دُرُوس وعِبَر من الولايات المتحدة، كنموذج سلْبي، الطاهر المعز

لم يعُدْ بإمكان الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” التباهي بالانجازات الاقتصادية التي حقّقها مطلع ولايته، إذ تجاوز عدد ضحايا وباء “كوفيد 19” 115 ألف حالة وفاة (يوم العاشر من حزيران 2020)، وفاق عدد العمّال الأميركيين الذين وقع تسريحهم 42 مليوناً، ما رَفَع نسبة البطالة إلى أعلى مستوى لها منذ تسعة عُقُود، وتتوقّع دراسة نشرها الإحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي) أن يخسر 47 مليون أميركي وظائفهم، ليرتفع العدد الإجمالي للمُعَطَّلين عن العمل إلى 52,8 مليوناً، ولتصل نسبة البطالة إلى 32,1%، أي أن الوضع الإقتصادي أسوأ من فترة الأزمة الكُبرى أو “الكساد الكبير” (1929 – 1933)، لمّا قاربت نسبة البطالة 25%، بحسب التقرير الذي نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” (08 حزيران/يونيو 2020)…

حاولت فيادة الحزب الديمقراطي انتهاز الفُرْصَة لتعزيز مكانة الحزب في أوساط الفئات الشعبية من الفُقراء والعُمال والمواطنين السود، وهي فئات حصدت خيبة الأمل من فترة رئاسة باراك أوباما و”الديمقراطيين” الذين لا يختلف معظمهم عن نواب الحزب الجمهوري، بل يشتركون معهم في الإنتماء الطبقي، وفي الدّفاع عن جوهر الرأسمالية والإمبريالية، والهيمنة على الشعوب، واضطهاد الفئات الشعبية والعاملين في الدّاخل، ولا يتجاوز الإختلاف بعض المسائل الثانوية، خاصة في مجالات السياسة الخارجية،  ولا يتورط الحزب الديمقراطي في الإحتكاك بحركة الاحتجاج لكي لا يواجه غضب الرأسماليين والأعيان الدّاعمين له، بل أكّدَ الديمقراطيون كثيراً على دعم ما يعدونه “مطالب مشروعة للمتظاهرين”، ورفضهم “الدعوة إلى التغيير”، لأن ذلك “قد يُؤَدِّي إلى الفوضى”، وفق ما ورد في مقال كتبه الرئيس السابق باراك أوباما بعنوان “كيف نجعل هذه اللحظة نقطة تحول نحو التغيير الحقيقي” نشره على موقع “ميديوم”، وأَكَّدَ النواب الديمقراطيون في مؤتمر صحفي عقدوه يوم الاثنين 08 حزيران/يونيو 2020، “اعتدال” مطالبهم الإصلاحية التي لا تتجاوز في أهدافها “تحقيق تَفَوُّق انتخابي في الانتخابات الرئاسية المقبلة”، دون الوعد بأي تغيير جوهري، فالحزب الديمقراطي غير قادر على ذلك، ولا يدّعي الإهتمام بالحياة اليومية للفُقراء، والإهتمام بظروف عَيْشِهِم…

لا اختلال جوهريًّا في الولايات المتحدة، بين الحزْبَيْن المُهَيْمِنَيْن، إذ اتفق نواب الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي على شن الحُروب العدوانية على بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية، وعلى أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا والصومال ويوغسلافيا وغيرها، كما اتفق ممثلو ونواب الحِزْبَيْن على ضخ 2,3 تريليون دولار، من المال العام، وهو أكبر مبلغ مخصص للدعم في تاريخ الرأسمالية، بتعلّة “إنعاش الإقتصاد”، لكن استفادت الشركات الكبرى والمصارف (أي القطاع الخاص، والإحتكاري والشركات العابرة للقارات) بأكثر من 1,3 تريليون دولارا، بينما يفتقد الملايين للرعاية الصحية، وتفتقد المستشفيات للعاملين والتجهيزات، ما جعل وباء “كوفيد 19” يفتك بالأمريكيين الفُقراء، وتفتقد مدارس الأحياء الفقيرة وفي المدن (مثل نيو أورليانز) إلى التجهيزات وإلى الإختصاصيين في مجالات التربية والبيداغوجيا والعمل الإجتماعي، خصوصًا منذ الفيضانات التي مكّنت شركات المقاولات التي احتكرت إعادة إعمار المدينة، من تحقيق أرباح ضخمة، بالتوازي مع إغلاق مدارس ومستشفيات القطاع العام…

استغلت شركات صناعة السيارات وصناعة النفط والغاز، للضغط بهدف التخلي عن قوانين كانت تفرض القيود على التلوث والانبعاثات الغازية، واستجابت الحكومة الأمريكية ونواب الحزبَيْن الحاكمَيْن لمطالب هذه الشركات الإحتكارية، بل ودعمها بمبالغ كبيرة من المال العام، بدون شروط أو مراقبة لكيفية إنفاق واستخدام هذه المبالغ، التي كان يمكن إنفاقها لدعم الفُقراء والمُعطّلين عن العمل، وتسديد مبلغ إيجار المساكن، لفترة مُعينة، وتحسين أداء التعليم العمومي والصحة العمومية…

إن جشع المصارف والشركات الكبرى تسبب بالكوارث الطبيعية، ونهب الموارد، وبالأزمة المالية، فلماذا تتحمل الدول مسؤولية هذه الأزمة، وتضخ مليارات الدولارات من المال العام؟

لأننا ( في الولايات المتحدة أو في أوروبا أو في الوطن العربي) نفتقد إلى أدوات التنظيم، ونفتقد للأداة التي لا تتوقف عند حد الإحتجاج، بل تعمل على تأسيس حركات شعبية قوية، تمتلك الإيمان والوَعْيَ والجرأة لِفَرْض بديل للرأسمالية النيوليبرالية، ويمتثل البديل (الهدف ) في مُشاركة المُنْتِجين ومجمل العاملين في التخطيط وفي البرامج وتحديد الأولويات والأهداف، لكل قطاع، بارتباط وثيق بالأولويات والأهداف الوطنية، ومَشْرَكَة وسائل الإنتاج وتوزيع السلع والخدمات، بشكل عادل ومُستدام، لتصبح الرعاية الصحية والغذاء والسكن والتعليم والترفيه والفنون وغيرها، حقًّا من الحُقُوق الأساسية للمواطن… 

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.