الوعي الشعبي بين الحقيقي والزائف: مدخل إلى قضايا الوعي وإشكالياته (الجزء الرابع)، مسعد عربيد

في هذا الجزء وقبل مناقشةالتمييز بين الوعي الحقيقي والوعي الزائف، نتناول الآليات الرئيسية لتزييف الوعي: أ) التربية الأسرية، ب) التعليم التلقيني، ج) الثقافة والإعلام و د) الدين السياسي.

الوعي الحقيقي والوعي الزائف

لا بدّ من الإشارة في البداية إلى أننا لا نناقش هذين الشكلين من الوعي في فضاءٍ نظري مجرد، بل في سياق الواقع العربي وواقع الشعوب العربية، وتحديداً في سياق آثارهما (أي الوعي الحقيقي والزائف) على الوعي الشعبي العربي والحاجة الملحة لبناء مشروع تثقيفي تنويري شعبي يأخذ بالجماهير العربية إلى حيز الفعل السياسي والتغيير الجذري للأوضاع  المزرية التي تعيش فيها.

وبالرغم من أن ظاهرة الوعي الزائف الذي يسيطر، في العديد من تجلياته،  على العقل الجَمْعي لا تفوت المراقب لأوضاع شعوبنا في الراهن العربي، فإن الّذين تنبّهوا لها هم قلّةٌ، بينما ظلت الغالبية العظمى من الناس ضحية تشوية وعيهم وتزييفه. فقد قام بعض المثقفين والمفكرين بالتنبيه والتحذير من هذه الظاهرة وعملوا على كشف تجلياتها في الواقع العربي، وهناك محاولات وكتابات جدية وحصيفة في هذا الاتجاه، ولكننا بحاجة إلى المزيد لمعالجة هذه الإشكالية وإعادة الأمور إلى نصابها.

تكمن أهمية التمييز بين هذين الشكلين من الوعي في الناحية العملية لبناء مشروع تثقيفي شعبي وتنويري عربي. فمثل هذا المشروع، يتطلب بناء الوعي الحقيقي، النقدي والجذري والثوري، كركيزة رئيسية وشرط أساسي في استعادة دور الجماهير. غير أن هذه المهمة باتت مستحيلة دون التخلص من أوهام الوعي الزائف الذي أصبح مستشرياً في أبعاد حياتنا المادية والعقلية والروحية، وقد أرهقت حمولتة، على مدى عقود، مسيرة الجماهير وحَرَفتها عن مسارها في النضال من أجل التغيير، وغدا الوعي الزائف يُحْكم سيطرته على الحياة المعنوية والمادية للإنسان.

***

الوعي الحقيقي والأمين هو الوعي بحقيقة القضايا المطروحة حول الإنسان وواقعه وبيئته، وهو ما يتطلب الوقوف على المعلومات والمعطيات الصادقة والحقيقية وإدراكها. أما ب”الوعي الزائف”، فإننا نقصد ذلك الذي لا يدرك الأمور على حقيقتها، حين لا تتوفر المعلومات والمعطيات الصادقة، أو حين يتم تشويهها أو تقديمها على نحو خاطئ أو كاذب، وهو ما يؤدي إلى تشويه الموقف من القضايا واتخاذ موقف خاطئ، أي أنه يؤدي إلى تكوين الوعي الزائف. وينبني هذا الوعي على مجموعة من الأوهام ويتمثّل بالأفكار والمفاهيم التي يتبنّاها الشخص ويقتنع بها رغم أنّها لا تتناسب ولا تتطابق مع الواقع الذي يعيشه، على النقيض من الوعي الحقيقي والواقعي الذي يتمثّل بالفهم الصحيح للواقع والأشياء والقضايا.

وعطفاً على ما ناقشناه أعلاه تحت عنوان “الوعي والإنتاج عند ماركس”، لا بدّ لنا من الإقرار بأن المفاهيم الماركسية، ومن منطلق فهمها للوعي،  قد ساهمت في العثور على المسار الحقيقي والتاريخي لكفاح الشعوب في القضاء على كافة أشكال الظلم والاستغلال. فتكوين الوعي الحقيقي والقدرة على التمييز بينه وبين الآخر الزائف، يأخذ الناس إلى يقظتهم ووعيهم لدورهم وهويتهم ومصالحهم. لذلك، كان الوعي الحقيقي هو المرشد للكثير من الحركات التغييرية في حياة الشعوب والمجتمعات البشرية عبر التاريخ: حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار والإمبريالية، والنضال ضد التمييز العنصري وفوقية العنصر الأبيض في أفريقيا والولايات المتحدة، ونضال البروليتاريا ضد استغلال رأس المال في كافة أنحاء العالم  … وما عدا ذلك من أشكال الظلم والاستبداد.

