نناقش في هذا الجزء ثلاثة من أشكال الوعي، نرى أنها الأكثر أهمية لأنها تلعب الدور الأبرز في تكوين الوعي الشعبي والتأثير به، وهي: الوعي الطبقي والسياسي والديني.
■ ■ ■
الوعي الطبقي
يشير الوعي الطبقي إلى موقف الفرد وقناعاته الطبقية والسياسية تجاه الطبقة/الطبقات ومصالحها:
أ) تجاه الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد وفقاً لموقعه الطبقي ووضعه الاقتصادي؛
ب) وكذلك موقفه من الطبقات الاجتماعية الأخرى.
فالطبقة تقوم على أساس علاقاتها بوسائل الإنتاج، أي مَنْ يملك تلك الوسائل من جهة، ومَنْ يعمل في العملية الإنتاجية ولكنه لا يملك وسائلها ولا ما تدره من ارباح، من جهة أخرى.
أمّا الموقف من الطبقات الاجتماعية المختلفة، فيتكون على أساس نمط الإنتاج السائد في المجتمع ووسائل الإنتاج وملكيتها، وما ينبني عليها من علاقات الإنتاج وما يرتبط بالصراع الطبقي. وبهذا المعنى، فإن الوعي الطبقي لا يقتصر على وعي الفرد بل يشمل وعي الجماعات والطبقات، فلكل طبقة اجتماعية وعي طبقي يتشكل من خلال هذه العلاقات المترابطة جدلياً والمتصارعة ايضاً.
ليس ما يعنينا في مفهوم الصراع الطبقي هو موقف الفرد من وضعه في المجتمع، بل الصراع في مستوياته الأشمل: الصراع بين الطبقات الشعبية من جهة، وأعدائها ومستغليها من أرباب العمل وأصحاب رأس المال، من جهة أخرى. بعبارة أخرى، ما يهمنا هو الصراع على مستوى الطبقة والذي يأخذ أشكالاً اقتصادية وسياسية وثقافية حيث تنتظم القوى المتصارعة في أحزاب وتنظيمات سياسية في صراعها من أجل الاستيلاء على السلطة والحفاظ على المصالح والمفاصل الاقتصادية والسياسية في المجتمع. ولا نزج هنا الحديث عن الصراع الطبقي كشأن نظري أو فذلكة سياسية، بل لأن مفهوم هذا الصراع يرتكز على التناقض والصر اعات في الحياة والمجتمع والطبيعة، وبهذا ينفذ (أي مفهوم الصراع) إلى المضمون الحقيقي في العلاقات الاجتماعية – الاقتصادية التي منها ننطلق في أشكال النشاط والفعل البشري والفكر الإنساني.
***
هذا في الفكر الماركسي، أما إذا نظرنا في غيره من النظريات والمفاهيم، فإننا نجد العديد من علماء الاجتماع والمفكرين السياسيين الذين يصنفون الأفراد والطبقات الاجتماعية على أسس مختلفة مثل الدخل أو المهنة أو الحالة الاجتماعية وغيرها. وهي تصنيفات تهرب من حقيقة الصراع الدائر في المجتمع، ودور الطبقات في مشروع التغيير الثوري. وعلى الرغم مما تتسم به هذه المقولات من معطيات تبدو علمية أو موضوعية، وما تلبسه من لبوس أكاديمية قد تفيد في الأبحاث الإحصائية، لكنها تخلو من القدرة على الأداء والفعل في التغيير الاجتماعي أو السياسي.
دور الوعي الطبقي في مشروع التثقيف الشعبي
على الرغم من طبيعة الطور الاقتصادي الذي تعيشه بلادنا، وتشابك النضال الوطني في التحرر وتحرير الأراضي العربية المحتلة مع النضال الطبقي، فإن مناقشة الوعي الطبقي تتميز بأهمية كبيرة تنبع من راهنية وإلحاحية مسألتين أساسيتين:
ا) الأولى، تتمثل في معنى وجوهر الاستغلال والذي يمكننا أن نكثفه فيما يلي: إن الإنتاج في بلادنا، وفي ظل أي نظام رأسمالي، لا يستمر، والمجتمع لا يتطور أو يستمر في تطوره، وفقاً لخطة واعية، بل من خلال الدفع إلى تحقيق فائض القيمة الناتج عن اختزال “قوة العمل” إلى سلعة وتحويلها إلى “مجرد” عمل. هذا هو جوهر الاستغلال الرأسمالي. فعلى سبيل المثال، لا يكمن جوهر الاستغلال في أن العامل لا يستطيع أن يملك السيارة التي يصنعها أو ينتج بعض قطعها، بل بكمن في أن ما ينتجه العامل يحقق “فائض القيمة” لرأس المال والذي يزيد بدوره من تراكم رأس المال وسطوته كي يعود ويستمر في استغلال هذا العامل.
