بتاريخ 17- 7- 2020 ذكرت وسائل الإعلام أن مصر والسعودية تشدِّدان على رفض المساس بالأمن القومي العربي. وعلى الأرجح أن ذلك الإعلان صدر بدفع من السعودية؛ إذ إنَّ مصدر الخبر كان وكالة الأنباء السعودية التي ذكرت أنّ نائب وزير الدفاع السعودي أجرى اتصالاً هاتفيًا بوزير الدفاع المصري وأنَّ البلدين أكدا رفض المساس بالأمن القومي العربي.
وقد جاء ذلك الإعلان تعليقًا على تدخُّل تركيا في ليبيا ودعمها للجماعات الإسلامية المسلَّحة هناك.ولكن بالنظر الى حقيقة المواقف السعودية والمصرية من القومية العربية، ومن ثَمَّ الأمن القومي العربي، يمكن الجزم بأن ذلك الإعلان لم يكن أكثر من شعار لأغراض سياسية مؤقتة في مواجهة تركيا.
لقد أخذت السعودية تتحدث عن القومية العربية في إطار دعمها للجماعات التكفيرية المسلَّحة في سورية، وذلك بقصد إثارة النعرة القومية العربية في مواجهة إيران والقومية الفارسية، وزيادة”الأسلحة” التي تستخدمها ضد إيران، عدوَّها الأول. أمّا موقف السعودية الحقيقي من القومية العربية فقد تحدَّد منذ سنوات طويلة؛ موقفًا عدائيًا بحيث صنَّفتها الى جانب الشيوعية عدوًّا للإسلام، واتخذت من ذلك سلاحًا في محاربة عبد الناصر ودعوته الى القومية العربية والوحدة العربية. وجسَّدت ذلك بإنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي (1969)، التي تحوَّلت لاحقًا الى منظمة التعاون الإسلامي.
ومصر لم تستخدم عبارة الامن القومي العربي بعد خروجها من الصراع العربي – الإسرائيلي، ولم تستخدمها في محاربتها الجماعات المسلحة في سيناء، أوفي التصدي للخطر القادم من ليبيا لمساعدة هذه الجماعات وتهديد الأمن المصري. وكذلك لم تستخدم هذا الشعار في الرد على التدخل التركي في ليبيا قبل الإعلان المشار اليه آنفًا؛ وإنما كانت تتحدث عن الأمن القومي المصري، وسلامة الحدود المصرية. وبعد تدخل تركيا المباشر في القتال في ليبيا، وتقدُّم القوات التي تدعمها نحو الشرق، أعلن الرئيس المصري أنَّ منطقة سرت خطٌ أحمر، وكأنه يقول إنه لا يعترض على وجود تركيا غربي سرت. ربَّما كان هذا الموقف صادمًا للمؤمنين بالقومية العربية والأمن القومي العربي؛ ولكنه كان متوقَّعًا لأن مصر تحت حكم السيسي تنظر الى ليبيا وكأنها أرضٌ بلا هوية وقابلة لتقاسم النفوذ الخارجي.
ولهذا قلنا إنَّ الإعلان المصري السعودي كان شعارًا سياسيًا مؤقتًا ليس أكثر. ولو كان الحرص على الأمن القومي العربي هو الدافع لوجَبَ الحديث عن ليبيا بوصفها بلدًا عربيًا شقيقًا تربطه بمصر روابط القومية والأخوَّة العربية التي تفرض عليها الدفاع عن الشقيق في مواجهة العدوان الأجنبي. ولو كانت مصر تلتزم بمبدأ الأمن القومي العربي لكان ذلك ظهر في سورية حيث العدوان التركي المكشوف الذي بدأ بتسهيل تدفق الجماعات التكفيرية والإرهابية من تركيا، ثم بالاعتداء المباشر واحتلال الأراضي السورية.
الأمن القومي في معناه العام يعني أمن البلاد وسلامة شعبها وأرضها، ومن ضمنها حماية الحدود الجغرافية ودرء الخطر الذي يمكن أن يأتي من الخارج. وقياسًا على ذلك يعني الأمن القومي العربي سلامةَ الأمة العربية بشعوبها وأوطانها. وفي هذا الإطار اعتمدت جامعة الدول العربية معاهدة الدفاع العربي المشترك (1950) تأكيدَا للشعور بضرورة التعاون العربي في مواجهة الأخطار التي تتهدد الدول العربية والماثلة بالدرجة الأولى في الكيان الصهيوني.
