ناجي العلي… ريشةٌ وفكرةٌ ما زالت تطارد الأعداء، محمد العبد الله

   ثلاثة وثلاثون عاماً مرت على توقف نبض قلب ناجي العلي . لم تكن الرصاصة التي اخترقت وجه ناجي بأسفل عينه يوم 22 / 7 / 1987 قادرة على انتزاع حياته فوراً. قاوم الجسد النحيل بإرادة صلبة سبعة وثلاثون يوماً الموت ، لكنه استسلم أخيراً بعد أن فشلت كل الجهود الطبية لإنقاذه.

   منذ أن بدأ يخربش على جدران مخيم عين الحلوة الذي لجأت إليه عائلته عام 1948، إلى اليوم الذي اكتشفه فيه الشهيد غسان كنفاني، مروراً بكل محطات حياته وعمله في صحف ومجلات بيروت والكويت ولندن ، وإنتهاءً باللحظة التي أصاب فيها القاتل ” المجهول!! ” ناجي في أحد شوارع لندن وهو متجه لمكتب جريدة القبس التي يعمل بها بعد أن تم طرده من الكويت أواخر عام 1985بناءً على قرار حكومتها . طوال هذه الرحلة التي امتدت لما يقارب ثلاثة عقود ونيف ، كان ناجي يعرف تماماً ماينتظر كل من يحمل روحه على كفه من خلال الريشة أو القلم، فقال” اللي بدو يكتب عن فلسطين، واللي بدو يرسم فلسطين، بدو يعرف حاله ميت” .

    الريشة التي حملتها يد ناجي كانت مشرطاً يستأصل كل الأورام الخبيثة من جسد الشعب الفلسطيني والأمة والبشرية ، كان يمسك الريشة بأصابعه كما يضع الفدائي اصبعه على الزناد . طلقات ريشته كانت تصيب العدو الصهيوني والمستعمرين الغزاة والحكام الرجعيبن والطائفيين والمذهبيين والعملاء والفاسدين وكل الدكتاتوريات. كانت جبهته/ أهدافه، تمتد على مساحة الكرة الأرضية . وهنا أستحضر ماقاله الشاعر مظفر النواب ” لاأستثني أحداً “، حين الكتابة عن تأثير رسوماته بنقدها الثوري لما هو سائد ومهيمن ، من تخلف وتبعية وارتهان للخارج .

أربعون ألف لوحة ، كل واحدة منها، أشبه بقصيدة أو بيان ثوري يحمل صرخة ثائر يدعو للتغيير الجذري والثورة .

    حتى شخصية ” حنظلة ” التي صنعها ناجي وأصبحت ترمز لتوقيع اسمه على لوحاته، جاءت تحمل مرارة النكبات والهزائم و رمزية سنوات عمر الطفل ” 10 سنوات بما تعنية تلك المرحلة من عمر ناجي عندما طُردت عائلته من بلدة “الشجرة” التي أزالها الغزاة المستعمرين عن الوجود بعد احتلالها. لكن تلك الرسومات في مرحلة الكفاح المسلح والمقاومة وأفكار التحرر الوطني والقومي والأممي، كانت تباشير نصر بماهو قادم.

 يتحرك حنظلة أكثر من مرة في رسومات ناجي، مَرةً ،يلقي الحجر بوجه جنود الاحتلال ، وأخرى، كما ظهر في أحد أعداد جريدة “السفير” خلال فترة الغزو ومقاومته الباسلة عام 1982 في واحد من أجمل رسوماته ” صباح الخير يابيروت ” يُقدم وردة للمدينة التي طردت الغزاة بالعمليات الفدائية والمقاومة، من خلال وجه فتاة يغمره الحزن، يظهر من فتحة بالجدار أحدثتها قذيفة مدفع من دبابة لجيش الغزو.

   لقد فقد شعبنا وأبناء أمتنا برحيله أحد الثوريين الذين يعيد تذكيرنا صباح كل يوم بأن تحرير فلسطين ونهضة الأمة ووحدتها وسيادتها وكرامتها يصنعها الإنسان / ة التي تنتمي للطبقات الفقيرة والكادحة بعقلها وسواعدها. لم تكن لوحاته تحمل أي مساحة رمادية ولاأي التباس ولا تصلح لأن تكون حمالة أوجه:كانت مُباشِرة، تصرخ بوجه الاحتلال والانحراف السياسي والمسلكي الفلسطيني والظلم والفساد والتبعية . ويُسجل لناجي، مواجهته الفولاذية لكل محاولات الإغراء  والرشى،حيناً، والتهديد المتكرر” من ذوي القربى ” أحياناً كثيرة ، التي كان يستخف بها ويسخر من أصحابها.

نعم، “خسرنا هذا المناضل الصلب وكسبته المبادئ” كما كتب الراحل “عوني صادق ” في مقالته المنشورة في جريدة الوطن الكويتية تاريخ 10 / 10 / 1987 في ذكرى أربعينية  ناجي.

   اعتقد القتلة “من قرر وخطط ونفذ ” أن سقوط الجسد سيعني انتهاء الفكرة وموت كل القيم الثورية والنبيلة الي جسدها ذلك الإنسان/الشهيد . نعم ، لقد فوجئ المجرمون القتلة، بمقدار مايختزنه هذا الشعب بقواه الحية من حب وتقدير للشهيد . هذه القوى التي مازالت -وستبقى- متسلحة بأفكار وكلمات ووجه الرجل والمرأة “الأنقياء والفقراء بذات الوقت كما تدل ملامح وجوههم وملابسهم الذين رسمهم ناجي” من أجل التغيير الثوري الشامل وتحرير فلسطين وكل ذرة تراب عربية من الاحتلال.

  إن حنظلة ورسومات ناجي وعباراته التي كتبها على تلك اللوحات، تنتشر على جدران بيوت المخيمات وأحياء البؤس وأحزمة الفقر في فلسطين وكل أقطار الوطن العربي الكبير. كما تجد حنظلة /ناجي حاضراً في كل الندوات والحوارات الجادة للبحث في أوضاع الأمة ومستقبلها . كما تجد حنظلة في عدد كبير من حراك الجماهير العربية في شوارع وساحات المدن العربية.

 إذا كان جسد ناجي العلي مسجى في مقبرة بريطانية، فإن ناجي الإنسان :الفكرة والثورة والنقاء المسلكي باقٍ معنا وفينا، في حدقات عيون وشغاف قلوب الأجيال الشابة، وبسواعد الفدائيين والمقاتلين وكل المناضلين من أجل تحرير الأرض وكرامة الإنسان .

*كاتب فلسطيني

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.