“كنعان” تتابع نشر كتاب “فلسفة المواجهة وراء القضبان”، تأليف: محمود فنون، الحلقة 21 والأخيرة

  1. 1.    وجدت كل شيء أمامي: 

    (اعتقلوني! لا أعرف لماذا ولا أعرف أي سبب لاعتقالي. قلت في نفسي مهما يكن فلن أقول لهم شيئا. وعندما جلست أمام المحقق وجدت أنه يعرف كل شيء وفكرت في نفسي وقلت لا فائدة من الإنكار مادام كل شيء مكشوف..). بهذه الجملة القصيرة يشرح أحدهم كيف انهار وأدلى بأسراره للمحققين وسلّم نفسه ومصيره لأيديهم القذرة الفاشية. فالصورة في ذهنه أن لدى المحقق معلومات، وسواء أنكرها أو أدلى بها سيان (فالمحقق) يعرف ولن يضيف له صاحبنا شيئاً! أي أنه هو نفسه غير مسؤول عن كشف الأسرار! هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن موقف المحقق موقف قوي ويستند على حقائق وبالتالي لن يكف عن التحقيق إلا بعد الاعتراف. ولكن صاحبنا، بهذه الجملة القصيرة، كشف عن جبنه وخيبته. إنه بهذه الجملة اعترف أمام الزملاء بأنه تعاون مع المحقق وتساوق مع مخططاته وألاعيبه سواء عن طريق الخدعة، أو الخوف أو سوء التقدير في أحسن الأحوال. 

    أما ما يتعلق بالخدعة والخوف فيجب ألا تمر على مناضل يعرف عدوه عن قرب ويشاهد ويلمس ممارساته يوميا في الشارع والمدرسة والحارة والبيت وفي كل مكان. غير أن مسألة سوء التقدير هذه هي التي تستحق الاهتمام وخاصة أنه في حوادث كتلك المذكورة أعلاه يلعب سوء التقدير دورا كبيرا في الدفع للاعتراف. فالمعتقل يقدر ويناضل بين أن يتحمل التعذيب والضرب لإخفاء مسائل مكشوفة، كلها أو بعضها، وبين أن يدلي بها من البداية ويستريح ظنا منه أن الأمر سيان وأن الإنكار وعدمه يعطيان نفس النتيجة. بالطبع، هذا تقدير خاطئ وسيء ويؤدي إلى العار والخزي في النهاية ولا يصلح لتبرير الاعتراف حيث أن الاعترافات على العموم لا مبرر لها. 

    يمكن أن يكون لدى المحقق معلومات جمعها عن طريق المتابعة أو وقعت وثائق في ايديهم، أو يوجد شخص مدسوس بين المجموعة المناضلة، أو أن أحد الزملاء قد اعتقل قبله ودون علمه وأفشى أسراره أو أن المخابرات قدرت وضع صاحبنا تقديرا واقعيا معقولا وهذا هو الأرجح وتحدثوا أمامه بكلمات إيحائية تنطبق على كل الناس من أمثاله. إن هذه ليست المسألة الجوهرية، فغالبا ما تكون لدى المخابرات أسباب لاعتقال المواطن الفلسطيني مهما كانت مفتعلة، ومادام المرء وصل التحقيق فسيتعرض لأسئلة وسيتظاهر رجال التحقيق بأنهم يعرفون كل شيء وهذا هو دورهم. 

    أما دور المناضل فهو الصمود والصبر والتحدي وليس الوقوع في الفخ بعد الاستماع لبضع جمل أو بضع تهديدات، إذا كان اعتراف المعتقل غير لازم، فلماذا يحققون معه وإذا كان إنكاره لا يؤثر على وضعه فلماذا يصرون عليه بالاعتراف وكتابة إفادة بما يقول؟ إن المعتقل هو قطب آخر مقابل للمحقق، واعترافاته هي نتيجة لخسرانه في الصراع الذي يخوضه ضد جلاديه. إن الاعتراف كنتيجة لحالة المعتقل في الصراع وموقفه فيه يشكل الضربة القاضية التي يسعى المحققون لتوجيهها لصدر وقلب المعتقل. 