وإبَّان ثورة تموز/ يوليو (1952) أكَّدت مصر التزامها الفعلي بالأمن القومي العربي ممَّا عزَّز من دورها القيادي على مستوى الأمة العربية. ولا تزال آثار هذا الدور قائمة في وجدان قطاعات واسعة من جماهير الأمة العربية ومناضليها ومثقفيها، مع أنَّ مصر تخلَّت عن الأمن القومي العربي عندما أبرمت معاهدة السلام، المعروفة باتفاقية كامب ديفيد، مع العدوّ الأوَّل والتهديد الأخطر لهذا الأمن.
هناك من يستهين بما فعله أنور السادات في تلك الاتفاقية بحق مصر والأمة العربية. لقد أحدث ذلك الفعل الخطير جروحًا عميقة في الثقافة القومية والهوية العربية لمصر، وقلبَ دورها من القيادة والريادة في الحرية والكرامة والسيادة الى دور التابع والمُنفِّذ للمخططات الأميركية والصهيونية. هو لم يتورع عن القول بأنَّ المصريين فراعنة وليسوا عربًا، وعن أخْذ مصر بعيدًا عن الأمة العربية وقضاياها؛ فانخرط مع السعودية في نادي السفاري لمحاربة الشيوعية في أفريقيا، وفي دعم الجهاديين في أفغانستان تنفيذًا لخطة أميركا ومستشارها للأمن القومي (بريجنسكي).
وفي تلك الاتفاقية وجَّه السادات طعنة مسمومة الى جسد الأمة العربية بتنازله عن جزءٍ غالٍ من الجسد القومي العربي الى كيان غريب، وأخلَّ بأُسس الأمن القومي العربي بخروجه من الصراع العربي – الإسرائيلي. فالأمة العربية كيان مادي ومعنوي ينتمي اليه أبناء الأمة العربية، ويُحرِّكهم هذا الانتماء عند كل أزمة تحلُّ بجزءٍ (وطن) من هذا الكيان الواحد. وفلسطين أرض عربية و”ملك عام” للأمة العربية لا يجوز لأحد، بما في ذلك أهلها الفلسطينيون، أن يَعدُّها مُلكًا خاصًا يجوز التصرف فيه والتنازل عنه للصهيونية.
منذ عهد السادات والسلطة الحاكمة في مصر تعمل على الحطِّ من شأن الرابطة القومية العربية، وإذكاء النزعة المحليَّة (المصرية)، والتضييق على العروبيين ومناهضي التطبيع مع إسرائيل، وبناء علاقاتها العربية على المصالح المادية. ومن المعروف مثلاً عن الرئيس حسني مبارك أنه كان يحث المصريين على إقامة سلام “دافئ” مع إسرائيل؛ وكثيرًا ما كان يستخدم عبارة “مشكلة الشرق الأوسط” عند حديثه عن القضية الفلسطينية أو الصراع العربي – الإسرائيلي.
وفي عهد الرئيس السيسي، انتقلت مصر من حالة السلام الخاص أو المفرد، الى داعية لسلام عربي جماعي مع إسرائيل، ومروِّجٍ له لدى السعودية ودول الخليج على نحو خاص. وها هو السيسي يُسارع الى تأييد اتفاق التطبيع الكامل بين دولة الإمارات وإسرائيل؛ وهو اتفاق أقلُّ ما يُقال فيه إنه ازدراءٌ لقرارات القمم العربية وإهانة لأصحابها الذين ربطوا التطبيع مع إسرائيل بانسحابها من الأراضي التي احتلتها في عام 1967. وفي عهده كثر المحتشدون خلفه في سياساته الإسرائيلية، وعلت أصوات الداعين الى تقوية العلاقات مع إسرائيل. من هؤلاء من صاغ فذلكة سياسية مؤداها أنَّ مصلحة مصر تقتضي وجود علاقات استراتيجية مع إسرائيل؛ ومنهم من تجرأ على القول إنَّ القدس مدينة يهودية ولا قدسية للمسجد الأقصى فيها لأن المسجد المذكور في القرآن موجود في الحجاز.
وبمنطق المصلحة الوطنية؛ قالت دولة الإمارات في تبرير اتفاقها مع إسرائيل إنه قرار سيادي تقتضيه المصلحة الوطنية. وهذه العبارة تتكرر على ألسنة مسؤولين ومؤيدين للتطبيع؛ ومن قبل، ردَّدها عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي في السودان، عند اجتماعه مع نتنياهو رئس وزراء العدو؛ والسودان على قائمة الدول التي تتهيأ لتحذو حذوَ الإمارات.