آليات تزييف الوعي

تزييف الوعي هو حصيلة لمسيرة طويلة من التطورات التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية تتداخل فيها أسبابٌ وعواملٌ متعددة. وليس من المفيد ولا من الموضوعية والدقة أن نحصر هذه الأسباب والعوامل في واحدٍ دون الآخر. فليست العوامل الخارجية (الاستعمار والهيمنة الإمبريالية مثلاً) وحدها هي المسؤولة، ولا تلك العوامل الداخلية (التخلف، الأنظمة الرجعية والاستبدادية التابعة للمركز الرأسمالي – الإمبريالي، الثقافة ودور المثقف وغيرها). بل لا بد من اعتبار كل العوامل مجتمعة، الخارجية والداخلية، الذاتية والموضوعية، وكيف تفاعلت فيما بينها في تعطيل الوعي الشعبي وتزييفه.

ليس سراً أنه من أبرز العوامل التي تشكّل الوعي الزائف لدى عامة الناس هو الإعلام والمؤسسات التربوية والتعليمية والدينية والثقافية والفنية وجزءٌ لا يستهان به من النخبة الثقافية من مثقّفين وأدباء وكتّاب. وبقدر ما يتسع له المجال هنا، سنركز على أربعة عوامل ساهمت في تزييف الوعي دون الإدعاء بأنها الوحيدة، ولكنها من وجهة نظرنا عوامل رئيسية، إضافة إلى أنها عوامل أساسية في خلق وعي جديد. وتتمثل هذه العوامل في الدور الذي يلعبه كل من:

أ) التربية الأسرية

ب) النظام التعليمي والتعليم التلقيني

ج) الثقافة والإعلام

د) الدين السياسي كآلية لتزييف الوعي

أ) دور التربية الأسرية

لا تقتصر المعرفة على ما نتعلمه ونتلقاه من خلال عملية التعليم في المدارس والجامعات، بل هي إرث تتداوله الأجيال، جيلاً عن جيل، وهذا ما يتم غالباً في إطار الأسرة والأسرة الموسعة  expanded family وقبل التحاق الطفل بالمدرسة.

يجمع أطباء الأطفال المتخصصون في علم نمو الطفل child development  على أن

السنوات الأولى من حياة الطفل هي الأكثر تأثيراً وحسماً في تكوين الطفل ونموه. وهذه السنوات هي فترات الطفولة المبكرة الواقعة بين ولادة الطفل وبلوغه الثامنة من عمره. غير أن السنوات الخمس الأولى بشكل خاص هي الأكثر تأثيراً وأهمية فيما يتعلق بنمو الطفل وتنمية قدراته ومهاراته الجسدية والفكرية والعاطفية والاجتماعية. كما أن العديد من الأبحاث الطبية في تطور الدماغ  البشري تشير إلى أن السنوات الثلاث الأولى هي أهم سنوات نمو الطفل.

لقد أشار سيغموند فرويد (1856 – 1939) منذ عقود في العديد من إبحاثه حول تكوين عقل الطفل وتطوير معرفته، مؤكداً أن الإنسان يكون “مُنْتَجاً صغيراً في سن الرابعة والخامسة” وما سيفعله في سنوات حياته اللاحقة لن يكون سوى “أن يكشف تدريجياً عما كان بداخله سلفاً”. وهي ظاهرة كثيراً ما نشاهدها لدى الأطفال الذين يرافقون ويجالسون أخوتهم وأخواتهم الأكبر منهم سناً، فيتعلمون عن طريق المحاكاة القراءة أو الكتابة أو الرياضيات وغيرها من العلوم دون أن يفهموا معانيها في تلك المرحلة المبكرة من نموهم، ولكن سيكون لتراكم هذه المعرفة والخبرات أثراً في مستقبل حياتهم وتعليمهم.  