ب) والمسألة الثانية والهامة، أن الحديث عن الاستغلال والصراع الطبقي يبقى نظرياً ومجرداً إذا لم يتحول إلى وعي حقيقي جذري وثوري واسع بين جماهير الطبقات الشعبية، أي أن يتحول إلى وعي طبقي وسياسي قابل للترجمة في برامج نضالية عملية.
تأخذنا هذه المسألة إلى إشكالية العلاقة أو الصلة بين النظرية من ناحية، والمشروع التثقيفي والتنويري الشعبي (أي مهمة التربية الشعبية)، من ناحية أخرى. بكلمات أخرى، علينا أن نجيب على المعضلة/السؤال التالي: كيف يمكننا تحويل الوعي الطبقي الكامن إلى وعي حقيقي، سياسي وثوري؟ خصوصاً إذا كنا نعيش في مجتمعات قد تحتاج كل “شريحة” أو “فئة” أو “مستوى” من الطبقات الشعبية إلى تربية خاصة بها، وفق تحليل وفهم وضعها المادي، الاجتماعي- الاقتصادي.
إن الوسيلة الوحيدة الناجعة في تنمية الوعي الطبقي الثوري هي العمل والنضال والممارسة، وتأسيس المشروع التنويري كجزءٍ من النضال الطبقي – الاجتماعي للطبقات الشعبية. فالتلقين لا يجدي ويبقى مجرد دعاية دون فعالية ودون أفق، بل إن جماهيرنا قد سأمته. فالجماهير لا تتعلم إلاّ عبر الممارسة والتي وحدها هي الكفيلة بخلق وتطوير الوعي الجماهيري من خلال تراكم التجارب الميدانية والخبرات النضالية. فالوعي الطبقي لا ينتقل إلى الجماهير عبر دروس نظرية تُلقى من على المنبر، بل إن تنمية هذا الوعي وتطويره تبدأ من حياة الجماهير وممارستها وتسييس حاجاتها ومطالبها. وهذا يتطلب بناء التنظيم الثوري (الحزب) الذي يقدم رؤية ثورية وبرنامج نضالي عملي تقودة قيادة ثورية كفؤة وملتزمة وقادرة على المضي بالنضال الشعبي حتى تحقيق أهدافه.
لقد أكدت تجارب الشعوب في الثورة والتغيير الاجتماعي عبر التاريخ، أن النظرية لا تبرهن على صحتها ومبرر وجودها، إلاّ في علاقتها بالنضال الطبقي الحقيقي وقدرتها على تحويل الوعي الطبقي الكامن لدى الطبقات الشعبية إلى وعي ثوري حقيقي، ففي هذا النشاط الثوري يتم التطابق بين الذاتي والموضوعي.
قد يقول رأي إن هذا افراط في دور وتأثيرات الصراع الطبقي، بل ربما شطط في إضفاء هذا القدر المبالغ فيه من الأهمية عليه. إلاً أن حقائق التاريخ والمجتمع تشير إلى أنه توصيف دقيق لواقع الحال، كما أنها دالّة على أن ضحايا الفقر والجوع والمعاناة الإنسانية بكافة أشكالها، هم من الطبقات الشعبية. وكلما ازداد هؤلاء فقراً وجوعاً، يزداد في النقيض منهم، ثراء الأثرياء والمستغِلين، لأن الأخيرين لا يعملون ولا ينتجون، بل إن ثراءهم هو ثمرة عمل وعَرَق الأولين.
الوعي السياسي
يشير الوعي السياسي، بالعادة، إلى الإدراك الفردي والجمعي (الأفراد والمنظمات والأحزاب وغيرها من القوى السياسية والاجتماعية)، للأوضاع القائمة والمناخ السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي في المجتمع، وطبيعة القوى والتيارات والحركات السياسية والاجتماعية والثقافية الفاعلة فيها وبرامجها وأهدافها، سواء على المستوى المحلي والوطني أو الإقليمي والدولي، حيث تقوم بين كافة هذه المستويات علاقة ترابطية وجدلية.