وطرح المسألة على هذا النحو “صِبيانيَّة سياسية” تتلهَّى باستخدام المفاهيم والمصطلحات بطريقة عشوائية واعتباطية. فما الذي يبقى من جامع للعرب إذا كان كلٌ منهم سيُغنِّي على ليلاه في قضية من عيار القضية الفلسطينية! هل هي الرابطة الشرق أوسطية التي بشَّر بها شمعون بيريز (رئيس وزراء ثم رئيس الكيان الصهيوني) وابتدع لها مصطلحات بديلة لرابطة القومية العربية، مثل الشرق الأوسط الجديد، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا (مينا)؟
وعلى الذين يتحدثون عن المصالح الوطنية والقرارات السيادية أنْ يدركوا الفارق بين ما هو خاص وما هو عام في القضايا الكبرى. إنَّ فلسطين، كما ذُكر آنفًا، أرضٌ عربية ومُلكٌ عام للأمة العربية. ولم يكن من حق منظمة التحرير الفلسطينية أنْ تَعُدّ فلسطين ملكًا خاصًا يجوز التصرُّف فيهَ والتنازل عنه للكيان الصهيوني، وهو ما فعلته في اتفاق أوسلو المشؤوم. وعلى الفلسطينيين أن يتذكروا هذا جيدًا وهم يوجهون الانتقادات الى دولة الإمارات واتفاقها مع الكيان؛ فالمسألة مسألةُ مبدأ وليست قضيةُ مَن هو أولى بارتكاب الخطيئة. وما ينطبق على فلسطين ينطبق على أي أرض عربية تزعم إسرائيل أنها من حقوقها التاريخية أو التوراتية،مثل ما تضمره من ادِّعاءٍ عن أملاك لها في الحجاز.
وعلى هذا الأساس ينبغي النظر الى ردود الفعل الغاضبة على الاتفاق؛ فقد شهد الوطن العربي من المحيط الى الخليج موجةً واسعة من الاستنكار لما أقدمت عليه دولة الإمارات. وكان الشعور بالانتماء القومي هو الدافع الكامن وراءَ ردود الفعل الشعبية الفورية الغاضبة على الاتفاق.
وفي هذا السياق يمكن أيضًا النظر الى الإعلان المصري – السعودي عن الأمن القومي العربي، وإلى عودة الحديث عن العروبة في مصر. لقد شعرت مصر أنها بحاجة الى مساعدة العرب في أزمة سد النهضة مع أثيوبيا، وفي الأزمة مع تركيا في ليبيا. ويُلمسُ ذلك على سبيل المثال، في ما كتبه فاروق جويدة، الشاعر المعروف، بلغة لا تخلو من العاطفة المُعبِّرة، فقال: “أخذتْ العروبة نصف أعمارنا حلمًا ثم عشناها وهمًا، والآن تبحث أمامك فلا تجد شيئًا. فلم أكن أتصور أن تمرَّ أزمة سد النهضة دون أن يكون هناك موقف عربي مع مصر لوقف التهديد الخطير لحياة الملايين في مصر والسودان” (الأهرام، 1/8/2020).
من الضروري أن يُضاف الى كلام جويدة أنَّ أصابع إسرائيل “العزيزة” ليست خفيَّة في سد النهضة؛ بل إنَّ هناك ما يُشير الى مساعيها الخبيثة، باستغلال وجود اليهود الفلاشا، كي تصبح شريكًا في إدارة مجرى النيل في إطار ما يسمى الإدارة المشتركة للموارد.
لهذا، فإنَّ الحديث عن الأمن القومي العربي لا يستقيم مع الحديث عن علاقات إسترتيجية مع إسرائيل؛ فالعروبة والصهيونية لا يلتقيان. العروبة رابطة إيمان وانتماء قبل أن تكون رابطة تجارة ومصالح. والجماهير العربية قد عبَّرت عن تعاطفها مع شعب مصر في أكثر من مناسبة؛ والمثقفون والمناضلون القوميون في الأقطار العربية يتضامنون مع أشِقَّائهم العروبيين في مصر في ما يتعرضون له من ظُلم الحُكَّام وتعديَّات المُطبِّعين، وفي نضالهم من أجل إخراج مصر من حظيرة التبعية وإعادتها الى أصالتها القومية ودورها الريادي في الدفاع عن قضايا الأمة العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
كاتب فلسطيني
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.