يعتمد الناس، مثلي، على البيانات الرّسمية، وبرقيات وكالات الأنباء ووسائل الإعلام التي يمتلك الأثرياء أكثر من تسعة أعشارِها، للإطلاع على ما يَحْدُثُ في العالم، وهي بيانات “مَلْغُومة”، ووجَبَ بذل جُهْدٍ إضافي لتحليلها، ولقراءة ما بَيْن السّطُور…
اطّلَعْتُ، يوم العشرين من شهر آب/تموز 2020، على خَبَرَيْن، مُنْفَصِلَيْن (ظاهرِيًّا)، يُظْهران طريقة “صناعة الفَقْر”، وإدامَتَهُ، وزيادة عدد الفُقراء، ويُظْهِران أيضًا، أساليب تحويل الثروات العُمُومية، أي التي يخلقها العاملون، والتي تقتطعها أجهزة الدّول من رواتب العاملين ومن الرُّسُوم على الإستهلاك، والضّرائب غير المباشرة، وغير ذلك، ونَقْلها (الثروات) من الفُقراء إلى الاغنياء، أي أن جهاز الدّولة يُشَرْعِنُ تعميق الفجوة الطبقية، بل يُشرف على عملية تنفيذ وإدارة تحويل الثروات من الفقراء نحو الأغنياء، سواء عبر خصخصة الممتلكات العامة، أو عبر منح المال العام مُباشرة إلى الشركات والمصارف، وعبر إعفاء نفس هذه الشركات من الضرائب ومن تسديد حصتها في صناديق التقاعد والتأمين الإجتماعي والصّحّي، وغير ذلك.
الخبر الأول:
ارتفاع عدد الفقراء في العالم
نشر البنك العالمي “تحذيرًا” من رئيسه ( يوم 20 آب/أغسطس 2020) من تداعيات فيروس كورونا، التي تُهَدّدُ بإضافة مائة مليون شخص إلى من يعانون من الفَقْر المدْقَع في العالم، وقد يرتفع العدد بنسبة 40%…
من المعلوم أن البنك العالمي وصندوق النقد الدولي يفرضان على حُكومات الدّول المُقترضة خصخصة الخَدمات والقطاع العام وإلغاء دعم أسعار المواد الأساسية التي يستهلكها الفُقراء وخفض قيمة العُمْلَة وتسريح العاملين بالقطاع العام، وغير ذلك من الإجراءات التي تزيد من فَقْر الدّول ومن فقْر المواطنين أيضًا، ومع ذلك فإن رئيس البنك العالمي يُصَرِّحُ بكل وقاحة، بأن “على الدائنين تخفيض ديون الدول الفقيرة التي سوف تضطر إلى إعادة هيكلة ديونها” !!!
ألَيْسَ البنك العالمي في صدارة الدّائِنِين؟ أَلَمْ تُؤَدِّ شروطه إلى زيادة عدد الفُقراء وإلى استفادة قِلّة من الأثرياء من تصفية مؤسسات القطاع العام وخدمات المياه والكهرباء وغيرها؟
لم يستجب البنك العالمي (ولا صندوق النقد الدّولي ولا الدول الإمبريالية) لنداء العديد من الأصوات (منظمات غير حكومية أو أحزاب أو نقابات…) من أجل إلغاء الدّيون أو على الأقل إلغاء الفوائض المجحفة، التي ضاعفت قيمة أصْل الدّيْن.
