سوف تظهر في يوم ما. فاذا اعتقل عدد من الناس حقيقة ، أو أو أوهم المعتقل بذلك، فان هذا لا يبرر الخضوع لرغبات المحقق والانسياق وراء ألاعيبه، والآخرين سيفرج عنهم حتماً في أقرب فرصة وتنتهي المسألة.

وقد لا حظنا في كل مرة أن المحقق يتصرف هذا التصرف أو ذاك ويستمر عليه ويكرره بقدر ما يعتقد أنه سيعطي نتائج مرجوة له، أما اذا لاحظ أن تصرفه هذا سيثير مزيداً من الصمود والصلابة والحقد عند المعتقل فإنه سيتجنبه.ان المحقق الذي يمارس كل هذه القذارات من موقع السلطة يستحق السخط والنقمة المتزايدة وان يستمر التحدي معه حتى النهاية لتحطيم نفسيته هو، وتشكيكه بقدراته وأساليبه هو حتى يرفع الراية معلناً الهزيمة.

ومن المناسب الاشارة هنا أن المحقق يتعلم كيف يعامل المعتقلين في التحقيق، ويتعرف على ظروف حياة المجتمع وقيمه من خلال دروس مجردة يعتقد هو أن ما تعلمه ملائم لكل فرد، وحتى بالرغم من تجربته فإنه يظل يحمل في فهمه قوالب مفصلة سلفاً يحاول تطبيقها على هذا أو ذاك، وحينما يجد أن هذا القالب غير ملائم فإنه يبحث عن غيره، فالمحقق قد يستمر في الحديث عن البيت والأطفال والزوجة لكل أب يعتقل، وهو لا يعرف بالضبط مدى جدوى حديث كهذا مع كل معتقل بل يحاول أن يتحسس بعض الآثار.

 ان المحقق قد يستمر في الحديث عن شرف العشيرة وكرامتها مع شخص لا يتقيد بالقيم العشائرية، وربما يستمر في الحديث عن حالة الأم وبؤسها نتيجة اعتقال ابنها علماً بأن الأم متوفية أو خارج  البلاد ولا علم لها بالمسألة، أو يستمر في تفصيل هذه الثياب أمام معتقل ثوري ملتزم لا تهزه لا هذه الأساليب ولا غيرها معتقداً أنه ما دام هذا المعتقل عربياً ومن القرية الفلانية فسينال من صموده بهذا الأسلوب اذا اتبع التلقين الذي تلقاه أثناء دوراته ودروسه.

وعليه فإن أساليب الاثارة التي يستخدمها المحقق قد تلقّاها جاهزة من أسياده وأساتذته، على أنها مجربة من جهة، وممكن أن تؤثر في صمود أي معتقل من جهة أخرى.وسر نجاحها مع بعض المعتقلين نشأ أساساً من كونهم مستعدين للتعاون مع المحقق مهما كان حجم سقوطهم، أما فشلها في الحالات الأخرى فهو الأمر الطبيعي وليس الاستثناء.

9- المفاجآت والصدمة:

من المعروف أن المفاجآت وخاصة عندما تكون  غير متوقعة تؤدي الى انقطاع سياق التفكير القائم وربما احداث بلبلة أوتشوش في تركيب ذهنية الفرد لفترة قصيرة أو طويلة، وقدرات الأفراد على تحمل الصدمات من هذا النوع متفاوتة. فالأم التي تتصور ابنها بين أقرانه مرحاً وسعيداً، وبينما تكون هي منخرطة في حالة نفسية معينة أياً كانت يأتيها الخبر المفجع بوفاة ولدها، لا شك أن مفاجأتها بالخبر تحدث لها صدمة معينة، وقد يشل تفكيرها لفترة تطول أو تقصر، والمعتقل في التحقيق الذي يظن أنه الوحيد المعتقل من بين أفراد الخلية أو المجموعة بينما الآخرين في مأمن ، وان فلان بالذات لن تطوله أيدي المخابرات، وفجأة ينفتح باب القبو ليراهم دفعة واحدة، أو يرى أحدهم.إنه سيتأثر الى هذه الدرجة أو تلك، ويتعرض لصدمة معينة بقدر ما يكون المحقق قد أعده لذلك، وبقدر ما يكون هو مستبعداً الأمر. والمعتقل الذي يعتقد أن زميله في الزنزانة الأخرى لا يمكن أن يعترف بشيء وأنه مثاله في الصمود، وهو بالتالي في مأمن من أية وشايات من طرفه، أو أية سقوط يؤدي الى الحاق  التأثير بصموده وانتمائه، وفجأة يدخل المحقق حاملاً المعلومات الأكيدة عن انهياره جزئياً أو كلياً، معلومات صادقة أو تخمينية، هذا المعتقل قد يصعق للحظات.

