ما جاع فقيرٌ إلاّ بتُخْمَةِ غنِيٍّ، الطاهر المعز

نشرت مختلف الحكومات والمؤسسات الدّولية بيانات عن الإحصاءات الاقتصادية العالمية السيئة، حيث سجل الاقتصاد العالمي انخفاضًا تاريخيًا في الناتج المحلي الإجمالي. لكن هذه البيانات والأرقام تركز فقط على الاقتصاد الشمولي (الكُلِّي)، وتَتّخذ من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي معيارًا مَرْجَعِيًّا لهذه الإحصاءات، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بنسبة 32,9% في الربع الثاني من عام 2020. وانخفض الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة اليورو بنسبة 12,1%، وتُهمل البياناتُ الحياة اليومية للعمال والفقراء، والمُهَمّشين، في البلدان الرأسمالية المتطورة، وحياة وظُرُوف حياة المليارات من الناس الذين يعيشون في البلدان الفقيرة.

نَشَرَ خبراء الإقتصاد الرأسمالي أخبارًا سيئة عن الإقتصاد، قبل انتشار وباء “كورونا”، الذي زاد الطّينَ بَلّةً، وبعد فترة من الإنخفاض، تتضاعف الحالات الجديدة للإصابة ب”كوفيد 19″، مرة أخرى في عدة مناطق من العالمن ما اضطر الحكومات لاتخاذ تدابير جديدة من القيود والحجر الصحي وما إلى ذلك، وما سوف يجعل العديد من القطاعات تواجه صعوبات كبيرة، من بينها النقل والسياحة والمطاعم وما إلى ذلك، وكانت شركات النفط وصناعة الطائرات وشركات صناعة السيارات، قد أعلنت عن خسائر في الربع الثاني من العام 2020، لكن العمال هم من أكبر ضحايا هذه الأزمة، وعلى سبيل المثال، أعلنت الشركة السويدية “سكانيا”، لصناعة الشاحنات والحافلات والمركبات الثقيلة، خطة لتسريح خمسة آلاف عامل.

في المقابل، استفادت أكبر المختبرات وشركات الأدوية (Sanofi ، GSK Pfizer ، إلخ) من انتشار الفيروس التّاجي “كورونا”، وأصبحت هي الرابح الأكبر من الوباء، إذ سَعَتْ حكومات الدول الغنية إلى توقيع عقود لضمان الحصول على لقاح محتمل ضد الفيروس، وتم الإعلان عن اتفاق يوم الجمعة 31 تموز/يوليو 2020 بين الولايات المتحدة وتحالف سانوفي/ جي إس كي لعقد قيمته 2,1 مليار دولار مقابل مائة مليون جرعة من اللقاح الذي قد يكون جاهزًا في بداية سنة 2021. كما وَقّعَ الاتحاد الأوروبي، يوم الجمعة 31 تموز/يوليو 2020، مع نفس الشركات “سانوفي” الفرنسية و “غلاكسو سميث كلاين” البريطانية (Sanofi و GSK) عقدًا للحصول على 300 مليون جرعة من اللقاحات، دون إعلان أي مبلغ، وتوصلت اليابان إلى اتفاق مع تحالف شركة “فيزر” الأمريكية، و “بيونتيك” الالمانية ( Biontech/Pfizer ) لشراء 120 مليون جرعة من اللقاح ضد “كوفيد 19″، ما يضمن لهذه الشركات سيولة وأرباحًا ضخمة، قبل انتهاء الإختبارات والتجارب “السّرِيرِيّة” للّقاح.  

أما البلدان “النامية”، أي الواقعة تحت الهيمنة الإمبريالية، فليس لديها القُدْرَة المالية لتمويل مثل هذه العقود الهامة، ولضمان توفير اللقاح، ولذلك لن تتمكن من الوصول إلى اللقاح إلا بعد الآخرين…

