تَنْتَقِي وسائل الإعلام السّائدة بعض الأخبار، من ضمن آلاف الأخبار، يوميًّا، ثم تُقدّم الأخبار التي تَنْتَقِيها، ليس بهدف الإعلام، وإنما بهَدَف التّضْلِيل، المَقْصُود والمُضْمَر والمَدْرُوس سلفًا، وإهمال معظم الأخبار المُتعلّقة بالإحتلال والقمع والإعتقال وهدم المباني، من قِبَل الإحتلال الصهيوني، أو المُمارسات العُنْصُرِيّة اليومية من قبل موظّفي المؤسسات الرّسمية، في أوروبا وأمريكا الشمالية…
انتشر خبر تسميم “ألكسي نافالني”، بواسطة غاز الأعصاب المُسمّى “نوفيتشوك”، واتهمت الولايات المتحدة الحكومة الرّوسِيّة، بسرعة قياسية، وقبل التّثَبُّت وقبل نشر نتائج التحليلات، لكن المُستهدف هو الغاز الطبيعي الروسي، الذي يصل إلى أوروبا، عبر خط الأنابيب (السيل الشمالي 1) “نورث ستريم 1” الذي اكتمل ودخل الخدمة، ولا تزال الأشغال جارية لإتمام بناء خط ( السَّيْل الشمالي 2 ) أو “نورث ستريم 2″، لتوصيل الغاز من الحُقُول الروسية إلى ألمانيا، عبر بحر البلطيق، وتعترض الولايات المتحدة على هذا الخط العملاق (2460 كيلومتر) بغرض بيع الغاز الصخري الأمريكي، في السوق الأوروبية، وهو أقل جودة وأغلى ثمنًا من الغاز الطبيعي الرّوسي، ولم تَتْرك الولايات المتحدة الأمر “لليد الخفية للسوق” التي ادّعى مُنَظِّرُو الإقتصاد الرّأسمالي الليبرالي أنها قادرة على تنظيم السوق والأسعار، بحسب قانون العَرْض والطّلَب، دون أي حاجة لتدخّل الدّولة، بل اتخذت السلطات التشريعية والتنفيذية الأمريكية قرارات سياسية، ضد المُنافِسين (وهي مُنافَسَة في إطار الإقتصاد الرأسمالي)، من بينها مجموعة من القرارات التي وقّعها الرئيس “دونالد ترامب” بنهاية سنة 2019، ضمن ميزانية الحَرب، وتتضمن عُقوبات ضد “غازبروم” الروسية، ومجموعة من الشركات الأوروبية، بهدف عرقلة إتمام مشروع “نورث ستريم 2″، ورَفَضَ الإتحاد الأوروبي وألمانيا هذه الإجراءات الأمريكية، فيما ابتهجَتْ لها حكومات بولندا وأوكرانيا، وهي حكومات يمينية متطرفة، حليفة غير مَشْروطة للإمبريالية الأمريكية، واغتاظ رُؤساؤها من عدم مرور الغاز من أراضيها، وحرمانها من الرّسوم، وانسحبت شركة “أول سيز” السويسرية من أشغال إنجاز المشروع، الذي تأخّر بفعل العراقيل الأمريكية التي اتّفَقَ عليها الحِزْبان الحاكمان، ففي أوائل شهر حُزيران/يونيو 2020، قَدّم نُواب من الحزْبَيْن مشروع قانون لإقرار عقوبات جديدة، بهدف مَنْعِ إتمام خط “السيل الشمالي 2″، ولم تتوقف الضّغُوط والتّهديدات والقرارات والعراقيل، منذ نحو ثلاث سنوات…
في هذا الإطار يتنزّل نَشْر خبر احتمال تسميم أطراف رسمية، أو شبه رسمية رُوسية، المواطن الرّوسي “ألكسي نافالني”، ونَقْلِهِ إلى مستشفى ألماني، وأدّى نَشْرُ الخَبَر (بشكل مُثير) إلى زيادة الخلافات بين حُكُومَتَيْ روسيا وألمانيا، وزيادة الضّغوط الداخلية والخارجية، على الحكومة الألمانية، لإعادة النظر في مشروع خط الأنابيب “السيل الشمالي 2″، الذي يكاد يكون جاهزًا، وبعد بضعة أسابيع من إعلان وزير الخارجية الألماني، “إن سياسة الطاقة الأوروبية تُقَرّرُ في أوروبا، لا في الولايات المتحدة”، هدّدَهُ وزير الخارجية الأميركي، “مايك بومبيو”، بفرض عقوبات إضافية على شركاء المشروع، و”مُقاوَمَة خصوم الولايات المتحدة، بواسطة العقوبات”، وجاءت قضية تسميم المعارض الروسي “أليكسي نافالني” في وقتها المُناسب، لتَتَعَدّدَ الدّعوات من داخل ألمانيا، ومن الحلفاء في الإتحاد الأوروبي، وفي حلف شمال الأطلسي، لتدويل القضية، بهدف اتخاذ قرارات وعُقوبات ضد روسيا وشركاتها، لِرَدْع الشركات الأوروبية عن المشاركة في أشغال بناء خط الأنابيب، ولردْع الحكومات الأوروبية عن شراء الغاز الروسي، واستبداله بالغاز الأمريكي الرّدِيء وباهظ الثّمن (بزيادة 30% عن سعر الغاز الرّوسي)، ولا تهتم الولايات المتحدة بمصالح “حُلفائها”، ولا بالأضْرار التي سوف تَلْحَقُ بحوالي مائة شركة من 12 دولة أوروبية، جَرّاء وقف بناء خط الأنابيب “السّيْل الشمالي 2″…
خلفيات:
تدّعي الولايات المتحدة (حكومة “الديمقراطي” باراك أوباما، كما حكومة “الجمهوري” دونالد ترامب) حرصها على استقلال أوروبا في مجال الطاقة وتجنيبَها (وتجنيب ألمانيا بشكل خاص) الغرق في علاقات تبعية تُجاه روسيا، وكأن ألمانيا قاصرة، وتتولّى الولايات المتحدة السّهر على حماية مصالحها !!!
