في كواليس الحرب بين أذربيجان وأرمينيا – بعض الخَلْفِيّات، الطاهر المعز

عند تأسيس الإتحاد السوفييتي، تمّت إعادة توزيع “الحُدود”، بين مختلف الجمهوريات، على أساس التواصل الجغرافي، لتيْسِير النشاط الإقتصادي، وحركة السكان، ولم تقع مراعاة الأسُس “الأثنية” و”الدّينية”، فكان أن أُلْحقَتْ منطقة “القُرم” التي تسكنها أغلبية روسية، بأوكرانيا، وألحقت مناطق يسكنها الأرمن (المسيحيون) بجمهورية “أذرْبيجان” (ذات الأغلبية المسلمة)، وغير ذلك، كما كانت الصناعات والنشاط الإقتصادي مُوزّعًا بين مختلف الجمهوريات، لكنه في خدمة الإتحاد السوفييتي، كمجموعة…

بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، استقلّت هذه الجمهوريات، ودعمت دول أجنبية (الولايات المتحدة وأوروبا وتركيا والسّعودية…) مطامع بعض الزعماء، في محاولاتهم الإستحواذ على مزيد من الأراضي، ومن الثروات الطبيعية أو المصانع، ودعمت تركيا والسعودية (بإشراف أمريكي وأوروبي) أذربيجان “المُسلمة”، والغنية بالنفط والغاز، خلال الحرب مع أرمينيا “المسيحية” (التي دعمتها إيران وروسيا)، سنة 1992، وتمكنت أرمينيا، التي لا يتجاوز عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة، آنذاك، من السيطرة على الأقاليم التي يسكنها الأرمن، داخل “أذربيجان” ( عشرة ملايين نسمة آنذاك)، وأهمها إقليم “ناغورنو كاراباخ” الحُدودي (أو قُرّة باغ، جنوب غربي أذربيجان )، وبقيت التوترات قائمة بين البلَدَيْن، منذ ذلك التاريخ، واشتعلت الحرب بينهما مجَدّدًا، منتصف شهر تموز/يوليو 2020، على الحدود الشمالية، بين أرمينيا وأذربيجان، في منطقة أخرى، بعيدة عن هذا الإقليم، مع الإشارة أن قيمة الإنفاق العسكري الأذربيجاني تفوق حجم ميزانية الدّولة في أرمينيا، حيث توجد قاعدة عسكرية روسية، لكن روسيا تبيع السلاح للدّولَتَيْن.

تحتل أذربيجان موقعا استراتيجيا في آسيا الوُسطى، فهي تطل على بحر قزوين، ولها حُدُود مع أرمينيا وتركيا وإيران وجورجيا، وروسيا، وهي​​ دولة منتجة ومُصدّرة للنفط والغاز، ويُقدّر احتياطيها بحوالي سبعة مليارات برميل، كما هي منتجة للغاز، وبها ثروات معدنية أخرى كالذهب والفضة والنحاس والحديد، والكوبالت والتيتانيوم… وتُصَدِّرُ نحو أوروبا، حوالي خمسين مليون طن من النفط الخام سنويا، والذي يصِلُ (منذ سنة 2006) العاصمة “باكو” بميناء “جيهان” في تركيا، مرورًا بجورجيا، بالإضافة إلى خط أنابيب نقل الغاز الطبيعي  من حقل “شاه دنيز” (الذي ينتج حوالي 300 مليار متر مكعب سنويًا )، ويصل إلى تركيا، ثم أوروبا…

تجدر الإشارة إلى انتشار الفساد في جهاز الدّولة لأذربيجان، ولكن نادرًا ما تنشر المنظمات التي تُكْثِرُ الحديث عن “الشفافية” تقارير عن أذربيجان (الواقعة على حدود إيران)، ومن هذه التقارير النادرة، أخبار نشرتها منظمة العفو الدّولية، ضمن تقريرها السنوي 2017/2018، عن انتشار الفساد على نطاق واسع، وعن تكثيف حملات القمع وعن غياب حرية التعبير عن الرأي، واعتقال الصحافيين وحجب وسائل الإعلام “المُستقلة”، أو “المُعارضة” للنظام. أما سبب نَدْرَة مثل هذه التقارير فهو العلاقات المتطورة مع الإمبريالية الأمريكية، ومع الكيان الصهيوني.