ومن شروط هذا الوعي تكوين فهم للراهن السياسي وأهداف الحراك والفعاليات السياسية ومطالبها، والأهم بالطبع هو تكوين فهم ونهج للتغيير المنشود والنضال الشعبي وطبيعة حراكه وآلياته (ثورة، انتفاضة، نضالات حزبية ومطلبية وبرلمانية …) من أجل تحقيق مصالح الشعب وضمان الحريات وتأمين احتياجاته الأساسية في العيش الكريم وتحقيق العدالة الاجتماعية. وهنا نتحدث عن الطبقات الشعبية التي تشكّل الأغلبية السكانية (الشعبية) في المجتمع، لا عن قلة من الشرائح والفئات الاجتماعية الغنية التي لا تشكل سوى نسبة صغيرة منه. وبهذا يجوز لنا أن نقول إن الوعي السياسي هو القلب النابض للقوى الحية والفاعلة في المجتمعات والكيانات السياسية.
الوعي الديني
تحتل مسألة الوعي الديني والدين والتدين وممارسة الشعائر الدينية حيزاً كبيراً في الثقافة العربية والوعي الشعبي العربي. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي قام بها مفكرون كثيرون عبر تاريخنا، حديثه وقديمه، في معالجة هذه القضايا وإشكالياتها، ما زالت هذه المسألة بحاجة إلى المزيد من الدراسة والجدل وخاصة فيما يتعلق بتأثيرات الدين ومؤسساته في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية العربية.
ولتبسيط هذه المسألة الشائكة، نقدم فيما يلي بعض الملاحظات في محاولة لتعريف وفهم الوعي الديني بعيداً عن المفاهيم الثيولوجية المجردة، مستخدمين مفاهيم شائعة بين الناس ومتوافق عليها في أغلب الأحيان.
□ من المعروف أن الديانات كانت دوماً موجودة بشكل أو بآخر في المجتمعات البشرية منذ نشأتها، وأن فكرة الله والوعي به رافقت الإنسان والحضارات الإنسانية في مسيرتها لآلاف السنين وارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالعديد من أفكاره (الإنسان) ومفاهيمه ومشاعره مثل المحبة، السعادة، الخير، الحكمة، معنى الحياة، الآخرة … وغيرها.
□ يطرح الدين فكرة الإيمان بالله أو الخالق والاعتقاد بأنه موجود، على أنها فكرة بسيطة غير قابلة للجدل وكحقيقة أزلية تقدم الإجابات على كافة أسئلة الوجود والواقع. وعلى ركيزة هذه العلاقة مع الخالق، تلبي الديانة حاجة إنسانية أساسية وهي الشعور بالطمأنينة والأمن الداخلي والنفسي، وهكذا يضحى الإيمان (المعتقد الديني) ضمانة لطمأنينة الإنسان وسعادته ويصبح ركيزة أساسية لوعيه الديني.
□ على خلاف الفلسفة والعلم، لا يسعى الدين أي الإيمان بالله أو الخالق و الوعي به إلى تفسير ظواهر الحياة والكون والطبيعة وقوانينها، بل يعزوها إلى القدرة الإلهية أو الإرادة الربانية، ويرتكز على الإيمان أو الحدس أو الشعور، لأنه في جوهره يسعى إلى العلاقة مع الله والتقرب منه. كل هذا يجعل الوعي الديني مختلفاً ومتميزاً عن غيره من أشكال الوعي التي، من حيث كونها حالة عقليّة وإدراكية، تعمل على فهم الواقع من خلال وسائل اتّصال الإنسان ببيئته.
□ في تفكيك قضايا الدين وحين نحاول دراسة تأثيراته على الفرد والمجتمع، يحسن بنا أن نميّز بين مستويات ثلاثة:
1) المعتقدات الدينية، وهي مجموعة الأفكار والمعتقدات التي تتسم بها ديانة معينة، مثل الركائز الخمسة في الإسلام (الشهادة، الصلاة، الزكاة، الصوم والحج) أو عقيدة أن “المسيح ابن الله” أو “الثالوث المقدس” في المسيحية، وما شابه ذلك في الديانات الأخرى؛
2) الطقوس والشعائر الدينية، والتي قد تختلف من ديانة إلى أخرى، ولكنها تجمع فيما بينها العديد من العناصر المشتركة مثل طقوس الصلاة والتعبد والموت والدفن والزواج وغيرها؛
3) ) الخبرات الدينية، أي ما يعيشه الفرد من تجارب ومشاعر وقناعات في علاقته مع الله أو الخالق.
