نقلة توضيح حاسمة:
صدر عام 1972 كتاب ستيفن هايمر (1934-1974) ” الشركات الكبرى متعددة القومية وقانون التطور اللامتكافىء 1972)
THE MULTINATIONAL CORPORATION AND THE LAW OF UNEVEN DEVELOPMENT
New Haven, Conn., 1972.
كانت مساهمة هايمر في التمييز بين الاستثمارات المالية وهذه الأنواع من الاستثمارات ، والتي سماها الاستثمار الأجنبي المباشر: يمنح هذا الأخير الشركة السيطرة القوية على الأنشطة التجارية في البلدان الأخرى بينما لا تفعل ذلك استثمارات المَحافظ.
وخلص هايمر إلى أن الاستثمارات المباشرة هي حركات رأسمالية مرتبطة بالعمليات الدولية للشركات هدفها هو الحفاظ على السيطرة على الإنتاج. يتيح هذا التحكم إما قمع المنافسة ، أو تحصيل الريوع المناسبة المستمدة من مزايا مثل العمالة الماهرة والمواد الخام الرخيصة والوصول إلى أسواق رأس المال أو التكنولوجيا.
اسس هايمر لقراءة أعمق واشمل لدور الشركات الكبرى في الاقتصاد العالمي بل في قيادة النظام الرأسمالي العالمي. وتبع ذلك جدال موسع حول دور الدولة بمعنى هل ستهلك الدولة القومية وتسيطر الشركات أي تحل محلها؟ ولعل الأهم هنا هو “سيطرة شركات الاستثمار الأجنبي المباشر على الإنتاج” اي أنها أصبحت تملك في خارج بلدانها ايضاً، وهذا ما أُطلق عليه لاحقاً تصدير راس المال العامل الإنتاجي من المركز إلى المحيط. كما أسس أيضا لفهم الريْع أو تحصيل الريع على صعيد عالمي وليس على صعيد قومي فقط.
كثيرون لم يدركوا مسألة الاندغام التي تحدث عنها لينين وإن عن اندعام راس المال الصناعي والمالي. لم يدركوا قدرة راس المال على التكيف طالما تجمع شرائح هذه الطبقة المسألة المركزية، اي التراكم. فمع توسع دور الشركات، وهي على أية حال كانت هامة منذ شركة الهند الشرقية سواء الهولندية أو البريطانية، جرى الاندغام الثاني بين الشركات كراسمال وبين السلطة في دولة المركز واصبحت الدولة في خدمة الشركة. وهنا إتضح، اي لم يختلف، دور الدولة كأداة لطبقة. فالشركة ليست مجرد مكان وآلات…الخ بل هي واجهة للطبقة الرأسمالية بتنوعات مجالات راس المال اي صناعي، تجاري مالي…الخ.
وفي حقبة العولمة وتبني سياسات النيولبرالية يجري اندغام الدولة برأس المال المالي/المُضارب أي مرحلة الممولنة والتي كما يقول اقتصادي روسي (للأسف فقدت ما كتب) تشهد اندغام أو تحالف راس المال المافيوي والبنكي والمخابرات وكل هذا بدور خادم ومستفيد من السلطة السياسية في المركز.
إضاءة هايمر على دور الشركات كونها عابرة للقوميات فتحت على توسيع أطروحة لينين عن الإمبريالية وخاصة تصدير راس المال. لقد نقلت الشركات ما كتبه لينين عن تصدير راس المال إلى أدوار متعددة:
- تصدير راس المال لاغتنام المواد الخام
- وتصدير راس المال للاستثمار في مشاريع لهذه الشركات
- وتصدير راس المال للإقراض والمديونية أي راس المال المالي.
ترافق مع هذه التطورات جدل نظري عميق من ضمنه: هل يقود دور هذه الشركات بل ومجمل تصدير راس المال بتعدد أهدافه ومجالات تشغيله إلى تنمية بلدان التلقي، اي المحيط؟ ونقصد هنا نقلها إلى راسمالية متقدمة كبلدان المركز؟ وهل ما تسلخه كشركات هو قيمة زائدة أم وضع يد وتقشيط؟
جادلت المدرسة الماركسية “النظام العالمي The World- System ” وخاصة سمير امين، وإيمانويل وولرشتين، وجيوفاني أريغي وجوندر فرانك ، بأن ما ينتج عن هذا هو تقسيم عالمي للعمل بل حفاظ على تقسيم العمل العالمي إلى مركز ومحيط، وبأن هذا المدخل لن يوصل المحيط إلى مستوى المركز بما هو مدخل اللحاق. وهي طبعاً ردت على اتجاهات ماركسية أخرى رأت بأن هذا سيرسمل المحيط وينهي عالثالثيته كما كتب (بيل وارين)، أما جيفري كاي، فرأى أن المطلوب استعمار أعمق للمحيط كي يترسمل، والجميع حاول الاستناد بالطبع إلى مقتطفات من ماركس. ولكن مدرسة النظام -العالمي كانت هي الأكثر عمقاً وحجة.
ما يهمنا هنا أمر آخر ولكن مرتبط ونابع من هذه الأطروحات النظرية والتطورات العملية وهو: هل ما تسلخه الشركات الأجنبية كفائض من بلدان أخرى من غير قوميتها وجغرافيتها هو قيمة زائدة أم لا؟ هل يجوز تسميتها قيمة زائدة أم لا؟
لا بد أن يردنا هذا إلى فهم ماركس لواقع تبلور السوق العالمية وانتقال الرأسمالية من الراسمالية التجارية إلى الثورة الصناعية والتي رافقها طبعا التوسع الاستعماري سواء لاغتصاب الثروات أو للتبادل التجاري اللامتكافىء والذي كانت عنه أطروحة سمير أمين للدكتوراة (التطور اللامتكافىء) في جداله مع أرجيري إيمانويل في أطروحته “التبادل اللامتكافىء) . كلا البحثين يعالجان علاقات الاقتصاد العالمي في مرحلة دوله القومية.