لا يمكن فهم الخلفيات والدّوافع، دون الوقوف على بعض الأحداث والمحطات التاريخية، ومن بينها:

ارتكبت الدّولة التركية (العثمانية، التي كانت تحتل أرمينيا)، مجازر عديدة (منذ أواخر القرن التاسع عشر) ضد الأرمن الذين كانوا يُطالبون بإصلاحات سياسية، وبالمساواة بين المسيحيين والمسلمين، وخلال مرحلة انهيار الدولة العثمانية، أثناء الحرب العالمية الأولى، ارتكبت تركيا أكبر المجازر وعمليات الإبادة ضد الأرمن، من سنة 1915 إلى سنة 1923 (بتهمة “التواطؤ مع جيوش روسيا والحُلَفاء)، واستعانت تركيا بعشائر الأكراد، قبل أن تضطهدهم بدورهم، ليرحل العديد منهم إلى سوريا (حيث لم يكن للأكراد وجود يُذْكر) وإلى العراق، وصادرت السلطات التركية أراضي وممتلكات الأرمن، وصدرت أوامر بترحيلهم، واضطر مئات الآلاف من الأرمن إلى الفرار والإستقرار بالدّول العربية المجاورة (سوريا الكبرى، بشكل خاص)، فيما هاجر المَيْسُورُون منهم نحو أمريكا وأوروبا، وقُدّر عدد الضحايا بحوالي مليون، إضافة إلى حوالي نصف مليون من غير الأرمن، من اليونانيين والأشوريّين والبنطيّين والأناضوليين…

جَمع الرئيس التركي “تورغوت أوزال”، في تشرين الأول/اكتوبر 1991، زعماء الجمهوريات السوفييتية السابقة، التي تسكنها أغلبية “تركية الأصل” (الأتراك ليسوا شعبًا من “الشرق الأوسط”، وإنما من وَسَط آسيا، أتَوا إلى المنطقة بسبب الكوارث والمجاعات، بداية من القرن الثاني عشر)، في عاصمة تركيا، تحت شعار “أمة تركية واحدة من البحر الأدرياتيكي إلى سد الصين المنيع”، ومن بين هذه الجمهوريات “أذربيجان” التي أنشأت بها الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني قواعد عسكرية، في وقت مُبكّر من استقلالها، وتُخطط أذربيجان، تحت إشراف الإمبريالية الأمريكية لمنافسة مشاريع روسيا لبناء خطوط تَصِل حقول الغاز الروسية بأوروبا.

بذلت تركيا، منذ انهيار الإتحاد السوفييتي جهودًا كبيرة لتدعيم حضورها في منطقة البحر الأسود والقوقاز، وتدعم تركيا أذربيجان عسكريا، ويُشرف الضّباط الأتراك على تدريب جيش أذربيجان الذي يشتري الطائرات الآلية من مصانع صهْر الرئيس رجب طيب أردوغان، وشاركت في تموز/يوليو 2020، في مناورات عسكرية مع جُيُوش أمريكا وجورجيا ورومانيا وبلغاريا، في البحر الأسود، بالإضافة إلى العلاقات العسكرية المتطورة بين تركيا وأوكرانيا، ما زاد من الخلافات مع روسيا (المُنحازة إلى أرمينيا) التي اعتبرت هذه المناورات استفزازًا لها…  

أصدر رئيس أذربيجان (إلهام عَلْيِيف) سنة 2016 قرارًا رئاسيا يفرض حصول جميع الوافدين إلى أذربيجان على تأشيرة دخول، باستثناء حاملي الجواز الصهيوني والتّركي، وفي ذلك إشارة إلى عمق العلاقات مع هاتَيْن الدّولتَيْن (العَدُوّتَيْن للأمة وللشعوب العربية)، ونحاول الوقوف على خلفيات هذا القرار، وعلى العلاقات المتينة بين أطراف هذا الثُّلاثِي.

التقتْ مصالح تركيا والكيان الصهيوني في “أذربَيْجان”، التي طورت علاقاتها مع الكيان الصهيوني أيضًا (إلى جانب تركيا والولايات المتحدة)، وشملت المجالات الإقتصادية والعسكرية والإستخباراتية، وتضم أذربيجان قاعدة عسكرية صهيونية، وشكلت موطئ قدم للصهاينة في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، ثم توسّع النفوذ الصّهيوني، على خُطَى النّفُوذ الأمريكي، إلى جورجيا وأوكرانيا، وروسيا أيضًا، حيث يستعمر فلسطين نحو مليون مُسْتَوْطن، جاؤوا من روسيا ومن أوكرانيا، خلال فترة انهيار الإتحاد السوفييتي، وتراجع مستوى العيش في روسيا، ويكتسب موقع أذربيجان أهمية خاصة، بسبب مجاوَرتها لإيران، حيث يوجد حوالي 25 مليون مواطن إيراني، من أصل أذَرِي، كما توجد أقلية هامة من الأرمن الذين لجأ أجدادهم إلى إيران، هَرَبًا من المجازر، وعمليات الإبادة التّركية…