    إن دور المناضل الذي يواجه التحقيق لا يختلف في المحصلة النهائية في أي حالة من الحالات عن غيرها إلا بقدر ما يولد زيادة في العزم على الصمود، فموقفه في التحقيق حينما يعترف عليه رفاقه بشيء ما وموقفه عندما يضبط في حوزته مستمسكات، أو عندما تتظاهر طواقم التحقيق بأنها تعرف عنه كل شي. إن موقفه في جميع هذه الحالات هو الصمود والدفاع عن شرف الثورة وحماية الرفاق من الوقوع في براثن العدو وأسرهم. 

    إن حماية الحزب وأعضائه وأنصاره، ونضالاته وأسراره، تظل في جميع الأحوال تشكل حافزا قويا ومتناميا على الصمود والصبر والتحدي، دفاعا عن معاقل الثورة ورجالاتها ودفاعا عن الذات الثورية وتاريخها النضالي وتضحياتها المقدسة. فليس الرضوخ للأمر الواقع هو المطروح في التحقيق، بل تكذيب كل ما يقوله المحقق وتشكيكه في معلوماته وإنكار أية أقاويل أو أدلة تقال مهما كان الثمن وحشر المحقق في الزاوية، في موقعه الطبيعي كخاسر للجولة، وليس كاسبا لها، وتيئيسه من احتمال الاستفادة من استمرار التحقيق وليكن ما يكون. المهم أن يخرج المناضل من أقبية التحقيق مرفوع الرأس مصان الشرف ليكون فخرا لرفاقه وحزبه وشعبه. 

    إن بعض المناضلين يعتقلون ويتركون وراءهم البلبلة والخشية من انهيارهم مما يضطر رفاقهم لاتخاذ احتياطات الأمن رغم الثقة الكبيرة بهم. إلا أن البعض يعتقل ويظل في التحقيق طوال مدة التحقيق دون أن يغير الحزب شيئا أو يتخذ إجراءات إحترازية وذلك بسبب الثقة العميقة وشبه المطلقة بصمود وعزم هذا النوع من المناضلين: إنهم يكونون في الحقيقة سورا وسدا منيعا لا يمكن أن تنفذ المخابرات من خلاله للحزب، وأعضاؤه هؤلاء هم شرف الحزب الذين يصمدون ويسطرون أروع آيات البطولة فلا خوف عليهم ولا منهم، وهؤلاء هم الأبطال الحقيقيون، وكل من يصمد في التحقيق له شرف الانضمام إلى كوكبة الأبطال هذه بكل فخر واعتزاز. 

    نعم، إن الفصائل المقاتلة ومناضليها يتعرضون لتحقيق وحشي وهم مستهدفون في كل الأحوال ومخابرات العدو لا تتورع عن استخدام أبشع وأحط الأساليب لاعتقالهم وانتزاع الاعترافات منهم. ولكن العضوية في فصيل تتطلب صمودا بطوليا ومعدنا صلبا للقيام بالمهمات خارج المعتقل ومواجهة التحقيق بعد الاعتقال. فمن لديه الاستعداد للمؤبد وقضاء سنوات طويلة في المعتقل وهدم بيته عليه أن يكون بمستوى الموقف أثناء الاعتقال والتحقيق. 
  2. لم أعترف سوى على فلان، أما الباقي فلا أدري من اعترف عليهم!؟ 

