فجأة، وبعد أكثر من ثمانية عُقُود على إنتاجه، تفطّن تُجّار السينما ( “ورنر بروس” ) إلى الشّحنة العُنصرية التي يتضمّنها الشريط السينمائي “ذهب مع الرّيح”، الذي أخرجَهُ “فيكتور فليمنغ” سنة 1939، عن رواية “مارغريت ميتشل” الصادرة سنة 1936، والذي تدور أحداثه سنة 1861، أثناء الحرب الأهلية، ويُمجّدُ عنصرِيِّي جنوب الولايات المتحدة (1861 )، بشكل رومَنْسِي، عبر مُمثِّلِين شهيرين، مثل “كلارك غيبل” و “فيفيان لي” ونال الشريط شهرة كبيرة، ونال الممثلون العديد من الجوائز، فأعلنت الشركة المالكة لحقوق بث اللشريط أنها ترغب تعليق بث الشريط، إلى أن تقوم ب”تشذيب” بعض المَشاهد… بعد 81 سنة من عرض الشريط…
اشتهر إنتاج “هوليود”، وكذلك إنتاج شركات السينما الأوروبية، بتزييف التاريخ، وبإنتاج أشرطة سينمائية دعائية، تُمَجِّدُ الإستعمار والصّهيونية، وتحتقر تاريخ الشُّعُوب، وتُقدّم العرب وسكّان إفريقيا، في صورة المُتخلفين، غير الأذكياء، والهمج وقُطّاع الطرق، وتفنّنت شركات الإنتاج الأمريكية في تمجيد “البطولات” الوهمية للجيش الأمريكي الذي احتل فيتنام، وخرج مهزومًا، رغم الإستخدام المُكثّف للأسلحة المُحَرّمة، ورغم البَطش، والتفاوت الكبير في العدد والعُدّة.
إن المظاهر والرموز العنصريّة في الإعلام والسينما الأميركيّة ليست مجرّد مسألة “جارحة”. إنّها مسألة اقتصاد وأرباح هائلة، تقوم على تعزيز الرواية التاريخيّة للمُستعمِرين المُسْتوطنين الأوروبيِّين الذين ادّعَوْا أنهم شعب الله المختار، فارتكبوا مجازر وإبادة جماعية للسكان الأصليين، وصوّرتهم سينما “الكاوبوي” كأصحاب حق، ومُقْتَصِّين من “الهَمج” و “البِدائِيِّين”، غير المُتحضِّرِين، فالرواية التّاريخية التي تَسُود وتبْقى وتُدَرَّسُ من منظومة التّعليم، هي رواية المُنْتَصِر، مهما كانت وسائل الإنتصار، ولذا فلا علاقة لذلك بالأخلاق، بل إن الرواية التاريخية مُرتَبِطة دائمًا بخلفيات تاريخية وحضارية وثقافية، ومرتبطة بالمصالح الإقتصادية للطبقات السائدة، فاستغلال النساء والعبيد والعُمّال المُهاجِرين يُضخّم أرباح المُسْتَغِلِّين، ويزيد من القيمة الإضافية (القيمة الزائدة) للعمل، بسبب طول ساعات العمل، وضُعْف الرواتب، وغياب الحُقُوق وسهولة طردهم (هن) من العمل…
في الولايات المتحدة، تأسّست الدّولة على أنقاض الشعوب الأصلية، صاحبة البلاد والأرض، وانعكس الغزو وافتكاك الأرض والوطن من أصحابه الشرعيين، على صياغة الدّستور، وشَرّعت الثقافة السّائدة في القَرْنَيْن السابع عشر والثامن عشر، استعباد البَشَر، واعتبار ذوي البُشرة السّوداء، من فصيلة المخلوقات التي تتأرجح بين الحيوان والبشر (“منزظلة بين المَنْزِلَتَيْن” )، وقد يكون قَتْلُهُم “حلالاً”، فلا يُعاقَبُ مُرْتَكب عملية الإعدام، لا من قِبَل القضاء الدّنْيَوِي ولا من قِبل القَضاء “الإلهي”، في الآخرة، وبقي هذه النّظْرة الدّونية سائدة، ولَمْ تَزُل بإلغاء العُبُودية رسميا، أو على الورق، بل اضطر المواطنون الأمريكيون، أحفاد العبيد السود إلى التّمَرُّد وإلى المطالبَة بالمُساواة في الحقوق، خصوصًا منذ منتصف القرن العشرين، وإلى وضْع حدٍّ للمَيْز العُنصري، لكن وَزْن التّاريخ المَصْبُوغ بالإستعباد والإضطهاد “المشْروع”، أي الحُقُوق المُكتَسَبَة (في نَظَر أحفاد الأوروبيين البيض)، كان أثقَل بكثير من القوانين (على احتشامها)، فيقي المواطنون السود