تتميّز روسيا بوفْرَة احتياطيها من الغاز الطبيعي، وهي قريبة من أوروبا، ويمكنها ضخ كميات إضافية، في وقت قياسي قصير، عند الحاجة، ما يجعلها مصدرًا موثوقًا للطاقة يتميز بالنجاعة والجدّيّة والبيع بأسعار مناسبة، وما خط “السّيْل الشمالي 2″، سوى تتمة لخط “السَّيْل الشّمالي 1″، وهذا الخط الثاني هو مشروع روسي-ألماني مشترك، بتكلفة 12 مليار دولارا، تقريبًا، تُسْتَثْمَرُ مُناصَفَةً، بين شركات روسية وألمانية، ويهدف نقْلَ نحو 55 مليار متر مُكَعّب من الغاز الروسي سنوياً، من تحت بحر “البلْطيق”، إلى أوروبا، وبالخصوص إلى ألمانيا، وتمر الأنابيب من روسيا إلى فنلندا والسُّويْد والدنمارك وألمانيا، وعندما يكتمل بناء هذا الخط، تكون روسيا قادرة على ضخ 110 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي، عالي الجودة، نحو الأسواق الأوروبية.
كثيرًا ما وجّهت الولايات المتحدة إلى خُصُومها تُهَمًا باطلة، وغير منطقية، ولا يُصدّقُها عاقل، تلقّفها الإعلام السّائد ورَدّد الأخبار الزائفة التي زَوّدَتْه بها المخابرات الأمريكية، مثل اغتيال رفيق الحريري من قِبَل النّظام السُّوري، أو امتلاك العراق “أسلحة دمار شامل”، أو علاقة النظام العراقي ب”القاعدة” (سنة 2003) أو غير ذلك، وتضغط الولايات المتحدة على الأمم المتحدة وعلى تابعيها في حلف شمال الأطلسي، وفي “جمهوريات المَوْز”، لتصبح هذه الأكاذيب “حقائق” يعتمدها مجلس الأمن، لِفَرْضِ عُقوبات على الدّول والشّعُوب، وسبق أن واجهت روسيا، قبل نحو سَنَتَيْن، تُهمة تَسْميم أحد الأعوان السّابقين للمخابرات الروسية، في آذار/مارس 2018، عندما كان في مدينة “سالسبري” الإنغليزية، مع ابنته، وأثارت القضية ضجّة، قبل أن تهدأ، ليَلِدَ الجبَلُ فَأرًا، وفي صورة الحال، لا مصلحة لحكومة روسيا، في هذا الظّرف (اضطرابات “بيلاروسيا”، والضّغُوط الخارجية، واقتراب موعد تدشين خط “السيل الشمالي 2″…) في القيام بمحاولة اغتيال، ضد شخصية من “الوَزْن الخفيف”، مثل “اليكسي نافالني”، فقد نفخ الإعلام الأجنبي في صُورَتِهِ لِيُصْبِح معروفًا كمقاوم للفساد، ونَصّبَهُ نفسُ هذا الإعلام والمنظمات “غير الحكومية” (المُموّلة من حُكومات أوروبا وأمريكا) “مُمَثِّلاً للمعارضة الرّوسية”، لكنه لا يتمتّع بشعبية، تجعله يُنافس أو يُهدّد “فلاديمير بوتين”، وبحسب استطلاعات الرأي التي تتداولها الصحف “الغربية”، لا تتجاوز نسبة مُؤيِّديه 9%، لو ترشّح للإنتخابات الرئاسية، وسَمحت السلطات الروسية لمنظمة ألمانية “غير حكومية” بنقله من روسيا إلى ألمانيا، على متن طائرة خاصة، استأجرتها هذه المنظمة “غير الحكومية”، رغم مُعارضة الأطباء، لتَنْقَلِبَ هذه المُوافَقَة ضد روسيا، ولتُصبح فُرصة تستغلها الولايات المتحدة، لجَرِّ أوروبا وراءها (كما حال أوروبا، دائمًا)، ولِشَنِّ حملة ضد مصالح روسيا الإقتصادية والسياسية، تُتَوّجُ بعقوبات جديدة ضد روسيا، وربما تعطيل أو إيقاف خط “السّيْل الشمالي 2″، وتتهم