أو  عندما يفاجأ أحد المعتقلين برفيقه المسؤول الذي كان طوال الوقت يعلمه دروس الصمود والتضحية والبطولة يدخل عليه القبو بصحبة المحققين ليقول له (انتهى كل شيء وما عليك الا أن تعترف) أو كما حصل في احدة المرات حيث دخل مسؤول مجموعه على الأعضاء الذين كافحوا آثار التعذيب وصمدوا لمدة ستة عشر يوماً متواصلة، دخل المسؤول بشكل مفاجيء ليقول لهم ( آمركم بأن تعترفوا فقد انتهى كل شيء ورتبت أمر الافراج عنا مع الحاكم العسكري… ) سيتعرضوا بالفعل لمفاجأة قوية. أن مفاجآت من هذا النوع مؤثرة بدون شك وهي وان لم تسبب صدمة قوية فانها على الأقل تثير التشوش الى هذا الحد أو ذاك للحظة أو لحظات وهذا ما يبغيـه المحقق بالتحديد لينهال على المعتقل بضغوطات ومؤثرات مستغلاً حالة البلبلة أو المفاجأة او الصدمة باغياً الاعترافات والتعاون.

 ليس من شك أن للخبر المفاجيء ، أو الحدث الغير متوقع أثره على نفسية الانسان فالانسان يتأثر بالمفاجآت ويتأثر بالأحداث عموماً ولكن لأي مدى ؟

لنتصور معاً مناضلاً عنيداً تحمل كل آثار التعذيب لمدة ستة عشر يوماً (بعض المعتقلين تحمل أضعاف هذه المدة ) ولم يدل بشيء أي أن التعذيب لم يفتّ في عضده، وتجاوزه بنجاح، وبعد يوم استراحة ، يطلبه المحقق ويقول أمامه بضع كلمات ، فيتناول ورقة وقلماً ويدلي بما لديه.

 ان تحليل هذه الظاهرة (بالفعل تكررت مئات المرات ) قد يساعد على الفهم : التعذيب والأساليب الأخرى. تملك أثراً تراكمياً على الانسان ولكنه لا يشكل نسقاً واحداً بل عدة انساق متناقضة وخاصة أن المعتقل تجاوز ستة عشر يوماً من التحقيق فبقدر ما يسعى المحقـق لاحداث الهزة ، فان المعتقل وعبر الجولات المتعددة كان لديه ما بعزز صموده اللاحق استناداً الى صموده السابق وهذا تناقض داخلي في مضمون مرحلة التحقيق ووضع قطبي التناقض متفاوت في عملية التأثير المتبادل ، بعد سياق كهذا يتعرض المعتقل لمفاجأة تملك أثراً ترابطياً على الآثار النفسية السلبية الناتجة عن عمليات التحقيق وهذا يفسر استجابته الفورية. لقد عززت المفاجأة استعداداً خفياً أو طفيفاً لدى المعتقل بالاعتراف. هذه هي المسألة وكان من الممكن وبكل بساطة ان لا يحدث ذلك بل تفعل المفاجأة فعلها في تعزيز الصمود وخلق الارتباطات بين جوانب التأثير النفسي الايجابي الذي نشأ عبر مرات الصمود السابقة في الجولات السابقة.