    إن الاعتراف على الغير وعلى أسرار الحزب التنظيمية والنضالية هو بمثابة الخيانة التي تقترف في موقف ذل وخساسة كتعبير عن حقارة المعتقل وتعاونه مع رجال التحقيق. وسواء كان حجم هذا الاعتراف صغيرا أم كبيرا في نظر المعتقل ووفق تقديراته الذاتية، فإن الحزب سيعاني من هذا الاعتراف أشد المعاناة. أما المخابرات فتكون قد أمسكت بطرف الخيط وستظل تشده كلما أمكنها ذلك، سواء من خلال مجموعة المعتقلين المقبوض عليهم، أو مع معتقلين يأتون في المستقبل، وستظل تشده في مقاومة الحزب والمنظمات المكافحة بناء على معرفتها بمعلومات حصلت عليها من عضو في الحزب نفسه. ولهذا لا فرق إن قتل الجندي برصاصة واحدة أو بِصَلْيَة رصاص مادام قد فارق الحياة. ولا فرق في النتيجة بين أن يتلقى الحزب ضربة على يد عميل أو على يد أحد أعضائه، علماً أن الضربة على يد الأعضاء أكثر إيلاما وإيذاءً ماديا ومعنوياً. 

    قد يرى أحد المعتقلين في التحقيق، وبناء على تقديرات ذاتية خاطئة أن يعترف على أحد الزملاء من بين المجموعة التي ينتمي إليها ظنا منه أنه بهذا العمل لن يوجه ضربة خفيفة للحزب وقد يقنع المخابرات بصدق نواياه فينتهي التحقيق. ولكن المخابرات تكون قد أمسكت بطرف الخيط فتقوم باعتقال الزميل المذكور وتقدّر من هم أصدقاء المعتقل الجديد والقديم وتعتقل عددا آخر من الناس من بينهم أعضاء الخلية، ثم تحقق معهم وبعضهم يعترف عن آخرين وبعض الآخرين يشي بآخرين وهكذا.. لتكون المحصّلة عشرة أو عشرين وربما أكثر. وعندما يسأل صاحبنا الأول يقسم أغلظ الإيمان بأنه لم يعترف سوى على فلان، ولا يدري مطلقا كيف جاء الآخرون. إنه يحاول التملص من مسؤولية الاعتقالات التي حصلت بعده علماً بأنه هو المسؤول الأول عن حملة الاعتقالات هذه. وإذا ما دوّن إفادة باعترافاته المخزية هذه أمام الشرطة وأجهزة التحقيق فإن إفادته هذه ستكون دليلا ماديا ليس فقط ضده هو، بل كذلك ضد المناضل الآخر الذي لم يعترف على غيره. ولأن قانون الاحتلال الحالي يجيز محاكمة معتقل بناء على اعتراف الغير فإنه بفعلته هذه يكون قد قام بدور شاهد ملكي، أو شاهد خسيس على رفاقه أمام محاكم العدو. من جهة ثانية، فإن اعترافه على رفيقه شكل سببا معقولا لاعتقال الآخرين، وهو مسؤول مسؤولية مباشرة عن وجود هؤلاء الآخرين في أقبية التعذيب ويتحمل كافة النتائج المترتبة على التحقيق معهم. 

    إنه من العار أن يشي المعتقل بالغير ويدفع بهم إلى مخالب العدو بنفسه ليكونوا عرضة لعسفه وتعذيبه وليكون الحزب معرّضاً للأخطار. 

    إن الحزب الثوري هو شرف الشعب وضميره الحي الذي يجب أن يصان بالتضحيات والعرق وبالدم والحياة. 