فُقراء، لأنهم لم يَرِثُوا من أجدادهم العبيد سوى الفَقْر والإستغلال والإضطهاد، فانتقلوا من وَضْع العَبْد في المَزْرَعة أو في البيت، إلى وضْع العامل في المصنع، وفي شركات التجارة أو الخدمات، بكثير من المَيْز وقليل من الحقوق، ولم يأمن أحفاد العبيد على حياتهم في الفضاء العام، حيث تقتل الشرطة معدّل 16 شخصًا منهم سنويًّا، أثناء اعتقالهم، وتتولى الشرطة وجهاز القضاء الزّج بهم في السُّجُون، دون مراعاة الحد الأدنى من التحريات والتحقيقات ومن البحث عن الحقيقة لإثبات التّهمة ضد المواطنين السود، ولا غرابة في ذلك، إذا علمنا أن الرئيس الأمريكي الملياردير اليميني والعنصري، “دونالد ترامب”َ، أعلن يوم الحادي عشر من حزيران/يونيو 2020، أنه لا يحتمل وصف “الأمريكيين البيض المحترمين، بالعُنصُرِيِّين والمُتعصِّبِين”، فَهُم “جُزْءٌ أصيل من هذا الشّعب الفاضل والصّالح”، وللمُفارقة فإن هذا التحذير وَرَدَ بمناسبة انعقاد ندوة في تكساس (مَهد العُنصرية ورأسمالية النفط والمحروقات) حوال “الميز في جهاز القضاء”، وسبق أن هدّد الرئيس بِنَشْر الجيش لِقَمْع المتظاهرين الذين وصفهم ب”البلْطجية واللُّصُوص”، ولم تقع دَعْوة ثلاثة من موظفي المنطقة، من ذوي البشرة السّوداء (المُدّعِي العام وعميد الشّرطة ورئيس شرطة المنطقة)، رغم أهمّيّة دَوْرِهم في تطبيق القانون، وأشاد الرئيس عدة مرات في خطابه القصير، ولَهْجَتْهِ البذيئة، بقوات الشرطة، نافيًا استخدامها للقوة ضد المتظاهرين، بحسب شبكة “سي إن إن” (11 حزيران 2020)… من الغذ، نشرت وكالة الصحافة الفرنسية، يوم 12 حزيران/يونيو 2020، برقية يمكن تلخيص محتواها كالتالي:
في الرابع عشر من شهر حزيران/يونيو 1920، ذهبت امرأة شابة، بيضاء، بصحبة صديقها لمشاهدة عرض السيرك في مدينة “دولوث”، شمال الولايات المتحدة،، وفي اليوم التالي، أكدت الشابة لوالدها أنها وصديقها تعرضا للهجوم من قبل سنة من العاملين السود بالسيرك، وزعمت أن السيد “ماكس ميسون” (مواطن أمريكي أسود)، وخمسة آخرين من عمال السيرك السود اغتصبوها تحت تهديد السلاح، ولم تُقدّم المرأة البيضاء أية أدلة تدعم هذه المزاعم، ولم يجد طبيب الأسرة الذي فحصها أي علامات على الاغتصاب أو الاعتداء، وفقًا لجمعية مينيسوتا التاريخية، وفي الخامس عشر من شهر حزيران/يونيو 1920، انطلقت عصابات الرجال البيض الغاضبين، في عملية “تأديب”، بالضرب المُبْرِح، والتنكيل، ثم ألقت شرطة “دولوث” القَبْض على “ماكس ميسون” وخمسة آخرين في هذه القضية التي اهتمت بها وسائل الإعلام، بشكل واسع، ووقع احتجاز الرجال الستة في مركز الشرطة، المُحاصَر من قِبَل آلاف الأشخاص الذين يُطالبون بالقصاص الفَوْرِي، ثم اقتحمت الجُمُوع الغاضبة المبنى وسحبت الرجال الثلاثة (إسحاق ماكغي وإيلمر جاكسون وإلياس كلايتون ) من زنزاناتهم، وتم ضربهم وتعذيبهم، قبل إعدامهم، أمام آلاف المُفرّجين، رغم مناشَدَةِ بعض الحاضرين، بترك الأمر للشرطة وللقضاء، وقد خلّد الفنان “بوب ديلان”، هذه الجريمة بأغنية “صف الخراب”، وقدّم اعتذارًا باسم هذه المدينة، التي أقامت نصبًا تذكاريًا في عام 2003 تخليداً لذكرى الضحايا…
حكم القضاء العُنصُري والطّبَقِي الأمريكي على “ماكس ماسون” بالسجن ثلاثين سنة، رغم إنكاره التّهمة (تحت التعذيب)، ورغم غياب الأدلة، ورغم مَرَضِهِ، واتفق بعض مُعاصريه أنه ما كان ليُدان “لو كان أبيض البُشْرة”.
