دور العملاء والمدسوسين في أقبية التعذيب
إن سقوط شخص ما وطنياً، وارتباطه بالمخابرات لا يقتصر فقط على العلاقة التجارية (خذ وهات) بل يتعداه إلى أبعد من ذلك، حيث يصبح المتساقط مطية حقيرة بيد رجال المخابرات وأداة ذات قائمتين لا أكثر. إنه بالأساس من صف أعدائهم وهم يستثمرونه بكل ما لديهم من وسائل ويعتصرونه، ويلقون به كل مرة في أكياس الزبالة، إنه يتحول إلى خرقة بالية تتمزق كلما شدت من أحد أطرافها.
إنه يفقد كل القيم الإنسانية والأخلاقية مع فقدانه لانتمائه الوطني والشعبي ويصبح عنوان حياته الاستجابة المتنوعة لكل ما يطلبه رجال المخابرات الذين يحيطونه دائما بجو من الإرهاب والشك فيه، والتهديد بكشفه أو حتى بقتله ليظل هو من جانبه يسعى للإبقاء على شعرة معاوية. إن شهر العسل بينه وبين المخابرات والذي يبدأ في مرحلة تجنيده ينتهي سريعا بعد أن يثقوا أنه تورط وانتهى الأمر بغير رجعة. فهم بعد أن يحسموه لصالحهم عمليا، يستمرون في إسقاطه خلقيا واجتماعيا. فلا باس أن يتعود السكر، والمخدرات ولا بأس أن يذهب باستمرار للعاهرات ومستنقعات الحياة فهذا هو النمط الذي يرتاح رجال المخابرات للتعامل معه واثقين من استمرار انشداده العبودي لهم.
في البداية قد تقتصر العلاقة على مبدأ (خذ، وهات) خذ معلومات وأعطني فلوس، لكن هذا النمط يظل في حدود العلاقة التجارية والتي يتمثل فيها طرفان يعترف كل منهما بحق الآخر، إن هذا الوضع لا يريح أجهزة المخابرات، فلا بد من تحويله إلى مطية، إلى لا شيء سوى أداة بشرية ذات قائمتين، لا قيم، ولا أخلاق إلا قيم العمالة وأخلاق السقوط.
وتبدأ المسألة عادة بدفع العميل للانحلال الخلقي والتخلص عمليا من كل القيم الاجتماعية السائدة مما يعمق اغتراب العميل وبعده عن المجتمع بل واحتقاره له ولكل قيمه وأخلاقه الاجتماعية والسياسية والوطنية. تجريده من كل ارتباطاته السابقة حتى ارتباطاته العائلية مع كل ما يتولد عن ذلك من تهور وانهيار من جهة، وامّحاء الشخصية وذوبانها في عالم الدناءة من جهة أخرى.
إن سلطات المخابرات لا تدخل الى نفسية العميل أي إيمان بأية قيمة، بل ترمي إلى إبعاده عن الالتزام بأية قيمة إنسانية مهما كانت وتهميشها أمامه باستثناء قيمتين اثنتين:
قليلا من المال، ورضى المخابرات الذي لا يدرك.
تحاط هاتان القيمتان بحب الظهور ولو تصوراً وخيالاً، فهو شخص يستطيع الدخول إلى مبنى الحاكم العسكري متى شاء وليس كالآخرين الذين ينتظرون الدور، ويكفيه خيلاء أن يرى كومة من البشر تقف أمام مبنى الحكومة لقضاء مصالحها منذ الصباح، أما هو فيدخل فور وصوله رافعا رأسه راضيا عن هذا النعمة.
والمصيبة أن يدخل في وقت مناوبته جندي لا يعرفه، حينها تقع الطامة الكبرى، حيث يعترضه هذا الجندي بخشونة، ويدفعه إلى الوراء دون رحمة مع ما يلزم من الشتائم والتوبيخ والصراخ، حيث لا ينفعه الاستجداء، ولا الادعاء بأنه يريد مقابلة الضابط فلان، ويشعر أن (كبرياءه) قد أهينت، فكيف له أن يقف وينظر كالناس الآخرين فهو ليس منهم!
وإذا صادف أن طوقت المنطقة التي يسكن فيها وفرض نظام حظر التجول فإن ما يسعده أن يخرج من الطوق بخلاف الآخرين بفعل تسهيل السلطات له والطامة الكبرى أن يجتاز دورية لا تعرفه فتعتبره مخالفا وتنهال عليه ضربا قاسيا وإهانات. لا بأس. إنه يعزي نفسه بأنهم لا يعرفونه، اللهم إلا إذا شهده الناس يتعرض لنفس ما يتعرضون له فسيسخط عليهم ويتمنى إبادتهم جميعا.