  3. مجريات فنية 

    يفترض أن يجري إلقاء القبض على المناضل بعد إجراءات رسمية شكلية وأوامر رسمية تسمح بدخول البيت وتفتيشه، ولكن هذا قد لا يتوفر في جميع الحالات. المهم أن قوات الاحتلال، ومعها رجال الأمن، يتوجهون للبيت الذي يُظن أن المعتقل موجود فيه. وفي حالة عدم معرفتهم للبيت فإنهم يلجؤون إلى خدمهم المتعاونين معهم، كالمختار أو أحد الوجهاء أو العملاء، ليدلّهم على البيت حيث يطوّقونه ويطرقون الباب ليدخلوا متظاهرين في الغالب أنهم جاءوا لأمر بسيط ومؤقت حيث تندفع قوات الاحتلال داخل البيت وتلقي القبض على المناضل ويقومون بتفتيش البيت وقلب محتوياته عاليها سافلها في جو إرهابي دون أية رحمة لصغير أو كبير ممن في البيت. وبعد إتمام عملية التفتيش يطلبون من المناضل المنوي اعتقاله أن يوقع على أوراق تؤكد أنهم لم ينهبوا شيئا من البيت (ومن أين له أن يعلم ذلك؟). وإذا ما ضبطوا في البيت أي أوراق أو أشياء مشبوهة، فإنهم أيضا يطلبون منه أن يوقع بأنهم ضبطوها في حوزته (عليه ألا يوقع في هذه الحالة) ثم يشدون وثاقه ويعصبون عينيه ويقودونه إلى السيارات التي تكون في انتظاره حيث يُحكمون قيوده ويغطونه بأشياء من السيارة أو يمددونه في أرضية السيارة العسكرية ويناوشونه ببعض (المزحيات) الخفيفة أو الثقيلة حسب المزاج. وبعد أن يصل إلى السجن في الغالب يسلمونه لسلطات السجن مع أمر باعتقاله حيث تقوم سلطات السجن بتفتيشه وتسجيل اسمه في القيود ونقله إلى قسم زنازين التحقيق ويودع في إحدى الزنازين منفردا إن تيسّر لهم ذلك، أو مع آخرين إن كانت الزنازين مكتظة. إنه يصبح في عهدة سلطات السجون من الناحية الرسمية والشكلية، أما في الواقع فإنه في عهدة المخابرات والمحققين حيث يتشكل له طاقم تحقيق يقوم باستدعائه بواسطة أوراق رسمية حيث يستدعى من الزنزانة ويجري رسغه بالقيود ويقاد إلى غرف التحقيق، وهي إما أن تكون في نفس مبنى الزنازين أو في مكان قريب منها أو إلى أي غرفة يمكن أن تستعمل لهذه الغاية حسب الظروف، وحسب ازدحام أماكن التحقيق. وهناك تبدأ الجولة الأولى وتليها بقية الجولات على هذا المنوال. وغالبا كلما انتهت جولة يعاد إلى زنزانته التي خصّصت له يوم قدومه، وقد يستدعى في اليوم مرة واحدة أو عدة مرات، في النهار أو في الليل، وقد يبقى في غرف التحقيق أياما متواصلة دون أن يعاد إلى زنزانته. 

    في الزنزانة تشرف عليه سلطات السجون ومن حقه أن يحصل على وجبات الطعام والماء وأن يستعمل دورات المياه كلما لزم، غير أن هذا في الغالب غير متاح حيث تمارس سلطات السجون من جانبها ما تستطيع من مضايقات.  

    من الصعب جدا على من هو في إحدى الزنازين أن يرى الآخرين أو يعرف عنهم إلا إذا صرح بصوت معلنا عن وجوده بطريقة أو بأخرى، أو بالمصادفة غير المقصودة فقط حينما يهمل الحارس قليلا فيستطيع السجناء أن ينادي بعضُهم بعضاً مراعين ألا يعرف الحارس مصدر الصوت وهم بذلك يطمئنون بعضهم ويحثون أنفسهم على الصمود والتحدي. 

    في غالب الأحيان يتعود السجين الجديد على زنزانته وظلمتها ووحشتها منذ اليوم الأول ويتعامل معها على أنها مقرّه إلى أن ينتهي التحقيق أو ينقل إلى زنزانة أخرى شبيهة بها. والسجين يكون في بر الأمان في الزنزانة حيث لا يجري تحقيق هناك إلا نادراً، ولكنه أيضا يغير جوا حينما يخرج منها إلى جولات التحقيق ليخوض معركة البطولة والشرف. 