الإستخباراتُ الروسيةُ أجهزَةَ استخبارات أجنبية (منها مخابرات ألمانيا وبولندا) بتلفيق القضية، وربما بتسميم “نافالني”، مع الإشارة إلى عدم ثُبُوت أي تهمة وُجّهت لمخابرات الإتحاد السوفييتي السابق، أو لمخابرات روسيا الحالية، بالضّلُوع في عمليات التّسميم والإغتيال، ما يُحَوّل هذه القضايا، إلى دعايات سياسية بامتياز (أو “تسْمِيم سياسي”)، تستهدف مصالح روسيا الإقتصادية في أوروبا…
أشار “نوربرت روتغن” رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني (بوندستاغ)، في تصريح عَلَنِي، أعادت نَشْرَهُ صحيفة “دي فيلت”، إلى ضرورة عدم استكمال خط أنابيب الغاز “السيل الشمالي 2″، لأنه جرى تنفيذه (بحسب زَعْمِهِ) ضد رغبة أغلب الدول الأوروبية، وضغطت سُلُطات الولايات المتحدة (ومنها وزارات الخارجية والخزانة والطاقة) على الشركات الأوروبية، والألمانية بشكل خاص، لمنعها من المشاركة في بناء خط “السيل الشمالي 2″، مع تهديد المُقاولين الألمانيين بعواقب وخيمة، تطبيقًا للتشريعات الأمريكية، التي أصبحت أعلى من القوانين الدّولية، وتُفْرَضُ بالتهديد والعُقُوبات وبالقُوّة العسكرية، مثلما حصل في العراق، وما يحصل في سوريا، وللمُفارقة، أعلن وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التّشاور بشأن فرض عقوبات على مسؤولين في بيلاروسيا، رافضين نتائج الانتخابات الرئاسية، وطلبوا من روسيا (الجارة المُباشرة ل”بيلاروسيا”) عدم التدخل في هذه الدّولة الصغيرة، والحليفة، التي أفلتت من هيمنة الحلف الأطلسي، خلافًا لبقية الدّول الأخرى، من دول الإتحاد السوفييتي السابق، الواقعة على حُدُودها…
جرت العادة، في الروايات البوليسية، طَرْح سؤال “من المُسْتفيد من الجريمة؟”، وهو سؤال يمكن طرحُهُ أيضًا، في مثل هذه القضايا السياسية، لنستنتج أن الولايات المتحدة تخوض، منذ نحو ثلاث سنوات، في أوروبا، معركة سياسية، ذات صبغة استراتيجية، واقتصادية، بهدف توسيع حلف شمال الأطلسي إلى كافة الدول المُحيطة بروسيا، وتكفّل دول الإتحاد الأوروبي بالإنفاق على صناعة السلاح الأمريكي، ووقف ضخ الغاز الروسي إلى أوروبا، لتتمكن الولايات المتحدة من بيع الغاز الصّخري الأمريكي، وجميعها صفقات خاسرة لأوروبا، ورابحة من الجانب الأمريكي، ويُشكّل اتهام روسيا بتسميم أحد مواطنيها المُعارضين للرئيس “فلاديمير بوتين” فُرصة لعرقلة أو لوقف خط الغاز الروسي “السيل الشمالي 2″، نحو أوروبا، ولتكدير العلاقات بين روسيا وألمانيا، أقوى اقتصاد أوروبي، وتمكنت الولايات المتحدة من شراء بعض الأصوات الأوروبية، والألمانية، التي أعْلنت تأييد المخططات الأمريكية، رغم الأضرار التي تتكبّدُها الشركات الأوروبية، وخاصةً الألمانية…
المصادر:
برقيات وكالة “رويترز”
موقع مجموعة “بي بي سي” البريطانية
موقع محطة “دويتشه فيلله” الألمانية
بين كانون الأول/ديسمبر 2019، و الثامن من أيلول/سبتمبر 2020
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.