وحتى يعلموه السقوط الأخلاقي والانحلال من القيم فلا بأس أن يصطحب أحد رجال المخابرات عاهرتين تمثل إحداهما زوجته والأخرى أخته، ويذهبون معا إلى أماكن التسلية حيث لا يمانع رجل المخابرات أن تقوم العاهرة التي تمثل دور أخته بمطارحة (صاحبنا) الغرام وأمام عينيه (فهي حرة، وهو صديقه الحميم الذي لا يعز عليه شيء حتى أخته)، ولا مانع أن تتم مبادلة الأدوار بينهم في مرات لاحقة (لسداد الدين)، وهنا يفرط بأخته وتذهب ضحيته هو.
وعبر السقوط المتواصل للعميل يجري تدريبه على الأعمال التجسسية وأعمال الملاحقة والاختراق الأمني للتجمعات والمنظمات الوطنية، ويجري إعداده لتقبل أي أوامر وأي مهمات حتى ولو كانت متابعة أصدقائه وإخوته وأهله كما حصل مئات المرات. إنه ينشد إلى أوامر المخابرات أكثر من انشداده لأية جهة أخرى أو أية مصلحة، مقابل أن يكون في جيبه مسدس وبضعة دريهمات وسهرة في إحدى الحانات الرخيصة.. لا بأس، فالحياة قاسية وهو يحب النقود.
بعد أن يمضي شهر العسل تنحجب المنح والعطايا ويبقى مضطرا لمواجهة مصيره منقادا إليه بفعل سقوطه. هكذا هم العملاء مع الاعتذار لإغماطهم حقهم في مزيد من الدنس والخور والجبن والخساسة.
وفي غمرة التحقيق لهؤلاء الزرايا دور هام يحتاجه المحققون. وإذا كانت الزنازين قد فتحت للإصرار، فإن سلطات المخابرات تدنسها في كثير من الأحيان بوضع الساقطين وطنيا فيها خدمة لأغراض محددة، وهم بالطبع يعانون من حياة الزنزانة وعسف السجانين كغيرهم من المعتقلين وخاصة إذا شاء المحققون لأسباب تهمهم أن لا يوصوا بهم، أو إذا تغيرت دورية الحراسة بدورية ليس لديها علم بمهمتهم. وهم يظلون في الزنازين إلى أن تنتهي مهماتهم. وبسب الحاجة إلى تغطيتهم فلا بأس أن يتعرضوا للضرب الذي يترك آثاره على الوجه ولا بأس من بعض الخدوش والجروح وذلك حتى يضمن المحققون أن يكوّن المعتقلون الآخرون عنهم صورة طيبة تمكنهم من ممارسة أدوارهم. إنهم يعيشون ذلك بتعمد ويستمرئونه مادام يلبي حاجة المخابرات، وما دام الواحد منهم سيتقاضى أتعابه في النهاية.
وإذا ما كشفهم المعتقلون وعرفوا حقيقتهم، وإذا أوقعوا عليهم ما يستحقونه من العقاب، فإن هذا لا يردعهم وإلا يتحولون في نظر أسيادهم إلى (جبناء) وهذا غير معقول، لأنهم أحقر الجبناء.
إن دور العملاء في عمليات التحقيق يرتكز بالأساس على إمكانية دسهم في صفوف الثورة، أو إظهارهم بمظهر المناضلين وفي هذا تكمن قدرتهم أحيانا على الإيقاع بالمناضلين، أما عملهم من خارج صفوف الوطنيين والمناضلين فيتمثل في المراقبة والتتبع وتقديم الوشايات وجمع المعلومات التي يدرسها رجال المخابرات ويحللونها.