توفي “ماكس ماسون”، الذي توفي في عام 1942، وبعد مائة عام، وفي الثاني عشر من حزيران/يونيو 2020، أصدر القضاء عفواً عن “ماكس ميسون”، رابع أميركي أفريقي أدين بهذه الجريمة ، وهو ما أنكره دائماً، وأصبح أول رجل أسود يستفيد من العفو، بعد وفاته، في ولاية “مينيسوتا”، حيث لا تزال الشرطة العُنصرية تقتل الرجال السّود، ويمتع أفرادُها بالمناعة التي اكتسبوها بفضل أُصُولهم الأوروبية ولونهم الأبيض…
يقبع في سجون الولايات المتحدة (ودول أخرى) العديد من المحكومين بالإعدام أو بفترة سجن طويلة، ظُلْمًا، وقع إثباتُهُ، وأشهر هؤلاء المساجين “موميا أبو جمال”، وهو صحافي أمريكي، أسود، مناضل ضد حكم الإعدام، ومن أجل حُقُوق المواطنين السّود، ومن أجل المُساواة، ووقع اتهامه بقتل شرطي، بسلاح ناري، سنة 1981، وحُكِم عليه بالإعدام، رغم غياب الدّليل، ورغم عدم احترام حقوق المُتّهم، أثناء المحاكمة، وأثار بقاؤه في “رواق الموت” ظُلْمًا، غضب العديد من المواطنين والمجموعات في العالم، إلى أن اضطر القضاء الأمريكي، بعد ثلاثين عامًا، من إسقاط حُكْم الإعدام، في كانون الأول/ديسمبر 2011، ولكن المحكمة رفضت إطلاق سراحه، ولا يزال في السّجن.
لا يُولد الناس عُنصُرِيِّين، ويتشبّع الأطفال شيئًا فشيئًا بالقِيم العُنصرية التي تصنعها أنماط الحُكم التي تَسُنُّ القوانين على مقاس مصالح الأثرياء، وتُعمم أجهزة الدولة (كالشرطة والقضاء) هذه الممارسات، وتتكفل عملية تقاسم الثروات العامة، بتعميق الفوارق الإجتماعية وبترسيخ التباعد بين الطبقات والفئات، عبر السّكن والتعليم والرعاية الصحية والوظائف، وغيرها، وتبْنِي الفئات المُهيمنة الأساطير والخُرافات، المُنافية للعِلْم، وللأخلاق وللقيم الإنسانية، لكي لا يتّحد ضدّها المواطنون الفُقراء والمتضررون من سياساتها، ويتكفّل الإعلام المُهيمن بتشويه الفُقراء والمجموعات الواقعة تحت الهيمنة، وبوصفها بالهمجية، وهو ما يحصل في الولايات المتحدة، حيث يُتّهم الشباب الغاضب، والمُحتج ضد العُنصُرية والإضطهاد، بالتخريب، والواقع أن المحلات التي استهدفها الشباب الغاضب هي شركات مُنتِجَة وداعمة للقمع، فقد أحرق المتظاهرون محلات شركة “تارغت”، وهي شركة أمْنِية لها تاريخ وحاضر مُلَطّخ بدماء الشُّعُوب، وهي مُختصّة بمراقبة الأحياء التي يسكنها الفُقراء، وابتكرت أساليب عديدة للقمع الإلكتروني، وتدعم شرطة مدينة “مينيابوليس” مَليّا (بثلاثماءة ألف دولار) وإعلاميا، وتقنيا، لتطبيق خطط مراقبة واعتقال الفُقراء، وما ينطبق على شركة “تارغت” ينطبق على الشركات الأخرى التي استهدف المتظاهرون محلاتها، في رَبْط عَفْوِي أو واعِي بين الرأسمالية والإستغلال الطبقي، من جهة، والعنصرية والإضطهاد، من جهة أخرى، فالشركات المُستهدفة تستغل العُمال الفُقراء، وتدعم السلطة التي تقمع وتقتل الفُقراء، دفاعًا عن مصالح رأس المال…
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.