شكّل الوعي وإشكالياته قلقاً لدى الفلاسفة والمفكرين على مدى العصور. وشغل في القرنين الأخيرين فلاسفة كثر نذكر منهم، دون أن ندخل في مناقشة أفكارهم ونظرياتهم حول الوعي، هيغل وديكارت وهوسرل ونيتشه وكارل ماركس وغيرهم.
أمّا في الواقع العربي، فثمة حديث لا يتوقف عن “الوعي” و”الوعي الشعبي” وإشكالياته في الحياة الثقافية والسياسية العربية. ولعل أهم ما يدور الحديث حوله هو تزييف الوعي وتشويهه كونه أحد الأسباب الجذرية لتراجع الشارع العربي ودوره في التغيير الاجتماعي والسياسي المنشود. وهذا بدون شك من أهم معضلات وإشكاليات الحياة العربية المعاصرة.
سأوزع هذه الدراسة على عدة أجزاء: أقدم في البداية مدخلاً لتعريف الوعي ومفاهيمه ومستوياته واستخداماته المختلفة في الفكر والسياسة والأيديولوجيا، قبل الولوج إلى مناقشة أهم أشكاله مثل الوعي السياسي والطبقي والديني، وصولاً، في خاتمة هذا البحث، إلى المسألة الأهم وهي التمييز بين الوعي الحقيقي والزائف والكشف عن تزييف الوعي وآلياته وآثار ذلك على الوعي الشعبي العربي والحياة السياسية والثقافية العربية.
تعريف الوعي
دعونا نبدأ من تحديد مفهوم الوعي .
هنا نجد أن الحديث عن الوعي يدور في فضاءٍ رحب من المفاهيم والدلالات، لذلك سنركز على تلك التي تصبُ في الغاية المتوخاة من هذه الدراسة وهي: التمييز بين الوعي الحقيقي والآخر الزائف، كي يتسنى التخلص من المفاهيم والقناعات والشعارات الزائفة لدى المواطن العربي ويجري التأسيس لوعي حقيقي جذري وثوري قادر على الاضطلاع بالمهام الثقيلة والتحديات الجسيمة التي تحملها هذه المرحلة من تاريخنا. ويتطلب تحقيق هذا الهدف تبسيط مفاهيم الوعي المركبة والشائكة وتقريبها إلى ذهن القارئ، ومن ثَمّ التأسيس على هذه الأرضية لتطوير الوعي الشعبي العربي واستعادة دوره في صنع حاضر شعوبنا ومستقبلها. لأن ما يهمنا هنا هو التركيز على مفهوم الوعي ودوره في المستوى الشعبي (فردياً ومجتمعياً) في سياق النضال من أجل التحرر الوطني/القومي والتغيير السياسي والاجتماعي التي تتسم بها المرحلة الراهنة، وهو ما يتضمن على وجه الخصوص الوعي الاجتماعي (الطبقي) والسياسي (القومي/الوطني).
وعليه، لن تتناول كافة أشكال الوعي وأصنافه والتي تتجاوز في أبعادها وقضاياها العديد من الكتب والمؤلفات، ولن نسعى إلى عرضٍ شامل لمدلولات الوعي وتعريفاته ومستوياته التي تتعدد وتدخل في العديد من المجالات النفسية والاجتماعية والسياسية والفكرية والفلسفية.
ومن المنطلق ذاته لن نتطرق إلى الوعي التخصصي الذي يحققه الأفراد في حقول تخصصهم المهني مثل العلم والطب والتكنولوجيا أو الفن والأدب وغيرها.
□□□
لعل أبسط تعريف للوعي هو أنه الحالة العقليّة والإدراكية التي يتم من خلالها إدراك الواقع عن طريق اتّصال الإنسان واحتكاكه مع المحيط الذي يعيش فيه، سواء كان هذا الواقع ملموساً أو محسوساً، بما في ذلك إدراك العلاقات الشخصية والاجتماعية والإنسانية التي تتفاعل مع هذا الواقع وتتأثر به.