يتجلى الوعي الديني في هذه المستويات الثلاثة في تجليات تتباين من ديانة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر، وكذلك من حقبة تاريخية إلى أخرى، ولكنها تجتمع على مشترك هو ببساطة: أن الله موجود، بل هو واقع وليس مجرد عقيدة مجردة، وكثيرون يعتقدون أنهم قد سمعوا صوته وشاهدوا صورته ولمسوا مظاهر قوته وقدرته الفائقة على اجتراح العجائب وشفاء الإنسان من الأمراض … وما شابه.
الدور الاجتماعي – السياسي للدين
توقفت عند هذه الملاحظات، ليس لأنها موضوع بحثنا، بل لأنني أعتقد أنها تأسس لفهم موضوعي لمكانة الدين ودوره في حياتنا، ولذلك فهي تشكّل أرضية ضرورية قبل الولوج إلى المسألة التي تعنينا وهي العلاقة بين الدين ومؤسسته، من جهة، والبنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع، من جهة أخرى، بعيداً عن الجوانب الإيمانية والروحانية للدين. وعليه، فإننا لا نبحث في صحة المعتقدات الدينية، بل نناقش تأثيرات الدين الاجتماعية والسياسية ودور هذه التأثيرات في تكوين الوعي (الفردي والجَمعي) وتطوره.
لهذه الأسباب مجتمعة، وعلى خلاف الرأي الذي يقول بأن الدين شأن خاص بالفرد، فإن علماء الاجتماع يجمعون على أن الدين أيضاً مؤسسة اجتماعية، وأنه يمثل مجموعة من المعتقدات والقيم والممارسات المنظمة والمتماسكة (أي الممأسسة) والتي تلبي احتياجات وقيم اجتماعية أساسية. بعبارة أخرى نقول إنه كما أن الأوضاع الاجتماعية والسياسية تؤثر في أفكار الناس وخياراتهم، كذلك فإن الدين يوثر بالفرد والمجتمع ويتاثر بهما أيضاً.
الدين السياسي وتأثيراته على الوعي الشعبي
لتوضيح فكرة التوظيف السياسي الدين، والتمييز بين الدين كعقيدة إيمانية للفرد وتوظيفه في خدمة أهداف سياسية واجتماعية، ومنعاً للالتباس في هذا الموضع ذي الحساسية المفرطة في مجتمعاتنا المتدينة والتقليدية، نبدأ بضرورة الانتباه والتمييز في مستوييْن:
الأول، التمييز بين الدين في أبعاده الإيمانية والروحانية كعلاقة بين الفرد والخالق، من جهة، ومن الجهة الأخرى دور الدين والمؤسسة الدينية في المجتمع والسلطة السياسية وتوظيفه في خدمة غايات ومصالح سياسية واجتماعية وإيديولوجية. لأن الوعي الديني، كما ناقشنا في أكثر من مكان، ليس مجرد انعكاس للمشاعر أو المعتقدات الدينية، بل نراه يتبلور ويتمأسس ويأخذ بنية منظمة ومتطورة وشديدة التماسك.
والثاني، التمييز بين “الدور التقليدي” للدين والمؤسسة الدينية من جهة، ومن الجهة الثانية التطورات التي ظهرت في بلادنا منذ بداية سبعينيات القرن الماضي في تشكّل وتبلور قوى الدين السياسي ودورها كقوى ثورة مضادة مرتبطة بالمركز الرأسمالي – الإمبريالي وسياساته وأجنداته، ومعادية للقومية والوحدة العربيتين وقضايا شعوبنا في تحرير الأراضي العربية المحتلة وإنجاز التنمية وإنهاء التبعية للمركز الرأسمالي. وتتجلى قوى الدين السياسي هذه في أنظمة حاكمة، وأحزاب وتنظيمات سياسية ودعوية وإرهابية مسلحة، وفي عديد من التيارات السلفية والأصولية والإرهابية، ومؤسسات إعلامية وثقافية وغيرها.
في قلب هذه المسألة، نشهد كيف يتم استخدام النصوص الدينية وتوظيفها لخدمة أغراض سياسية واجتماعية، وكيف تمّ تكاثر هذه النصوص وما نُسب إليها عبر حقبات التاريخ الإسلامي مثل أحاديث الصحابة والأتباع والتي أصبحت في اعتبار الكثيرين جزءً من النصوص الدينية المقدسة. كما نلحظ، بما لا يقل أهمية، دور تأويل وتفسير هذه النصوص وتوظيفها في ظروفنا الاجتماعية والسياسية الراهنة، مع أنها (النصوص) جاءت في سياق بنية اجتماعية تاريخية معينة، وكانت نتاجاً لأوضاع اجتماعية وسياسية في تلك الحقبة وخضعت لتأثيرات تلك البيئة.