ودورهم في التحقيق، والإيقاع بالمناضلين له شقّان:
- الانخراط في التجمعات الوطنية والتعرف عليها من الداخل وعلى نشطائها ونشاطاتها ومخططاتها بوصفهم من هذه التجمعات. فالعميل، ووفقا لوضعه ووجوده الاجتماعي، يكلف بالالتحاق بالمؤسسات الوطنية والتجمعات النقابية والانخراط في أعمالها ونشاطاتها مستغلا المظاهر شبه العلنية للعمل المؤسساتي. وحيث أن المؤسسات الوطنية هي في التحليل النهائي تجمعات وطنية ينشط فيها الوطنيون، فإن بإمكان العملاء أحيانا أن يتعرفوا على بعض الأسرار ويسعون دائما لمعرفة من هم وراء النشاطات، وما خلفيتهم السياسية وما إذا كانوا متعاطفين مع هذا الحزب أو ذاك، ودرجة صلتهم بالمنظمات السياسية وتقديم ما لديهم من معلومات تستغل في التحقيق.
- الانخراط في صفوف المقاومة المنظمة. وإذا كان هذا الدور صعب المنال في غالب الأحيان فإن تمكن أحدهم من دخول مجال كهذا سيوفر له المعلومات الأكيدة عن الأشخاص الذين يتعامل معهم وانتمائهم وجزء من نشاطهم. وتتوقف درجة خطورة هذا النوع من العملاء ضمن هذا الدور على المواقع التي يحتلونها من جهة، والسياسة التنظيمية المتبعة داخل الإطار التنظيمي من جهة أخرى، ودرجة المتابعة الأمنية للأعضاء المنتسبين من جهة ثالثة.
إن دور هؤلاء لا يتوقف عند التعرف على المعلومات والأوضاع بل يستمر على أقبية التحقيق في حالة الاعتقال حيث يتواجدون مع المناضلين الآخرين بوصفهم منهم. وهناك يتساقطون بتقديم كل ما لديهم من معلومات ويمثلون الأدوار المطلوبة منهم بالشهادة على المناضلين أمام المحققين، ومحاولة إقناعهم بضرورة الاعتراف وتمثيل كل الأدوار الرخيصة بهدف تثبيط صمود المناضلين ومحاصرتهم.
عملاء يعتقلون ويدسّون في زنازين التحقيق مع الوطنيين على أنهم مناضلون وشى بهم فلان أو علان، أو قبض عليهم لدى عودتهم عن الجسر، أو أي مظهر مناسب ليساعدهم على نذالاتهم وحقاراتهم التي يمارسونها ضد المناضلين.
وهم في الزنازين يبدؤون عادة بتمثيل دور الأبطال إذا كان هذا هو الأسلوب اللازم، أو دور المتساقطين المعترفين بما لديهم، أو دور الأبرياء الذين ليس لديهم ما يقولونه للمحققين باعتبارهم اعتقلوا نتيجة وشاية كاذبة وأن التحقيق سينتهي ببراءتهم وخروجهم من السجن.
فهم إما يستدرجون المناضل ليقول شيئا عن نفسه ونشاطاته السياسية ومن ثم لينقلوها إلى أسيادهم، أو يقومون بأدوار تثبيطية وتحطيمية تنصح بالاعتراف والخلاص من التعذيب، أو التنصت على الأحاديث الجارية في الزنزانة، أو بين الزنازين، أو استدراج المعتقل ليقول شيئا أو يبلغ رسالة لزملائه في الخارج أو أي دور شبيه يساعد في عملية التحقيق التي تكون قد وصلت إلى طريق مسدود بفعل الصمود المتواصل للمناضل قيد التحقيق.
إن موقف المناضل في الزنزانة من أي مشارك له فيها هو التحفظ التام على نفسه ومعلوماته وأسراره لا يفرط بها لأي إنسان أيّاً يكن ومهما كانت الظروف. ويضع المناضل في الحسبان أي احتمالات ممكنة من قبيل أن يكون شريكه مدسوساً عليه، ولا مجال هنا لمسألة الثقة، فقد أثق بشريكي في الزنزانة وبدوره الوطني وقد لا أثق، ولكن إذا وثقت لا يعني هذا أن أبوح له بالأسرار التي تهمني. ففي العمل السياسي السري يعتبر مبدأ السرية من أهم المبادئ التي يجب أن تصان وتُتَّبع في كل مكان وليس فقط في الزنزانة، إذ أن كشف الأسرار خطير في حد ذاته أيّاً كان الشخص الذي تكشف أمامه أسرارك.
إن (حفظ اللسان) في الزنزانة هو خير ضمان لإفشال خطط المندسّين وحيلهم، وحفظ اللسان يشمل كل ما يجب قوله من أحاديث ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة، وأي أحاديث ذات دلالة ولو من بعيد. والامتناع عن الحديث عن مجريات التحقيق ذاته هو ضرورة تقتضيها ظروف الوجود في جو التحقيق وفي المعتقلات.