ومرة أخرى، ماذا نسمي ما تحوزه الشركات متعددة القومية من المحيط؟ هل هو اغتصاب، نهب، تقشيط ، وضع يد، أم قيمة زائدة؟
التسلط والتقشيط والنهب سياسات وأفعال تختلف عن ما تسلخه الشركات الغربية في مواقع الإنتاج خلال تشغيلها لقوة العمل المحلية بعد مغادرة العمل البدائي في المناجم وصولا إلى تجميع قطع السيارات وحتى بعض ال Know-how في جنوب شرق آسيا والصين لأن مواقع الإنتاج التي تقيمها هذه الشركات تقيمها على اساس شراء قوة عمل العامل ضمن ساعات تطول أو تقصر مقابل أجر ما.
في هذه الحالة نتحدث عن تطبيق قانون راسمالي مركزي وهو:
- وجود من يملك أدوات العمل ولا يعمل، لكنه لا يملك العامل نفسه بل يشتري قوة عمله بسعر/أجر معين لساعة أو يوم العمل.
- وتشغليه لمن يعمل ولا يملك.
وعليه، فإن ما يتحصل للرأسمالي من تراكم عبر هذه العلاقة هي قيمة زائدة بمعزل عن تقاطع الجنسيات القومية وتداخلها، اي عامل صيني يعمل في شركة يملكها أمريكي. هذه العلاقة تستكمل كافة شروط سلخ القيمة الزائدة بغض النظر عن تباعد الجغرافيا.
لقد قدمت هذا التصور في ورقة في جامعة لندن بيرك بك كوليج عام 1985 للمشرف مايك كوين، ولم يوافقني الراي.
ولا يقلل هذا من أهمية نظرية ماركس في القيمة الزائدة حيث عالج سلخها من البروليتاريا في الدولة القومية الأوروبية ، كما لا يعني أن ماركس في هذه القضية كان مركزانيا أوروبيا لأن هدف ماركس كان تحليل وتحديد مقاتل راس المال والذي كانت أوروبا هي المكان قيد الدراسة لأنها كانت حينها نموذج الترسمل.
لقد جاء تصدير راس المال ثم راس المال العامل الإنتاجي منذ سبعينات القرن الماضي دعما لأطروحة هايمر وتوسيعا معولماً لسلخ القيمة الزائدة حيث تحول العالم إلى ورشة موسعة لا تمنعها التقسيمات القومية . بل تم تطويع الدولة القومية لصالح توسع نفوذ الشركات، ولكن بالطبع جرت رشوتها في التحليل الأخير حيث:
- وفرت الشركات للدولة القومية في المركز عائدات استثماراتها الخارجية مما راكم أكثر
- وأبقت على إدارات هذه الشركات داخل تلك الدولة القومية نفسها
وكان لهذا مفاعيل سلبية وإيجابية معا.
فالقيمة الزائدة المسلوخة من المحيط أو حتى بين دولة مركز وأخرى إضافة إلى تدفق أرصدة من بلدان المحيط إلى المركز وخاصة الأمريكي راكم مقادير هائلة من الدولارات مما وسع قطاع الخدمات فيها ، ولكنه كان على حساب توسع قطاع الإنتاج والاستثمار فيه ودفع وشجع الراسماليين على المضاربات المالية مما ولد الفقاعات.
وصار لا بد لدول المركز أن تقوم بإعادة تصريف مخزون بركة السيولة المالية من داخلها إلى الخارج كي لا تهبط قيمة الدولار فاتخذ ذلك حالة المديونية الهائل في ثمانينات القرن الماضي.
وبالمناسبة، فإن الأزمة الاقتصادية الصحية الجارية اليوم في العالم ستقود إلى أزمة مديونية جديدة على بلدان المحيط. ففي اجتماعات دول السبع ودول العشرين وأدبيات صندوق النقد الدولي جرى التأكيد، بمضمون التهديد، بأن على دول المحيط أن لا تتبنى سياسات حمائية، وذلك بالطبع كي يبقى من السهولة بمكان تدفق منتجات المركز إلى المحيط.
ومن ناحية عملية، فإن بلدان المحيط سوف تفتح ، بل تخلِّع أبوابها لاستيراد العلاجات للوباء الجديد الذي خُلق من رحم أمه محمي بصندوق النقد الدولي الذي قرر حصر إقراض المحيط بشرط شراء الأدوية اي من أجل المسألة الصحية.
في هذا الصدد يمكننا رؤية قيام راس المال بنقل آليات تحصيل التراكم من موقع إنتاج إلى آخر ولكن لصالح نفس شرائح راس المال التي تملك في أكثر من قطاع إنتاج .
لقد تم تحريك أو الألتفاف على الركود الاقتصادي في قطاعات الصناعة بمستوياتها بتنشيط سوق مبيع المنتجات الطبية التي لا غنى للعالم عنها، وبالتالي فإن تحصيل القيمة الزائدة بقي مضمونا.
كما أن في هذا الانتقال درجة من تحصيل الريع اي ريع الانتقال من مجال استغلال إلى آخر علاوة على الربح المتحصل من عملية البيع نفسها.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.