أما ما وراء حديث رئيس البنك العالمي بشأن الدّيون، فيتمثل في التّخَوُّف من نتائج عجز الدول عن تسديد الدّيون، وإحجام الرأسماليين (المُسْتَثْمِرِين، كما يُسمِّيهم) عن الإستثمار في هذه البُلْدان، بسبب الخوف من انتفاضات الفُقراء، واحتجاجات العاملين، لأن رأس المال يحتاج إلى “الإستقرار”، وإلى “السّلم الإجتماعية”…
سبق أن نشرت منظّمتا “يونيسف” (منظمة الأمم المتحدة للطفولة) و”سايف ذي تشيلدرن” (منظمة خاصة، “غير حكومية”)، يوم الخميس 28 أيار/مايو 2020، دراسة (مُسْتنِدَة إلى بيانات البنك العالمي، وبيانات صندوق النقد الدّولي) استَنْتَجَتْ أنّ التداعيات الاقتصادية لجائحة كوفيد-19 قد تدفع ما يصل إلى 86 مليون طفل إضافي إلى مصاف الفقر بحلول نهاية العام 2020، ليرتفع إجمالي عدد الأطفال الذين يعانون من الفقر إلى 672 مليون طفل، بنهاية سنة 2020، بزيادة بنسبة 15% عن العام 2019، ويعيش ثُلُثَا هؤلاء الأطفال في قارة إفريقيا (منطقة جنوب الصحراء الكُبْرَى) وفي جنوب آسيا، مع ارتفاع أقل حِدّة لعدد الأطفال الفُقراء، مع حرمانهم من الخدمات الأساسية والضرورية، كالغذاء والمسكن والرعاية الصحية والملبس والتعليم، في بلدان أخرى، في آسيا الوُسْطى وأوروبا…
في الوطن العربي، الغني بالمحرُوقات والمعادن، يتوقّع تقرير للأمم المتحدة، نشر الخميس 23 تموز/يوليو 2020، انكماش الاقتصاد العربي كَكُل، بنسبة تصل إلى 13% لتصل الخسارة الإجمالية في المنطقة إلى حوالي 152 مليار دولار، وأفاد التقرير أن جائحة كوفيد-19 ستؤَدِّي إلى إدراج قرابة 25% من السّكّان ضمن حالات الفَقْر المدقع، بحسب “أليسكو” ( اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا – الأمم المتحدة) التي يتوقّع تقريرها أن تدفع تداعيات الجائحة 14,3 مليون شخص إضافي تحت خط الفقر، مما يرفَعُ العدد الإجمالي، لمن هم تحت خط الفقر إلى 115 مليون نسمة، أو حوالي ربع مجموع السكان في الوطن العربي، الذي يعاني من الإحتلال الصهيوني والأمريكي المباشر، ومن العدوان في عدد من البلدان، ما جعل أكثر من 55 مليون شخص، يعتمدون على المساعدات الإنسانية قبل الجائحة بما في ذلك 26 مليون شخص نزحوا قسراً، عن ديارهم ومناطقهم، في اليمن وسوريا، وغيرها (إضافةً إلى اللاجئين الفلسطينيين)، وأعلن الأمين العام للأمم المتحدة ( أنطونيو غوتيريش): “يعاني اقتصاد المنطقة من صدمات متعددة من الفيروس، وكذلك من الانخفاض الحاد والقياسي في أسعار النفط والتحويلات المالية والسياحة”.، فيما شهدت الدول الأخرى، مثل المغرب وتونس ومصر والأردن انخفاضا ملحوظا في التحويلات المالية لمواطنيها المُغْتَرِبِين، ومن انخفاض قياسي في عائدات السّياحة، بسبب إغلاق الحُدُود، وتوقف حركة السفر، وعمومًا يتلخص الوضع العربي في معاناتنا من العدوان الخارجي، ومن الإضطهاد الدّاخلي، على أيدي وُكلاء الإمبريالية (التي تمارس العدوان الخارجي)، ومن تصفية القطاع العام، ومن افتقار الاقتصاد إلى التنوع، وحرمان نسبة هامة من المواطنين من أنظمة الحماية الاجتماعية، وارتفاع مستويات البطالة والفَقْر وتعميق الفَجْوة الطّبَقية…
الخبر الثاني، وهو “مرتبط عضْوِيًّا” بالخبر الأول
حرمان الفُقراء وتحويل المال العام إلى الأثرياء