    وغرف التحقيق هي غرف عادية غير مزودة بأي شيء خاص سوى موقعها المظلم أو المنزوي، يجري فيها التحقيق مع المعتقل، والأدوات المستخدمة في الغالب هي العصي والحبال والقيود وأوعية الماء والماء البارد أو الساخن وأدوات للصعق بالكهرباء ومستلزمات الشبح وأكياس الرأس.. 

    يمكن أن يجري التحقيق في أي مكان في السجن أو خارجه، ويمكن أن يبدأ منذ اللحظة التي يقبض فيها على المناضل أو بعد وقت قصير أو طويل فلا توجد حالة دارجة للجميع. ويمكن أن يقوم طاقم تحقيق ثابت بالعملية طوال الوقت، ولكن يمكن أن يتغير المحققون جميعهم أو بعضهم، وحال الانتهاء من التحقيق وبعد التأكد من ذلك يجري إما الإفراج عن المعتقل رأسا أو يسلم نهائيا لسلطات السجون حيث يودع السجن في انتظار الإفراج عنه إن كان صامدا في التحقيق أو في انتظار المحاكمة إن أفرغ ما لديه. 

    في السجن يوضع في قسم مخصص للموقوفين من أمثاله والذين لم تتم محاكمتهم بعد وإذا حُكم فإنه ينقل إلى قسم المحكومين أو إلى سجن آخر حسب مدة الحكم.  
     
  4. لحظات حاسمة 

    في الحرب التقليدية يتعرض الجيش في صراعه مع العدو لخسائر بشرية ومادية، وهو كلما تحرك أو قام بأي دور يفقد من مخزونه في الطعام والشراب والعتاد والآليات والأفراد وربما المواقع. وهو يحتاج لاستمرار العمليات في أي مستوى كان للتزود باستمرار بما يلزمه والتعويض الدائم عما يفقده، وفي لحظات اشتداد الصراع يحتاج إلى غطاء وإلى مدد جديد. وهكذا يستطيع الاستمرار في الحرب وإعادة تكوين نفسه مع كل غذاء للحرب يحصل عليه. إنه في الغالب يحتاج للتزود بمستلزماته المادية والمعنوية من خارجه بالإضافة إلى ما يستند إليه من قوة معنوية ومادية ذاتية، وخبرة ودربة وفن عسكري. 

    والمناضل في أقبية التحقيق يتعرض باستمرار لضغوطات جسدية ومعنوية ونفسية وعصبية، ولكنه يواجه حربه منفرداً من ناحية وجوده وحيدا في مواجهة طاقم التحقيق. وهو إذ تزوّد أثناء حياته العادية  والنضالية بالتعبئة والإعداد بأي مستوى كان، فإنه هو وحده فقط الذي يزود نفسه بالقوى المعنوية اللازمة أثناء صراعه مع جلاديه في ظل ظروف تؤدي إلى أن تعتمل في نفسه بواعث متناقضة ومؤثرات خارجية ذات آثار متناقضة. فانتماؤه الوطني وتاريخه الكفاحي وعلاقاته وارتباطاته، وحجم الأمانة التي يحملها في عنقه واستعداداته للاستمرار في الكفاح، وحقده على العدو، ورفضه القاطع لخدمته والتعاون معه، وإلحاق الأضرار المادية والمعنوية بالحزب والثورة؛ كل ذلك يشده نحو الصمود. أما الضغوطات الموجهة ضده فهي تهدف إلى إسقاطه وهي ليست دون أثر في واقع الحال، ولكن آثارها أيضا متناقضة وتتضمن ما يحفزه على الصمود، وما يمكن أن يقوده للحظة ضعف ربما يمليها استعداد ذاتي للسقوط.  