استفادت أيضًا شركات التكنولوجيا المتطورة، واستفاد مالكوها من فَرْض العمل عن بُعْد، في قطاعات عديدة، والتّسَوُّق عبر الشبكة الإلكترونية، فزادت ثروة رئيس ومؤسس شركة “أمازون” للبيع عبر الأنترنت، “جيف بيزوس” بمقدار 13 مليار دولار في يوم واحد، يوم الاثنين 20 تموز/يوليو 2020، بفضل أزمة فيروس كورونا، وما نتج عنه من استخدام مُكَثّف للتسوق عبر الإنترنت، لمّا وقع إغلاق المطاعم والمتاجر، وأدى ذلك إلى رفع قيمة أسهم شركات “أمازون” و”أبل”، وشركات التكنولوجيا الدقيقة، بشكل عام، وارتفعت قيمة ثروة “جيف بيزوس”، لتَبْلُغَ 189,3 مليار دولارا، وثروة “بيل غيتس”، مؤسس “مايكروسوفت”، والذي يُتاجر حاليا بهموم وأمراض فُقراء العالم، لِتَبْلغ 118 مليار دولار …

بالتوازي مع استفادة الأثرياء وزيادة ثرواتهم، “بفضل” الفيروس التاجي، سَرّحت الشركات ملايين العُمال في العالم، وسجلت البطالة ارتفاعًا قياسيا في الولايات المتحدة، وكانت الحكومة الإتحادية قد أقرّت تدابير اقتصادية عاجلة، من بينها تقديم مُساعدات لما لا يقل عن ثلاثين مليون من العاطلين الجُدُدعن العمل، وأشرفت الفترة التي حدَدتْها الحكومة على نهايتها، ورَفَضَ النُّوّاب الجمهوريون (شق الرئيس دونالد ترامب) تمديد فترة هذه المساعدة، رغم ارتفاع البطالة.

من جهة أخرى، تتعرض نحو 17 مليون أُسْرة أمريكية، تضم أكثر من أربعين مليون شخص، بحسب شبكة “سي إن بي سي” الإعلامية، للتهديد بالطرد من منازلها، بعد انتهاء فترة التجميد (الإختياري أو الطّوعي، وغير الإجباري، منذ آذار/مارس 2020، لتجَنُّب أزمة اجتماعية) لعمليات الإخلاء (الطرد الفَوْرِي)، وبعد زيادة مقدار إيجار المنازل، إثر إعلان انتهاء فترة التجْمِيد المُتعلّقة بشكل رئيسي بالمستأجرين الذين يعيشون في منازل تم دفع ثمنها عن طريق قرض تضمنه الدولة، وسوف يتضرر السكان الفقراء، والنساء والمُصنّفون في خانة “الأقليات”، من هذه المأساة الإجتماعية، بحسب “اتحاد الحريات المدنية”، أما الشركات العقارية فتتخوّف من كساد سوق العقارات، ومن صعوبة العثور على مستأجر جديد، بسبب الأزمة الحالية، ما قد يُفْقِدُ الأصول قيمتها، مما قد يؤدي إلى أزمة مالية محتملة جديدة، شبيهة بأزمة 2008/2009.

تُحاول حكومة الولايات المتحدة، ورئيسها الذي تنتظره انتخابات صَعْبَة في تشرين الثاني 2020، تحويل الانظار عن المشاكل الدّاخلية، من بطالة وفَقْر وانتشار المليشيات اليمينية المُسَلّحة، واختلاق خلافات جديدة مع “الحلفاء”، في حلف شمال الأطلسي (الإتحاد الأوروبي، ومع ألمانيا بالخصوص) ومع “الخُصُوم” كالصين، وتتعلق آخر حلقة من هذا المُسَلْسَل بالفرع الأمريكي للشبكة الإجتماعية “تيك توك”، وهي شبكة صينية في الأصل، لكن فرعها الأمريكي مُستقل، ويحترم الإجراءات الإمريكية، ويُطبّق القانون الأمريكي، وتأتي هذه الحملة الجديدة الأمريكية المُعادية للصين، المنافس الأول للولايات المتحدة، بعد توقيع اتفاقية تاريخية بين الولايات المتحدة والصين، في كانون الثاني/يناير 2020، كان من المفترض أن تخفف التوترات، وانتهز “دونالد ترامب” الأزمة الصحية المرتبطة بالفيروس التاجي لإعادة  إحياء الخلافات بين البلدين، وادّعى دونالد ترامب إنه فيروس صيني…

لا أحد يمكنه الإهتمام بمشاغل العاملين والفُقراء والمُهَمّشين، غَيْرَهُم، لكن ذلك يتطلب وعْيًا جماعيا وتنظيمًا واحتجاجات جماعية مُنظّمة، بالشّكل المُلائم للوضع لا تُطالب، بل تَنْتَزِعُ الحقوق، وتُحافظ على أي حق مُكتسب، بل وتُطَوِّره شكلا ومضمونا.  

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.