منحت حكومات الدّول الرأسمالية المتقدّمة، ومصارفها المركزية، مبالغ طائلة من المال العام (بدون فائض، أو بفائدة ضعيفة جِدًّا، ورَمْزِيّة) للمصارف و للشركات الكُبْرى، التي تَسَبَّبَت بأزمة 2008/2009، وتعلّلت بالأزمة للضّغط على العاملين وعلى الفُقراء، وزيادة الضرائب على الرواتب وعلى استهلاك السّلع والخَدَمات، ثم أعادت المصارف المركزية والحُكُومات الكَرَّةَ، وأقَرّت ما تُسَمِّيه “خطَط تحفيز”، وسمحت بمضاربة الشركات بأسهُمها، عبر شرائها (لرَفْع الطلب عليها، بشكل مُصْطَنَع، وزيادة أسعارها وأرباح مالكيها، بشكل فِعْلِي)، إثر انتشار وباء الفيروس التاجي (كوفيد 19)، مع ضَخّ مبالغ ضخمة للشركات، بذريعة “إنقاذها من الإفلاس”، ومن هذه الشركات الضخمة، نورد مثال “آبل” الأمريكية المُعَوْلمة، وهي لا تُعاني صُعُوبات مَالِيّة، بل مُصَنَّفَة كأكبر شركة عالمية، نسبةً إلى قيمتها في أسواق المُضارَبَة بالأسهم، واستفادت هذه الشركة من آليات إعادة شراء الأسهم، لزيادة أرباح مالكيها، ما يُشكّل سرقة المال من الزبائن، ومن المال العام (عبر خطط التحفيز)، وتوزيعه على فئة من المُضاربين، والرأسمالِيِّين الطُّفَيْلِيِّين، مع الإشارة إلى وصول إيرادات “آبل” (بنهاية الربع الثاني، أي 30 حزيران/يونيو 2020) إلى قرابة ستين مليار دولارا، لتصل أرباحها إلى 11,25 مليار دولارا، ومع ذلك كانت من أوائل الشركات الكبرى التي استفادت من المال العام، عبر آليات الإحتيال والإستيلاء على المال العام، التي أنشأها الإحتياطي الإتحادي الأمريكي، أي المصرف المركزي، وجمعت ما يقارب ستة مليارات شهريا، منذ أيار/مايو 2020، من خلال إصدار سندات جديدة …
لما توقّفت حركة التّجارة والنّشاط الإقتصادي، منتصف آذار/مارس 2020، بعد انتشار الوباء، تجمدت الأسواق المالية أيضًا، فأَقَرَّ الاحتياطي الإتحادي الأمريكي برنامجًا ضَخْمًا لخفض نسبة الفائدة على قُروض الشركات الكبيرة، إلى الصّفر، ولشراء الأصول وسَنَدات الشركات، بقيمة حوالي ثلاثة تريليونات دولار، وهي مُساعدة مُباشرة للشركات الكُبْرى المُدْرَجَة في أسواق المال، فارتفعت قيمة السوق المالية “وول ستريت” (أي الشركات المُدْرَجَة بها) إلى مستويات قِيَاسية، على حساب القوى المُنْتِجَة، والشركات الصغيرة، وأدّى تخفيض الإحتياطي الإتحادي نسبة الفائدة وشراء سندات الخزانة والشركات، إلى حُصُول هذه الشركات الكُبْرَى (من بينها “آبل” و “آمازون” وشركات المختبرات والأدوية) على أموال من الأسواق المالية بأدنى معدلات في التاريخ، بحسب وكالة “بلومبرغ” المتخصصة في الأخبار والتحليلات المالية (لصاحبها الملياردير “مايكل بلومبرغ”، رئيس بلدية نيويورك الأسبق)، ولم تستخدم هذه الشركاتُ المالَ العام لخَلْق الوظائف، أو لتطوير البحث العلمي، ولا لتحسين الإنتاج، بل لتمويل المُضاربة، وإعادة شراء الأسهم (لخلق شُحّ مُصْطَنَع ولرفْع سعر السّهم)، وتوزيع الأرباح على المُساهِمِين، وابتكار طرق جديدة لإيداع الأموال بالملاذات الضريبية، وللتهرب الضريبي، وحصلت بذلك عملية نقل الثروة من المال العام إلى المساهمين ومُسَيِّرِي ومُدِيرِي الشركة،