     ومن المعقول جدا أن تتفاعل هذه العوامل المتداخلة في نفس الإنسان الذي يواجه التحقيق في أي لحظة وبكثافة وحدّة قد تصل إلى مرحلة يضع المناضل نفسه فيها أمام خيارين من الناحية العامة ويتساءل: أيعترف وينتهي كل شيء (المقصود وينتهي التحقيق ومعه الانتماء الوطني والطبقي، الانتماء الثوري) أم يصمد وليكن ما يكون. ذلك علما بأن ذلك لا يعني أن يضع المناضل نفسه بالضرورة أمام خيارين من نفس المستوى والوزن والقوة أو يتعامل مع هذه الخيارات حسابيا، بل قد يعبر عنها على الأغلب على شكل (سأصمد ولن أعترف) أو لا يمكن أن أعترف وأخون، أو مَن هؤلاء الأوباش حتى يدفعوني للاعتراف. وفي هذه الحالات المذكورة كأمثلة لا يكون لدى المناضل أي استعداد للاعتراف، أو اختيار موقف الضعيف، بل إن اختيار موقف القوة واستمرار النضال يأتي كنقيض لتصورات عن موقف، أو موقف ضعف وردّ حازم على تلك التصورات والمواقف. وليس مستبعدا أن تظهر الخيارات بشكل سلبي على طريقة (إلى متى أستطيع تحمل وضع كهذا)، هل أستطيع الصمود، متى ينتهي هذا التعذيب، هل الأفضل أن أقول شيئا ما وأبقى على الأشياء الأخرى؟ 

    بهذه الصورة، أو بصورة شبيهة، تعتمل التناقضات في نفس المناضل وتتمظهر وكأنها اختبار في لحطة اختيار. وقد تجري هذه التفاعلات مكثفة والمناضل في الزنزانة وليس في قبو التعذيب، أو وهو في حالة انتظار في أحد الأمكنة المستعملة لذلك، أو وهو تحت الجلد مباشرة. للإجابة على هذه الأسئلة أهمية حاسمة وشديدة الأثر وتحتاج إما إلى قوة إرادة أو فقدان لهذه الإدارة. تحتاج إلى قوة إرادة لأن المناضل في وضع غير عادي ويتطلب الأمر إرادة صلبة لاستمرار ثباته (على أية حال فالإرادة سمة إنسانية وموجودة عند الجميع) أو يحتاج لأن يفقد إرادته معنويا حتى يقبل لنفسه الانهيار والسقوط. 

    والإرادة كالنبتة تنمو وتقوى، أو تخبو وتجف، وهي تحتاج إلى غذاء داخلي وخارجي؛ ولكن النبتة في حالات الجفاف تعتمد على مخزونها الداخلي، وكذلك إرادة المناضل في التحقيق يمكنها أن تتغذى داخليا وتغذي جوانب الشخصية الإنسانية. وهي لا تحتاج لغذاء مستحيل أو بعيد المنال، فالوضع العام في التحقيق يغذيها ويصلّبها. ومعرفة الذات وموقعها في هذه الظروف يوفر الغذاء والقوة والصلابة، وصورة الرفاق في ذهن المناضل، صور النضال والتضحية والرغبة الحقيقية في حماية كل شيء يمد الإنسان بعزيمة لا تقهر وعزم لا يلين.  

    ففي اللحظات الحاسمة، لحظات القرار الذاتي تتدفق إلى ذهنية المناضل الثوري صور أبطال النضال الثوري، أبناء شعبه والشعوب المكافحة الذين صمدوا ويصمدون أمام كل أشكال العسف. وتقفز إلى ذهنه ذكرياته النضالية، ذكرياته مع الرفاق وأطفالهم وعائلاتهم، صور رفاقه القادة يمدونه بالعزيمة والثقة بالنفس، كلمات رفاقه المعبرة عن فخرهم به وثقتهم المطلقة بشجاعته وصلابته، وثقتهم التامة بسلامة مواقفه في التحقيق المتوقع قبل أن يقبض عليه. وتقفز إلى ذهنه نظرات الأهل، الأم، الزوجة والإخوة والأخوات وهم يودعونه ليلة القبض عليه. تقفز إلى ذهنه أيضاً تصوراته عن ساعة لقائه المنتظرة مع أهله ورفاقه بعد خروجه من السجن وبماذا سيستقبلونه وغير ذلك الكثير من الصور. 