لا بد هنا من الإشارة إلى أن هذا  الاستنتاج يحمل، بالطبع، الكثير من التعميم، إذ أن نمو الطفل يتفاوت ايضاً بناءً على عمره وأسلوبه في التعلم وشخصيته واستجابته وتفاعله مع عوامل البيئة العائلية والاجتماعية التي ينمو فيها ويتكسب فيها خبراته الأولى.

ب) النظام التعليمي والتعليم التلقيني

ليس أسلوب “التلقين وحشو المعلومات” في المناهج التدريسية في مدارس بلادنا وجامعاتها وحده الذي يخضع لهيمنة أيديولوجيا الطبقة الحاكمة والبنية الفوقية للنظام الحاكم، بل إن مجمل العملية التعليمية والتربوية تخضع لهذه الهيمنة وإملاءاتها في تكوين الأركان الأساسية لوعي الأجيال العربية الناشئة ومداركها المعرفية والثقافية. كما أن هذا النظام التعليمي وما يتضمنه من نهج تربوي ومواد تعليمية يعكس تلاقي مصالح السلطتين، السياسية والدينية وإحكام سيطرتهما على المجتمع. وهو ما يتمظهر منذ عقود في جمود الأنظمة التربوية والتعليمية في بلادنا، ما أدّى إلى غياب حرية الفكر والتعبير وضحالة فكرية ومعرفية وغياب النقاش حول قضايا الفكر والإنسان والمجتمع.

لعل التعليم التلقيني هو الأخطر والأكثر تأثيراً على الأجيال الناشئة ومستقبلها ومستقبل بلادنا بشكل عام. وليست بلادنا الوحيدة ولا الاستثناء، بل نجد حالات مماثلة ومشابها في كل الأنظمة الحاكمة في العالم.

يدخل الطفل المدرسة وفي مخزونه ما تعلمه في سنوات عمره السابقة في إطار بيئته الأسرية، وهنا نقف على جوهر مهمة التدريس حيث تصبح مهمة المُدرس أن يكشف عن المعرفة والمعلومات ويعرضها على العقول الصغيرة والشابة، ثم يدعوها ويعينها على فهمها وتفسيرها. أي أن المدرس يقدم المعرفة لتلاميذه، ثمّ يفسح لهم المجال لصقلها وإغنائها. بعبارة أخرى، ووفق الكثيرين من المتخصصين في نظريات ومسائل التربية والتعليم، فإن مهمة المُدرس تكمن في تسهيل وصول المعرفة إلى العقول وإزالة العوائق التي تحول دون فهمها وتقبلها، أكثر من جعل الأشياء والمعارف مفهومة وتلقين هذا الفهم أو التفسير للتلاميذ أو فرضه على عقولهم.

يقوم الأسلوب التلقيني، إن جاز التعبير، على اكتساب التلاميذ للمعرفة عن طريق فرض المعلومات والمحاكاة: محاكاة الآخر أو الأكبر أو الأكثر سلطة وقدرة مثل المُدرس وغيره. ولا يقتصر هذا الأسلوب في التعليم على التلاميذ الصغار في سنوات التعليم الإبتدائية، بل نشاهده في مراحل التعليم الثانوية والجامعية أيضاً.

بالمناسبة، ودون الرغبة في الخروج عن موضوعنا، بوسعنا أن نذهب إلى ما هو أبعد من تأثيرات هذا الأسلوب في مجال التربية والتعليم: إلى التربية الدينية في مجتمعاتنا وغيرها من المجتمعات البشرية عبر العصور دون إستثناء. أليس هذا ما يحصل فعلاً في تلقين النصوص الدينية وتقديسها، حيث يجري تردادها وإعادة قراءتها مراراً وتكراراً آلاف المرات خلال حياة الإنسان ومنذ نعومة أظفاره، فيحفظها عن ظهر قلب، وفي كثير من الأحيان دون أن يكون قادراً على فهمها أو التفكير بمعانيها أو الاقتناع بها.