أصبحت شركة “أبل” الأولى في العالم التي تصل قيمتها السوقية إلى 1 تريليون دولار في آب/ أغسطس 2018 ، بزيادة قدرها 300 مليار دولار عن السنوات الثلاث السابقة، وذلك بفضل تدخل مجلس الاحتياطي الإتحادي بعد أزمة العام 2008، وبعد استفادة الشركة من عملية تدخّل الإحتياطي الإتحادي، خلال خمسة أشهر، من آذار/مارس إلى تموز/يوليو 2020، بلغت القيمة السوقية لشركة “أبل”، 1,9 تريليون دولارا، ومن المتوقع أن تصل إلى تريليونَيْ دولار قريبًا ، وأن تتضاعف في غضون سَنَتَيْن، وهي شركة لا توظف قوة عاملة صناعية كبيرة.، وتعاقدت مع شركة “فوكسكوم” بالصين، لتصنيع المكونات وتجميعها، لتبلغ تكاليف مكونات أغلى جهاز “آيفون” (أبل) خمسمائة دولار، على أقصى تقدير، وتبعيه “أبل” بنحو 1450 دولارا، ما يُعتَبَرُ تحويلا لجُهد العُمال الصينيين، الذين يتقاضَوْنَ حوالي 300 دولارا شهريا، في المتوسّط، إلى مالكي أَسْهُم شركة “أبل”، وهي عملية تبادل غير متكافئ، على الصعيد العالمي، مُكَمِّلَة لعملية تعميق الفَجْوَة الطّبَقِية داخل كل دولة، سواء في الدول الرأسمالية المتقدّمة، أو في الدول “النامية” أو الفقيرة…
أنفقت الشركات المدرجة في المؤشر الأمريكي ” إس أند بي 500 “، والتي تمثل 80% من قيمة الأسواق الأمريكية ، خمسة تريليونات دولارا (خلال عقد واحد)، أو ما يُعادل نسبة 54% من أرباحها، لإعادة شراء أسهمها، وكانت النتيجة توزيع 3,8 تريليونات دولارا إضافية، أو ما يُقابل 30% من أرباحها، على مالكي الأسهم، واستثمار حوالي 7% فقط من أرباحها في الإقتصاد الحقيقي، أي في الإنتاج، أو في غير المُضاربة،، خلال الفترة من 2010 إلى 2019، بحسب مجلّة “هارفارد بزنس ريفيو”، ما يُمثل نهبًا للموارد العمومية، سواء على صعيد محلي داخلي، أو على صعيد عالمي.
ليس من مَهامّ البنك العالمي أو صندوق النقد الدّولي، ولا الأمم المتحدة، ومنظماتها العديدة، ولا من دَوْر المُنظمات “غير الحكومية”، البحث عن حُلُول للأزمات التي يخلقُها رأس المال، ويتضرّرُ العُمّال والمُنتجون والأُجَراء والفُقراء من نتائجها، ولكن هذا الدّور موكول للأحزاب والمنظمات التقدّمية والإشتراكية، للبحث عن حُلُول، لن تتضمّن قَطْعًا مَنْح المال العام (أي عَرَق الكادحين) للشركات والمصارف، أو إعفاءها من الضرائب، أو من المُساهمة في مؤسسات التأمين الإجتماعي، وإنما تكون حلولا لصالح الكادحين والفُقراء، الذين تتعارض مصالحُهُم حَتْمًا مع مُستَغِلِّيهم ومُضْطَهِدِيهِم، ويعني ذلك أن لا تكتفِي الأحزاب والمُنظّمات التي تَتَبَنّى الإشتراكية، بالشعارات العامة، وإنما دراسة الوضع بدقة، واستنباط الحُلُول التي تتماشى مع واقع كل بلاد، ومع درجة تَطَوّر القوى المُنْتِجَة، ودراسة نقاط القوة ونقاط الضُّعْف، ودراسة تكلفة أي مشروع جديد، وطريقة تمويل المشاريع والبرامج والخطط، وغير ذلك.
في انتظار ذلك، يمكن النضال اليَوْمِي والعَمَلِي من أجل تمويل وإنجاز برامج أو مشاريع اقتصادية، تُنْتِج سلعًا أو خدمات ضرورية وأساسية، في مناطق حَضَرِيّة أو رِيفية، يُؤسّسُها ويُشرف عليها ويُديرها العاملون بها، بدعمٍ من مُتطَوّعِين من ذوي الإختصاص في مجالات عديدة، كتأهيل العاملين، وتدريبهم على أساليب التسيير الذاتي للمؤسسات، والتخطيط والتّصرّف في الموارد، وتسويق الإنتاج، وإعداد الموازنات، وغير ذلك.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.