    هذه الصورة وهذه الذكريات التي تستند على خلفية نضالية مدربة، واستعداد مسبق للتضحية والصمود تمد الإنسان بقوة معنوية لا تنضب، تفعل فعلها في اللحظات الحاسمة المذكورة أعلاه وتزوده بإرادة جديدة تضاعف قواه وصموده إلى حب لا يقهر. 

    في هذه اللحظات ما يحسم الموقف ليست حزم العصي التي يهيلها الجلادون على المناضل، ولا إغراءاتهم له بالإفراج عنه بعد الاعتراف ومعاملته معاملة (حسنة) وإنسانية. إن الذي يحسم الموقف في التحقيق هي حالة الحسم التي تتم عند المناضل داخليا، والتي يقوم هو نفسه وبفعل عوامل ومؤثرات تتفاعل في داخله، يقوم بحسمها وهو منصرف إلى داخليته. فهو نفسه الذي لديه الاستعداد المسبق للصمود وهو نفسه الذي يغذي هذا الاستعداد ويعمّقه. ولتأتِ بعد ذلك كل قوى الجلد والتعذيب فإنها لن تستطيع أن تبتز حرفا واحدا مما هو مخفي ومصان في حرز حريز. 

    للمناضل رفاق وأصدقاء وعلاقات وارتباطات، وحينما كان يناضل مع رفاقه كان يحدوهم الأمل بأنهم يفعلون شيئا ما لإزاحة ركام الزمن عن كاهل وطنهم وشعبهم، يعضد بعضهم بعضا وفقا لأنظمة النضال واستنادا إلى الحماس الثوري والستعداد النضالي. والرفاق لا يتوقعون أن يكون هو بلحمه ودمه من يوقع بهم بعد أن اعتقل. إنه هو نفسه الذي يجدد لهم العهد وهو في أكثر الأقبية ظلاما بأن يصونهم بجلده ولحمه وعظمه ودمه ولا يشي بهم أبدا، فإن حجب النور عن نبتة فلتبقَ النباتات الأخرى تنمو وتزهر لتجزل العطاء. 

    في حالة كالمذكورة أعلاه، لن تجد عبارات المحقق (مئة أم تبكي ولا أمي تبكي) ولن يكون للمثل القائل (السلامة مكسب) ولا كل العبارات المثيرة للفردية والأنانية لن يكون لها أي مفعول، فالسلامة ليست سلامة الفرد بل سلامة واستمرار الثورة. 

    نادر العفوري لم يبح بشيء، علي الجمال لم ينبس ببنت شفة، محمد الخواجا بنى سدّاً بدمه بين الجلادين والحزب، محمد أبو عكر طحن الشيفرة والأسرار مع جسده. وأبو عمر قال لجلاديه (لا) ولاؤه لم تصبح (نَعَماً). مواطنون عاديون تحولوا إلى أبطال، هؤلاء وأمثالهم رايات الصمود والصلابة والبطولة. كانوا مناضلين ثوريين وظلوا مناضلين ثوريين بعد أن عمّدوا ثوريتهم بصمودهم فكانوا فخرا للثورة وظلوا فخرا للثورة. وشعبنا قدّم الكثير الكثر من هذه النماذج ومن مختلف المنظمات والأحزاب الثورية.  

    المناضل الثوري، ذكرا كان أم أنثى، يغذي نفسه بماضيه وحاضره ومستقبله على أنه وقود للثورة حيثما كان يقدم نفسه تأجيجا لها، ويقدم نفسه كذلك حماية لها. وهو كذلك بطل من أبطالها في الظل يزاح عنه الستار كلما قدم بذلا وتضحية ليصبح رمزا في آخر المطاف وشعلة يُهتدى بنموذحها في الميدان الذي عمّد فيه نضاله بالشجاعة والتضحية والصمود. 