من هذا المنظور، يصبح التعليم التلقيني والسلطوي عائقاً إذ يتحول “الدرس” أو ما يقرره المنهج التدريسي إلى معرفةٍ ينبغي إعادة إنتاجها بشكل صارم وبعقل مغلق، دونما اعتبار للعملية التي تُمكّن من إعادة الإنتاج هذه، أي القدرة على التفكير وإثارة التساؤل والحق في النقد والتفكير النقدي. وهذا ما يثير سؤال وإشكالية مهنة التدريس ومسؤوليتها في تنمية القدرات التفكيرية للتلميذ، وليس مجرد عرض المعلومات أو المعرفة بشكل تلقيني مطلق.

هناك حاجة قصوى لمناقشة هذه المسائل في واقعنا العربي من منظور مراجعة وتقييم الأساليب والمناهج التدريسية والتربوية وطبيعتها ودور المُدرسين في تعليم الأجيال العربية الناشئة. وبوسعنا أن نضيف أيضاً حق هؤلاء المُدرسين في ممارسة دورهم في صياغة المناهج والسياسات التعليمية والتربوية وتنمية مهاراتهم وقدراتهم التعليمية من خلال الالتحاق بدورات علمية وأكاديمية والمتابعة المستمرة لكل جديد في نظريات التعليم وعلم النفس التربوي وغيرها من العلوم والتخصصات ذات الصلة. فمن الملاحظ مثلاً، أن كثيرين من المُدرسين في بلادنا لا يبذلون جهداً في تثقيف أنفسهم والاطلاع الدائم ومتابعة التطورات في شؤون التعليم والتربية والتاريخ والسياسة والمجتمع، وهو ما يحتاجون إليه في تدريس طلابهم ورفع وعيهم. بل إن كثيرين منهم لا يتقنون اللغات الأجنبية كي يتمكنوا من الاطلاع على الأعمال والمؤلفات في لغاتها الأصلية، وكل هذا يساهم في تجهيل المدرسين الذين يناط بهم تدريس أبنائنا.

ج) الثقافة والإعلام

يحتل الإعلام في عالم اليوم، وفي واقعنا العربي بشكل خاص، موقعاً مركزياً إذ أنه يعمل على مدار الساعة على تشكيل وعي المواطنين، والأخطر تزييف هذا الوعي. ومن المظاهر اللافتة في الإعلام العربي، وبالطبع ليس فيه وحدة بل هي سمة العصر في الإعلام الغربي أيضاً، هو اللهاث وراء الأحداث المتسارعة دون التوقف للتفكير والتحليل أو الذهاب إلى الأعمق لفهم تأثيراتها الحقيقية على القطاعات الكبيرة من المجتمع والشعب.

قد يجد المرء بعض التفسير لهذه الظاهرة في تسارع وسخونة الأوضاع في بلادنا على مدى عقود من الأحداث والتطورات الجسيمة المتتالية بدون توقف، غير أن مؤثرات الإعلام العربي على وعي المواطن والشارع العربيين قد تعاظمت في العقود الثلاثة الأخيرة لعدة أسبابٍ وعوامل أهمها:

– ارتهان وسائل الإعلام لمَنْ يملكها وتوظيفها في مصلحة القوى المالية/الاقتصادية والسياسية التي تمولها وتسيّرها وفق نهجها ومصالحها؛

– المؤثرات التقنية في الإعلام، وبشكل خاص تقنية الصوت والصورة؛

– الضخ المستمر والتكرار مما يضاعف من التأثير الكمي على المتلقي على نحو يشبه الانفجار  المعلوماتي بآلاف الرسائل يومياً؛

– هذا بالطبع بالإضافة إلى انتشار وسطوة الشبكة العنكبوتية وتشعباتها من عالم افتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي؛

– تحوّل الكثيرين من المثقفين العرب على اختلاف أدوارهم وألوانهم – المفكر والفيلسوف، أو الكاتب والشاعر، أو الناقد والفنان والرسام – ليصبحوا مأجورين للإعلام والنفطي منه على وجه الخصوص، وأداة من أدواته، وبوقاً من أبواقه؛

– خلو الساحة السياسية والفكرية والإعلامية والثقافية بعد هزيمة الأحزاب والتنظيمات والتيارات القومية والشيوعية واليسارية، وانخراط كثر من كوادرها في المشاريع والمؤسسات الرجعية واليمينية والأجنبية الممولة من حكومات الغرب الاستعماري؛

– سلعنة الثقافة والفكر في عالم إستعراضي يصبح فيه الإنسان والفكرة سلعة.