وإذا ما فشل العملاء في الحصول على شيء في زنازين التعذيب والمخابرات، ولم تتوصل أجهزة التحقيق للقناعة (بالـبراءة)، فإنهم يدفعون بالمعتقل إلى السجن لمراقبته ومحاولة ابتزاز أي معلومات منه تحت ستار ضرورات السجن أحيانا، أو تبادل الأحاديث بينه وبين الآخرين حول التحقيق والصمود أحيانا أخرى، أو الثقة بالزملاء الجدد ونشر الغسيل السري أمامهم ليقوموا هم بتناقله على مسامع المعتقلين الآخرين على سبيل الفخر والاعتزاز أو أي شيء من هذا القبيل إلى مسامع العملاء وثم إلى المخابرات.
إن خطورة البوح بالأسرار، ودرجتها، هي واحدة سواء قبل الاعتقال أو في الزنازين أو في السجن (وبعده). فالعمل السري يشترط الكتمان والسرية في كل مكان، إذ حيث يوجد الاحتلال توجد لديه عيون فالثورة ضد الاحتلال مشروطة بوجود الاحتلال، ووجود الثورة يشترط وجود قمع مضاد، والقمع لا يرتكز فقط على الآلة العسكرية وإنما يمارس كل أساليب القمع ومن بينها شبكات العملاء والجواسيس ومنظماتهم التي يبنيها الاحتلال من المتساقطين والخونة وينشرها حيثما أمكن، وكذلك في السجون. لا يعتمد الاحتلال على العملاء الذين جنّدهم خارج السجن ودسّهم بين المعتقلين تحت هذا الشكل أو ذاك، بل يلجأ كذلك إلى تجنيد العملاء داخل السجن فيختار المنهارين في التحقيق كلما أمكن له ذلك. كما تقوم شرطة السجون بتجنيد العملاء مقابل وعود بحسن المعاملة وأحيانا مقابل سيجارة أو شيء تافه، هذا بالإضافة إلى محاولات التجنيد مقابل وعود بتخفيف الحكم إذا ما خدم السجين المتساقط بما يثبت (حسن نيته) أي غرقه في العمالة والخيانة حتى أذنيه. هؤلاء المتعاونون مع الاحتلال داخل السجون هم عيونه وآذانه ينقلون أية معلومات يحصلون عليها مهما كانت بأساليب معينة لإدارة السجن التي تقوم بدورها بنقلها لأجهزة الأمن لتدرسها وتستفيد منها. وليست قليلة الحالات التي تمكنت فيها المخابرات من الحصول على معلومات من داخل السجن عجزت تماما عن الحصول عليها في أقبية التعذيب وقسوتها، بسبب انفراط مبدأ السرية وعدم الالتزام به التزاما تاما داخل السجن.
ليس لأحد، مهما كان، الحق في الحصول على تقارير أو معرفة معلومات عن المعتقل بعد انتهاء التحقيق تحت أي شعار، ما لم تراعَ كل النظم والقوانين والطرائق الحزبية الرسمية بالاستناد إلى كلمات السر وشروط الاتصال شريطة ألا يكون قد كشفت في التحقيق.
إن الأساليب التي تتبعها أجهزة الأمن المعادية للحصول على المعلومات متعددة، وهي تشكل غذاءها الرئيسي لضرب المنظمات السرية ونضالات الجماهير. فالعمل السري يقابله أدوات مكافحة العمل السري ومن بينها رجال المخابرات وخدمهم من العملاء المحليين، وأجهزة إلكترونية للتصنت، وجمع المعلومات وتبويبها وتحليلها، ودس العملاء في التجمعات والحركات الوطنية، والتعاون مع أجهزة مخابرات دول أخرى، ولكن أخصب هذه المصادر على الإطلاق هو التحقيق ومعلومات التحقيق مادام الموقف في التحقيق لم يتصلب بالدرجة الكافية.
إن كل وسائل جمع المعلومات تقدم خدماتها للمحققين، حيث تستند أجهزة الأمن على المعلومات التي تجمعها لاعتقال النشطاء والمناضلين، حيث يبدأ التحقيق معهم لابتزاز ما لديهم من معلومات واعترافات بشتى الأساليب. وهنا تلقى كامل المسؤولية في هذه المرحلة على المعتقلين أنفسهم الذين هم بصدورهم يشكلون الحماية التي يجب ألا تخترق أبدا.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.