 وبالتالي نحن أمام حالتين في الواقع تؤديان الى نتيجتين مختلفتين : مفاجأة تؤدي الى الضعف ، وأخرىتعزز الصمود ، واذا كانت هاتان الحالتين واقعيتين ، فان حالة الضعف غير مبررة. فالمعتقل المعد سياسياً للنضال ، ومعد لمجابهة التحقيق وأساليبه لن تفوته فرصة ادراك غاية المحقق من طرح هذه المفاجأة.واذا كان صمد للتحقيق ستة عشر يوماً فهذا أكبر دليل مادي له على قدرته على الصمود حتى النهاية ولذا فإن ادلائه بالمعلومات هو سقوط مشين.  ان مئات الحوافز الايجابية تفعل فعلها في لحظة كهذه الى جانب الحوافز السلبية، ولكن التصرف الواعي هو الذي يحسم المسألة فلم يحصل أن انهار أحدهم بفعل الغريزة أو الدوافع الخفية. بل بعد حكم عقلاني هو خاطئ بالتأكيد.

“فلان اعترف عليك يقول المحقق!” فيقول المناضل في نفسه  “أنه اعترف فقط عن نفسه وعبر فقط  عن شخصيته المهزوزة اذا كان هذا الكلام صحيحاً أما أنا فلن تهتز لي قناه وسأحمل بنفسي عبء الصمود ليس بوصفه تضحية بل بوصفه واجباً مقدساً.”

 هذا ما يمكن ان يعتمل في نفسية المناضل الثوري بعد امتحانه بالمفاجآت المنغصة في أقبية التحقيق.. وليستمر الصراع حتى يأخذ مداه “أنا جزء من شرف الحزب وعليّ يقع عبء صيانة هذا الشرف”.

 هذا هو الاطار العام لأسلوب الصدمات النفسية والمفاجآت القاسية : مفاجآت عاطفية ، سياسية ، معلومات هامة يعبر المحقق عن معرفته بها ، أفراد زملاء يقبلون بمشاركة المحقق مهامه ضد المناضل بالقدوم الى قبـو التحقيق ونصحه بالاعتراف ، أو الاعتراف أمامه ، زميل في الزنزانة مدسوس يتفاعل مع المناضل ويحصل منه على معلومات يقدمها للمحققين فيواجهونه بها، وغير ذلك ضمن نفس الاطار ونفس الهدف الذى يتحرك خلاله المحقق للحصول على المعلومات والادانات وتوجيه الضربات بالتالى للحزب والثورة.

والمحقق لا يتبرع بتقديم المفاجآت اعتباطاً ، بل هو يتبع أساليب عديدة، ارهابية وتشكيكية وخلق أجواء نفسية معينة ثم يقدم العوبته ، ومع ذلك فان هذا النهج قابل للفشل أيضا فالذي تجاوز الأساليب السابقة فإنه سيتجاوز اثر بضع كلمات. المهم ان المحقق يعتقد أن المعتقل سينهار اذا ما فاجأه بعض الشيء ،فيستل سلاحه ويضرب ولكن هذا السيف قد يكون من ورق وعلى الأكثر من خشب، يخدش ولا يقتل ، فينطوي المحقق على نفسه مفكراً لا يلوي على  شيء وليس أمامه الا أن يستمر في الضغط محاولاً الحصول على نسبة أقل فأقل إلى أن يتحقق من أن المفاجأة قد فقدت أثرها ليكون أحد الأساليب الخطيرة في نظره قد فشل. وماذا بقي؟.

ان ما يمكن ان يسمى مفاجأة ليس صدمة أو مفاجأة في نظر الجميع ، أن المحقق يفكر أن قوْل شيء ما سيكون مفاجأة لأحد المعتقلين من صنف معين فيقدم له شيئاً ما على أنه مفاجأة. هذا الصنف من المعتقلين وهم الأكثر بساطة هم الذين يتعرضون لأساليب كهذه. أما في حالة المعتقل المحسوم ثورياً، والذي يحمل رجل التحقيق عنه فكرة أخرى على أنه مجرب ، او شخصية شديدة التماسك فان المحقق سيقدم له كل المعلومات التي تعتبر مفاجأة ويمكن أن تحدث صدمة لغيره، يقدمها له في سياق الحديث والمحاصرة، وربما منذ الجولات الاولى ، فليس كل معتقل في نظر المحقق يمكن مفاجأته. وفي كلتا الحالتين فإن تقديم المعلومات للمعتقل يمكن أن يفيده لا من باب المفاجأة بل من باب فهم وضعه في التحقيق مما يساعده على حسن التصرف واستمرار الثبات.