يستورد الكيان الصهيوني حوالي 70% من النفط الذي يحتاجه من أذربيجان، أو ما يعادل 40% من صادرات أذربيجان النفطية، وتُشارك شركة النفط الحكومية الأذرية “سوكار” في التنقيب على النفط المَسْرُوق من سواحل فلسطين المحتلة، فيما توطّدت العلاقات الإقتصادية، في مجالات الفلاحة والتكنولوجيا والأسلحة، واشترت أذربيجان، سنة 2016، أسلحة صهيونية بقيمة لا تقل عن 1,6 مليار دولارا، تضمّنت أنظمة دفاع جَوِّي وصواريخ، وبلغت قيمة المبادلات التجارية بينهما 4,5 مليارات دولارا، سنة 2017، قبل أن ترتفع منذ سنة 2018  لتصل إلى حوالي 5,7 مليار دولارا ( لم أعثر على أرقام مُوثّقة)، وتُعَدّ أذربيجان أحد أكبر أسواق السلاح الصهيوني، واشترت من دولة الإحتلال الصهيوني أنظمة رادار (أمريكية في الأصل، وقع تطويرها)، وطائرات آلية وغيرها، كما تُعَدُّ أذربيجان قاعدة صهيونية وأمريكية متقدّمة للتجسس على إيران، وذكرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية (نيسان/ابريل 2012) توقعات باستخدام الكيان الصهيوني القواعد الجوية لأذربيجان، لشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية، واستهداف العلماء الإيرانيين، كما أشارت وسائل إعلام صهيونية، في نيسان/ابريل 2018، إلى توقيع أذربيجان اتفاقيات عسكرية مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، من ضمنها السماح للطائرات العسكرية الصهيونية بالإقلاع من القواعد العسكرية في أذربيجان، واحتمال استخدامها لشن عدوان على إيران، حليفة أرمينيا، ومن حين لآخر تقصف طائرات آلية صهيونية (منذ سنة 2016 ) مواقع للجيش الأرمني في إقليم “ناغورنو كارباخ”…  

لهذه الأسباب، تدعم إيرانُ أرمينيا في حربها مع أذربيجان، التي تستفز إيران، من خلال المُطالبة بضم غرب إيران، حيث تقطن أغلبية المواطنين الإيرانيين من أصل أذَرِي، واستغل الكيان الصهيوني والولايات المتحدة هذه الخلافات من أجل الهيمنة على أذربيجان وعلى موقعها الإستراتيجي وثرواتها من المحروقات والمعادن الأخرى، كما استغلت تركيا العداء بين أرمينيا وأذربيجان، لتواصل محاولاتها تصفية الأرمنيين…

تقع أرمينيا في منطقة مُهدّدة بالزلازل، ولا تتمتع بأي منفذ بحري، ولذلك تعتمد على الطرقات البرية مع إيران وجورجيا، ولها حدود مُغلقة مع أذربيجان وتركيا أيضًا، ما أضر كثيرًا باقتصاد وتجارة البلاد، التي تُعتَبَرُ دولة فقيرة، ويقدّر عدد من يعيشون في أرمينيا بما يزيد قليلاً عن ثلاثة ملايين، فيما يُقدّر عدد الأرمنيين الذين يعيشون خارج البلاد بثلاثة أضعاف، أو قرابة تسعة ملايين، يُرسل العديد منهم تحويلات مالية منتظمة إلى ذويهم في أرمينيا التي لم تستغل بعْدُ حقول النفط والغاز والفحم، بسبب صعوبة استغلالها، وصِغَر حجم احتياطيها، ولا تزال تستورد الطاقة من روسيا، لكن مناجِمَها تحتوي الذهب والنحاس والزنك والرصاص، وكان اقتصاد أرمينيا، خلال الفترة السوفييتية، أي قبل استقلال البلاد، سنة 1991، يعتمد قطاع الزراعة، بنسبة 20% تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي، وعلى تصنيع المواد الكيماوية والأغذية والمنسوجات وبعض الآلات الإلكترونية، لمجموعة من الجمهوريات الأخرى، مقابل الحصول على الطاقة، وبعد الإستقلال وانهيار الإتحاد السوفييتي، أصبح القطاع الزراعي يُؤَمّن حاجة السكان من المواد الغذائية، ويُشغّل أكثر من ثُلُثِ قوة العمل، ومنذ منتصف العقد الأخير من القرن العشرين، انتهجت الحكومات المتعاقبة اقتصادًا ليبراليا، بدعم صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، وأصبح القطاع الفلاحي يتعايش مع السياحة، ومع قطاعات خدمات تقنية المعلومات والإتصالات، بالإضافة إلى صناعة الأحجار “الكريمة” التي اشتهر بها أرمنيو الشتات، كما في سوريا ولبنان…  

لا يمكن تصنيف نظام الحكم في أي من الدّوْلَتَيْن ب”التّقدّمي”، لكن نظام أذربيجان يستخدم موقع البلاد لإيواء القواعد العسكرية الأجنبية العدوانية، ويستخدم ثرواتها الضخمة، وعائدات المحروقات، لدعم أعدائنا، وفي مقدّمتهم العدو الصهيوني والولايات المتحدة ونظام تركيا، وللعدوان على دول أخرى مجاورة، مثل إيران، ولهذه الأسباب لا يمكننا دعم نظام أذربيجان، أي أن مصلحتنا كعرب وكأُجراء وفئات كادحة تقتضي هزيمة التحالف الأذربيجاني التركي الصهيوني الأمريكي…   

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.