    هذه الصور هي عنوان اللوحة العامة التي ترتسم في ذهنية المناضلين في ساعات الشدة وتمدهم بالدم الأحمر الذي يغذي جسدهم في بحر المعاناة البطولية التي يحفرون خلالها أعمق السبل ليسير عليها من يواليهم.  

    لحظات حاسمة تمر في خاطر المناضل تندفع خلالها وإلى المقدمة، الصور الحية للحياة النضالية فتطغى على كل ما عداها لترتسم السعادة على الشفاه، وتملأ كيانه حبا وفرحا رغم العصي واللكمات المنهالة فيرى نفسه من خلال عصبة العين ويرى الرفاق والحزب ويرى الدنيا كلها من منظاره البطولي المفعم بالأمل في حياة جديدة. 

    يتكثف المستقبل كله ويتجسد القول الفصل متفجرا من الحاضر المعاش كنتائج للماضي ومداخلاته. يتكثف الزمن ويكشف عما في أحشائه فتكاد صورة المستقبل تشرق ممسكة بيد الراهن تسحبه إلى درجات أعلى، والسياف يرفع يده ليجهز على كل شيء أو على بعض شيء إن استطاع. وحروب الثورة في كل مكان تشتعل لهباً أحمر قانياً كلون الورد الذي يزهر في حديقة النفس الإنسانية أملا وإيمانا بالصعود إلى القمة وانبلاج الفجر من أحشاء وحشة العتمة، فتنغلق الزنازين على من فيها ليخرج منها الأبطال.. أبطال الصمود والتحدي بعد أن قالوا الكلمة الفصل. 

    كل العالم يتجسم، ومن عزم الثوار يبدو وكأنه متاح لقبضة اليد تمسكه بإحكام قوانين الحياة الاجتماعية وقوانين الثورة. كل شيء قابل لأن يقاسَى ويدرَك ويُرى ويُسمع من خلال جدران الزنازين المبطنة بالدماء الممزوجة عرقا وعزماً يقارع الحديد والسلاسل. 

    في هذا العالم الكبير المقسم يظهر الجلادون كحثالة من البشر، مرتزقة وعبيدا ليس أكثر. يظهرون هكذا، ويدركهم المكافحون من أجل الحرية بهذه البساطة والعصي في أيديهم قشا، فيقع الجَلد على الجسم بردا وسلاما لا يفل من عزم المناضل شيئا. يقع الجَلد بالعصي مذكرا وفي كل لحظة بفاشية الاحتلال والرجعية وعدالة النضال ضدها وبكل الوسائل والسبل.  

    هنا يتعمق الموقف النضالي. هنا يتعمد الصمود والإصرار. هنا تزداد المواقف حسما ووضوحا بقدر ازدياد حدة الصراع، الصراع بين الاستمرار الثوري من جانب الثوري، وهدم هذا الوجود من جانب الجلاد. ولكن الفرصة قد فاتت وكل شيء يحمل في داخله ضده. فكل ضربة عصا تبني طوبة جديدة في الحاجز الذي يفصل بين الجلاد والثوري، ومع كل حزمة عصي قسم جديد وعزم جديد على الصمود والصبر والإصرار على استمرار الثورة والنضال حتى يهدم بنيان هؤلاء الجلادين لتنبت مكانه أزهار الحرية. هنا، وفي هذه الأوضاع الصعبة والأماكن الصعبة، تتصارع الإرادات: إرادة الهدم وحفظ بنيان الظلام وإرادة البناء والإصرار على إضاءة الشموع. وهنا في الزنازين تتصارع النتائج أيضاً: فالعدو يبغيها مقبرة للثورة والثورية، لكنها وطوال التاريخ كانت وستظل مدرسة للثوار ينهلون من علمها وينطلقون فيضيع الدليل من أيدي أعداء الحياة. أما الثورة فتستمر. فلا غرفة التحقيق ترهب، ولا زرد السلاسل يمنع استمرار الاحتراق على مذبح الثورة حتى تطلع الشمس، فإن تأخرت فلْتُضَأ الدنيا بالشموع الثورية المحترقة.  

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.