هذا التواصل مع البيئة هو الذي يخلق لدى الإنسان حالة من الوعي بما يجري من حوله، ويمنحه القدرة على إدراك الأمور وتقييمها. ومن هنا يمكننا القول بأنّ الوعي مرتبط بالطبيعة والعقل (وبالتالي بالعِلْم) ارتباطاً قوياً، وأن هذا الأخير على تواصلٍ مباشرٍ مع البيئة المحيطة به، ومن خلال ذلك يتمكن من تكوين الآراء والأفكار وإتخاذ المواقف حول القضايا المختلفة وفق ما يقتنع به. وهنا يكمن دو ر الوعي (والشعور والإدراك) في ترابط الفكر مع حركة الواقع وفهم إشكاليات الحياة والمجتمع والتعامل معها.
هكذا، وبالمحصلة، نصل إلى أن الوعي هو المحصول الفكري الذي ينضوي عليه عقلُ الإنسان وقدرته على قراءة المعلومات والمعطيات وفهمها وصولاً إلى تكوين وجهات النظر المختلفة والمتعلقة بالقضايا التي يعايشها بكافة مستوياتها: الفردية والاجتماعية والسياسية والفكرية والإنسانية. ولعل الأمثلة التالية توضح ما نريد أن نقوله.
□ ففي مستويات الوعي هناك، على سبيل المثال، الوعي الخاص للفرد (وهو وعي فردي)، والوعي الجمعي الذي هو اجتماعي وعام. ولا شكّ أن هناك أيضاً الوعي العفوي والطبيعي للجماهير. وكثيراً ما نجد تفاوتاً بل تناقضاً وتضاداً بين هذه المستويات.
وهنا لا بدّ لنا أن نتوقف عند التمييز بين هذيْن المستويين من الوعي: الفردي والجَمْعي، حيث يعمد المنظور الرأسمالي إلى الفصل بينهما فصلاً تعسفياً: بين المجتمع والذات، والجماعي والفردي، بين الحياة العامة والخاصة. والحقيقة أن الفرد، في هذا السياق، لا يعنينا بالمعنى المطلق، بل ككائن اجتماعي وجزء من العلاقة الاجتماعية حيث تشكّل مصالحه وحقوقه ومطالبه جزءً من مشروع التغيير والنضال الاجتماعي والطبقي لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية.
بالإضافة، فإن أهمية الوعي الجمعي تنبع من كونه المُوحِد والضامن للفعل الشعبي/الجماهيري، ومن دوره في ترسيخ الأهداف والثوابت الأساسية للنضال الاجتماعي والطبقي ومصالح الأكثرية الشعبية (الطبقات الشعبية) وتأصيل فكرة الهوية والمقاومة. وكمثال على ما نقصده، نذكر مناهضة كافة أشكال الاستغلال الطبقي والاجتماعي (العدو الطبقي)، ومقاومة العدو الوطني والقومي، كما هو حاصل في الحالة العربية، مقاومة العدو الصهيوني المحتل ومناهضة التطبيع معه ومقاطعة منتجاته ومنتجات الدول الإمبريالية والشركات الرأسمالية الغربية التي تدعمه وتوفر له مقومات الاستيطان والاحتلال والعدوان.
□ وفي أشكال الوعي، نجد على سبيل المثال، الوعي الطبقي والفكري والسياسي والديني وغيرها. والتي سنعود إلى مناقشتها لاحقاً بشيء من التفصيل.
□ ومن حيث استخداماته وتوظيفه في خدمة غايات سياسية والاجتماعية وأيديولوجية، نجد ألواناً متباينة من الوعي الإيديولوجي والبراغماتي والسياسي وغيرها.
بعض أصناف الوعي
يُصنّف الوعي، وفقاً لمدلولاته المتنوعة من مجالٍ إلى آخر، إلى عدة أصناف أو أشكال. وسوف نناقش في الأجزاء التالية من هذه الدراسة ثلاثة أشكال من الوعي نرى أنها الأكثر أهمية لأنها تلعب الدور الأبرز في تكوين الوعي الشعبي والتأثير به وهي: الوعي الطبقي والسياسي والديني. ولكن قبل ذلك نعرض باقتضاب بعض أصناف الوعي التي تتداخل فيها المستويات الفكرية والفلسفية والسيكولوجية لما تعود به من فائدة على القارئ.
– الوعي العفوي التلقائي: أي ما يرافق أفعال الإنسان وأفكاره وما يتعلق بأداء نشاطات معينة، دون أن يحتاج (الإنسان) إلى مجهود عقلي كبير يعيق أو يؤثر بقدرته على التفكير بأمور أخرى.