هكذا دخل الدين عبر الحقبات التاريخية المختلفة إلى الصراعات السياسية، وتم توظيفه وتوظيف نصوصه في خدمة غايات سياسية، كما حدث، على سبيل المثال، حين تَحَول الحديث إلى “نص ديني” ذي أبعاد خلافية في الصراعات الدينية والسياسية. وهو ما يفسر هذا الكم الهائل من الفتاوي التي تتفاوت وكثيراً ما تتناقض، فنرى كيف يختلف ويتصارع الفقهاء في فتاويهم وآراءهم في تفسير الموقف ذاته والحدث ذاته.
بناءً عليه، يمكننا الاستناج:
(1) يجمع كثيرون من المفكرين والفقهاء على أن المواقف من النصوص الدينية بعد القرآن، من حيث نشأتها وتكوينها، جاءت كقرارات وخيارات في مناخ الصراعات السياسية من أجل السلطة والمنافسة على احتكار الحقيقة الدينية؛
(2) أن المرجع الأساسي وصاحب القول الفصل في هذه الحالات كان الفريق المنتصر في الصراع على السلطة الذي إدّعى أنه يملك الحقيقة وبالتالي يمثل الصيغة (المرجعية) الرسمية للدين.
نختم هذه الفكرة بالقول بإنه لا يمكننا قراءة هذا المشهد وراهنيته في الواقع العربي وتأثيراته على أوضاع شعوبنا، إلاّ إذا إدركنا مكانة الوعي الديني على المستوى الشعبي والدور الذي يلعبه في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. فإذا كان الوعي متدنياً وهابطاً معرفياً وثقافياً ودينياً، فإنه يصبح من السهل تقديم تفسيرات وقراءات ميكانيكية للنص الديني والتراث، بل يمكن، وهذا هو الأخطر، تأويلها ووضعها في خدمة أغراض سياسية وإيديولوجية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، يصبح من السهل فهم ظاهرة العنف والإرهاب والاقتتال الطائفي والمذهبي التي تتولد عن التطرف والتعصب، وتوظيفها سياسياً واجتماعياً من قِبَل قوى الدين السياسي.
الوعي الديني كمصدر للتأثير في المجتمع والسياسة
لعل أهم ما يتميز به الوعي الديني، على الأقل من ناحية تأثيراته على الإنسان والمجتمع، هو كونه وعياً جَمْعياً يشارك فيه المؤمنون وأتباع الديانة الواحدة، ما يُسمى أحياناً ب “الإخوة الإيمانية”. فعندما ينمو الوعي الديني بين هؤلاء المؤمنين في إطار ديانة واحدة ومؤسسة دينية واحدة، إلى مستويات عليا من الإيمان والتقوى والتعبد، فإنه يصبح مصدر وجودهم بل كثيراً ما يضحى مصدر كل شيء في حياتهم، وعند بعضهم يصبح غاية الحياة نفسها. وهنا يشكّل الوعي الديني ركيزة متينة للرابطة الوثيقة بين أتباع العقيدة والمؤسسة الواحدة، والذين يلتقون بقوة وعفوية على أرضية مشتركة ورباط الأخوة المتينة والهدف المشترك الجامع. وأحياناً يشاركهم في هذه الرابطة الوثيقة أتباع ديانات أخرى، وهو ما يشكّل نسبة كبيرة من المجتمع وربما أغلبيته، فتقوم بين هذه الجموع الغفيرة شبكة علاقات قوية قوامها الترابط المتبادل والهدف المشترك.
تفضي بنا هذه المسألة إلى فهم القدر الكبير من تأثيرات الوعي الديني على الإنسان والإنسانية إذ أن هذه التأثيرات لا تقتصر على ديانة واحدة مثل الإسلام أو المسيحية، بل تشمل مجمل الديانات على الرغم من تعددها. وسوف نعود في الجزء الأخير من هذه الدراسة تحت عنوان “الوعي الحقيقي والوعي الزائف” إلى مناقشة الوعي الديني، لا لمزيد من الاستفاضة في الشرح، بل لتبيان ما حلّ به من تزييف وتوظيف لخدمة أغراضٍ سياسية واجتماعية وأيديولوجية.
رابط الجزء الأول:
رابط الجزء الثاني:
____________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.