د) استخدام الدين كآلية لتزييف الوعي

تبدأ عملية التربية الدينية في مجتمعاتنا وغيرها من المجتمعات، منذ نعومة أظفار الطفل في إطار الأسرة ولاحقاً في دور العبادة والمؤسسة الدينية، ومن خلال المؤسسات التربوية والتعليمية من مدارس وجامعات ووسائل الثقافة والإعلام. ولا تتوقف هذه العملية، بل تستمر في إطار الحياة الاجتماعية والأنشطة المجتمعية عبر الحضور الهائل للدين والتدين والمؤسسة الدينية وما تمتلكه من وسائل الإعلام والثقافة والدعاية.

كل هذا يساهم، في مرحلة مبكرة من نمو الإنسان وتكوّن وعيه، في زرع المفاهيم الدينية وترسيخ أهداف الدين وممارساته، وهو ما يلعب دوراً هاماً في تكوين وعي الفرد والمجتمع وكذلك في صياغة القيم السائدة والسلوكيات الفردية والمجتمعية. ويتعاظم دور التربية الدينية وأثرها في تكوين الوعي وحياة الفرد والمجتمع، إذا ما أضفنا أنها تتميز بأسلوب التلقين وحفظ النصوص الدينية عن ظهر قلب دون الأخذ بالحسبان أننا نعيش اليوم في سياق زماني ومكاني مختلف عن الحقبات التاريخية الماضية، ودون جهد في إمعان العقل والتفكير النقدي أو مناقشة الأفكار أو تبادل وجهات النظر بشكل حواري حيث يصبح العقل البشري متلقياً سلبياً لما يُقدم له من أفكار ومعلومات.

وتحت شعارات التعليم الديني والتوعية الدينية تنتشر في بلادنا مشاريع ومؤسسات تتخذ لنفسها لبوس التوعية الدينية والتبشير بالقيم الخيِّرة، ولكنها كثيراً ما تعمل في خدمة أجندات وغايات سياسية وإيديولوجية تزيد من الاحتقان بين مختلف الأديان والطوائف والمذاهب وتحرض على التحارب بينها. ففي حين تتغطى هذه المشارع والمؤسسات بغطاء الدين وتدّعي نشر ثقافة العيش المشترك والتسامح بين الإديان، نراها ترفض الآخر وتعاديه وتكفّره وتدعو إلى التطرف والإرهاب. وقد شهدنا في العقود الأخيرة انتشاراً واسعاً لهذه النشاطات والجهود تحت أشكال وآليات مختلفة تدّعي أنها دعوية توعوية وأنها تعمل على نشر التوعية الدينية.

في هذا السياق، لا ينبغي أن يفوتنا أن القوى الاستعمارية الغربية كانت السبّاقة في مشروع غزو بلادنا منذ القرن التاسع عشر وقبله تحت شعارات نشر الدين وقيّم المحبة والتسامح أو حماية الإقليات الدينية من الاضطهاد في ظل الاحتلال العثماني (يقصدون غير المسلمة أي المسيحية خصوصاً في بلاد الشام). ولهذه الغاية جاءت إلى بلادنا “إرساليات تبشيرية” وكثير من الكنائس والمؤسسات والتنظيمات التي موّلها الغرب الاستعماري واتخذت لبوساً دينية أو خيرية وأكاديمية. وما زالت هذه المؤسسات تعمل بين ظهرانينا حتى يومنا هذا تحت شتى المُسميات والعناوين والأقنعة من أجل تعزيز وتنفيذ أجندات خارجية استعمارية معادية لمصالح شعوبنا الوطنية أو الثقافية والحضارية.  

لقد قام عدد من المفكرين والكتّاب بمحاولات للكشف عن تزييف الوعي الديني وتوظيفه لخدمة أهداف سياسية، ولكن هذه المحاولات لم تذهب إلى حلول جذرية لهذه المسألة ولم تتجاوز كونها طروحات فكرية وتصورات تدعو إلى تنمية “الوعي الصحيح” خصوصاً بين الجيل الشاب عبر آليات تجديد الخطاب الديني والتخلص من الفتاوي المضللة واستعادة دور الأسرة والمؤسسات التعليمية في نشر “الوعي الديني الصحيح”.

رابط الجزء الأول:

رابط الجزء الثاني:

رابط الجزء  الثالث:

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.