– الوعي التأملي: يختلف عن الوعي العفوي التلقائي، في أنّه يتطلّب جهداً ذهنيّاً ويحتاج إلى قدرات عقليّة لاستحضار الأحداث الماضية وإعادة تصورها وفهمها والتعبير عنها.
– الوعي الحَدْسي: ويتمثل في إدراك الشخص للأحداث والأشياء أو المفاهيم والمعلومات والمعارف، دون أن يستطيع التعبير عنها وتقديم شرح واضح لها، لأنه يدركها بحدسه فقط.
– الوعي المعياري الأخلاقي: في هذا المستوى من الوعي يستطيع الفرد أن يكوّن أحكاماً وتقييمات للأشياء والطبيعة من حوله، وكذلك للأحداث والأشخاص، كي يشكّل موقفاً منها تبعاً لمبادئه وقيمه وأخلاقه.
– الوعي الفكري/أو التفكيري: أي تفكير الإنسان بذاته وبما حوله من خلال أشكال من الوعي عديدة ومتداخلة فيما بينها.
– وهناك ايضاً الوعي من منظور الطب النفسي وما يعتري المريض النفسي من اضطرابات وأمراض نفسية تدور حول شخصيته وذاته وما يعتمر فيها من مشاعر وأحاسيس.
استخدامات الوعي
للوعي تصنيفات متعددة من حيث استخداماته وتوظيفه لغايات اجتماعية وسياسية وأيديولوجية. فمن الأساليب الشائعة في السياسة والمجتمع، نجد أساليب تسييس أو توظيف الوعي الجَمْعي لخدمة غايات سياسية أو أيديولوجية عبر استخدام وسائل الاقناع أو التخويف والترهيب أو الإغراء من أجل تزييف الحقائق وقلب الوقائع والأحداث وتفسيرها. وفي كثير من الأحيان تكون هذه الأساليب مبطنة لا يسهل على المواطن العادي الكشف عن فحواها وغاياتها.
فلو أخذنا، على سبيل المثال، ما يُسمى الوعي الواقعي (ويُسمونه أيضاً البراغماتي أو العملي)، فإننا نجد أنه يشير إلى المهارات الاجتماعية في التعامل مع الآخرين وفي انتقاء الأساليب الملائمة في الخطاب والممارسة. كما ينطوي هذا الأسلوب على كيفية استخدام قواعد اللغة ومفرداتها والدلالات الكامنة وراءها للوصول إلى أغراضه في التأثير على المُتلقي سواء كان قارئاً أو مستمعاً أو مشاهداً. وهنا تكتسب البراغماتية معنً محدداً في سياق معين في الزمان والمكان، وفي صياغة أمر ما أو موقف ما وكيفية قوله أو كتابته. وكثيراً ما يتضمن هذا الخطاب أساليب مبطنة وغير مباشرة مثل التحدث ب “التلميح” أو “الاقتراح” أو “الإيحاء” وغيرها من الأساليب. كما يتضمن تطوير القواعد البراغماتية واللغوية كي يتسنى استخدام اللغة وإنشاء لغة مناسبة للحالات التي يتعامل معها أصحاب الرأي من سياسيين ومفكرين ورجال الحكم والدولة وغيرهم. وقد ساهم هذا كله في تطوير نمطٍ آخر من الوعي: الوعي الخطابي أو التعبيري discursive consciousness والذي يشابه الوعي البراغماتي من حيث القدرة على استخدام اللغة والمفردات أو صياغة الكلام.
ليس هذا الحديث طرحاً نظرياً أو مجرداً، بل هو واقع نلمسه ونعيشه كل يوم في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، حيث يهندس الحكام والطبقة المهيمنة سياساتهم ويصيغون خطابهم ويتلاعبون بشعاراتهم في تزييف وعي الجماهير والتحكم بأعناقنا، ومعهم أصحاب المصالح والفئات الاجتماعية والاقتصادية المتنفذة في صنع القرار، وجيش المأجورين من مثقفين وكتّاب وإعلاميين.
■ ■ ■
في الجزء الثاني سنناقش دور فيزيولوجيا الإنسان (الدماغ والحواس البشرية) في تكوين الوعي، إضافة إلى عوامل التشكيلة الاجتماعية- الاقتصادية المؤثرة في صياغة تفكير الإنسان ووعيه.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.