 ومن المناسب أن نؤكد هنا أن مواجهة التحقيق لا تتم بشكل جماعي.. أن معركة التحقيق المدعومة بكل ما يمثله طرفي الصراع هي معركة فردية من حيث الواقع أنها معركة المعتقل بلحمه ودمه، بوقوفه في المقدمة وفي أصعب مراحل الصراع بصورة عامة. فكل أشكال الصراع الأخرى يخوضها المناضل محاطاً مادياً ومعنوياً بمنظمات وجماهير وتحليلات وقرارات وأطر سياسية ، أما معركة التحقيق فيخوضها فردياً ممثلاً عن كل هؤلاء ومعبراً عن تركيز وتكثيف شديد عن الطرف الثورى.. ان وقوفه كفرد (مع ان هذا لا يلغي ارتباطاته المتعددة) يعني أنه هو لوحده الذي يتخذ قراراً بالصمود في لحظة من اللحظات دون الاهتمام بما يقره الغير من زملائه في التحقيق. أنه هو ، وهو فقط صاحب القرار، وصاحب الموقف، وليس لموقف وقرارات الآخرين بالاعتراف، أو بأي شيء آخر.

وعليه، اذا اعترف فلان، أو اذا كان علان عميلاً، أو اذا كانت المخابرات تعرف أنه مناضل فإنه سيظل هو بلحمه ودمه وأعصابه يتحمل مسؤولية المواجهة ما دامت قد وقعت. وعلى فرضية انـه سيتعرض للمحاسبة بعد خروجه من السجن وهذا هو الأمر الطبيعي ، فإنــه لا يستطيع أن يتذرع بأن فلان اعترف، وأن فلان آخـر نصحه بالاعتراف، أو ان المحقق قال له بأنه يعرف كل شيء، بل إنه سيحاسب عن نفسه وعن سلوكه دون أية تبرير، وهو فقط الذي يتحمل المسؤولية لأن المسؤولية في التحقيق تظل في جميع الأحوال فردية، وكل من يدلي بمعلومات تضر بأمن الحزب والثورة لا يستحق شرف الانتماء النضالي من خلال الحزب أو المنظمات الثورية.

على المناضل أن يدافع بكل ما لديه من اسلحة بــل يهاجم اذا قيض له ذلك، فالمحقق أمامه ما هو الا مأجور مرتزق يتقاضى راتباً قد يكون سخياً لقاء عمله وغالباً ما يكون المحققون من أحقر الناس، بل من السقط الاجتماعي وهم لا يستحقون الا التحقير والتبخيس على أدوارهم القذرة التي ارتشوا من أجل القيام بها، علاوة علــى أن فوقيتهم في التحقيق و تعاملهم الحقير مع المناضل تتطلـب الرد الثوري باحتقارهم وعدم الاذعان لهم.

ان أسلوب الصدمات الناشئة عـن المفاجآت، وأساليب التشكيك والتهويل وغيرها، مصحوبة بالضرب والتعذيب ما هي الا مناورات محبوكة يستشف المحقــق فرص استعمالها بناء على حالة المعتقل المفترضة كمــا يفهمها المحقق. أنها مناورات وتاكتيكات عبر عمليـــة الصراع تهدف الى خلق حالة نفسية ضعيفة، ومن ثم الاجهاز على المناضل. هذه الأساليب التي اذا استوعبها المناضل تفاعل معها بصبره أو بمناورات مضادة أهمها التبيان بين كل مناسبة وأخرى ما يفيد أن المناضل ليس لديه ما يقوله وأنه لا يعرف شيئاً ولا ينتمي لأية جهة.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.