مقدمة:
انطلقت حركات الاحتجاج في المغرب، ضد برامج “الإصلاح الهيكلي” والتّقشّف، التي يَفْرِضُها الدّائنون، منذ سبعينيات القرن العشرين، وجابهتها الدّولة بالقمع والعُنف والمُحاكمات، وأدى قمع احتجاجات سُكّان منطقة “الرّيف” (شمال البلاد)، إثر مقتل المواطن “محسن فكري”، يوم 28 تشرين الأول/اكتوبر 2016، بمدينة “الحُسَيْمة”، إلى اعتقال أكثر من 1500 مواطن، وأصْدَرَ جهاز القَضاء أكثر من 700 إدانة، من ضمنها الحكم على خمسة متظاهرين بالسجن عشرين عاما نافذة، ورَدّ النظام على احتجاجات “جرادة” (الشمال الشرقي)، بنهاية 2017، وبداية 2018، بالقمع والحكم بالسجن (من سنتَيْن إلى ثلاث سنوات) على 17 شخصا، وخلال أقل من ثمانية أشهر من سنة 2020، سُجن ما لا يقل عن 16 شخصًا (من بينهم اثنان من طلاب المدارس الثانوية) لمشاركتهم محتوى منشور على وسائل التّواصل المُسَمّى “اجتماعي”، (فيسبوك وإنستغرام، ويوتوب…)، وهم يواجهون أحكاما تتراوح بين شهر واحد و 4 سنوات سجنًا نافذًا، وتنظم السلطات، باسمرار، حملات مضايقة، وحملات تشهير وترهيب ضد بعض مُناضِلِي الحركات الاحتجاجية أو الإعلاميين والصحفيين المستقلين أو النقابيين، وتستهدف حملات القَمع، بشكل عام، حرية التعبير التي تمكّن المناضلون والنّقابيون، من التيارات التّقَدُّمِيّة، اكتسابها، خلال فترة امتدّت من منتصف تسعينات القرن العشرين، إلى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، وغالبًا ما تتهم السلطات وجهاز القضاء، هؤلاء الصحفيين المستقلين، أو المدافعين عن الحقوق والحريات، بازدراء الدّين أو القُضاة، أو بارتكاب أعمال العُنف، أو ب”الإعتداء على الأخلاق الحَميدَة”، وممارسة “الجنس خارج إطار الزواج” أو أي تُهَم أخلاقية أخرى، بهدف تشويه سمعتهم في نظر السكان …
على الصعيد الاقتصادي ، يمثل المغرب نموذج الدول ذات الدَّيْن العام المرتفع والتي تخضع لإملاءات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، ونموذجا للدول العربية التي تستجيب سياساتها لرغبة ومصالح القوى الإمبريالية، والكيان الصهيوني، والشركات متعددة الجنسيات، وارتفعت قيمة الدَّيْن العام، من سنة إلى أُخْرى، ويُؤدّي ارتفاع الدّيْن العام إلى تدهور الأحوال المعيشية لغالبية السكان الذين تنخفض دخولهم السنوية، لأن جُزْءًا مُتعاظمًا من الإنتاج ومن جُهْد العاملين، يَخْرُج من البلاد، ويُخَصَّصُ لتسديد الدُّيُون…
تُمثّل اتفاقيات “التجارة الحرة”، أو اتفاقيات الشراكة” مع الإتحاد الأوروبي، التي فُرِضَتْ على المواطنين (في المغرب وتونس ومصر والأردن وغيرها من البلدان العربية) نموذجا لمظاهر الإستعمار الجديد، لأنها مُجَرّد أداة لسيطرة المصارف والشركات الأوروبية العابرة للقارات، على ثروات واقتصاد بلدان الحَوْض الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، وتَتَكامَلُ هذه الإتفاقيات مع هيمنة البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، إذْ تسمح هذه الاتفاقيات للشركات الأوروبية (وغيرها) بالسيطرة على القطاعات الاقتصادية المربحة والخدمات العامة، وتسريع عملية خصخصة قطاعي الصحة والأدوية، وتغيير قوانين البلاد (من خلال قوانين الملكية الفكرية وبراءات الاختراع)، ووَصَل الأمر إلى الاستيلاء على الأراضي الزراعية الخصبة، لتزيد عملية إفقار المُنتجين وصغار الفلاحين، عبر زيادة المديونية التي تهدد وجودهم، كَفِئَات اجتماعية مُنْتِجَة، تُساهم في تزويد السوق المحلية بحاجيات المواطنين، وإنتاج سلع ومواد تُناسب دَخْل وعادات ونمط حياة المواطنين…
بعض سِمات الوضع الإقتصادي بالمغرب:
لا يُعدُّ المغرب من المنتجين للنفط، بل يستورده من الخارج، ولكنه كان يتلقّى بعضَ الفُتات من الأُسَر الحاكمة في الخليج، وأدّت أزمة 2008/2009، ثم انخفاض أسعار النفط الخام في الأسواق العالمية، وبالتالي انخفاض إيرادات دُويلات الخليج، إلى انخفاض “المِنَح” والإستثمارات والقُرُوض الخليجية، فتأثّر الإقتصاد المغربي سَلْبًا، بالتوازي مع ارتفاع نسبة البطالة والفَقْر، ومع انخفاض إيرادات السياحة وتحويلات العُمال المهاجرين والاستثمارات الأجنبية المباشرة، ولجأت الحُكومات المتعاقبة للإقتراض من صندوق النقد الدّولي، ومن الدّائنين الآخرين، الذين اشترطوا تطبيق سياسات التّقشّف وتعميم العمل الهش، وخَفْض الإنفاق العُمومي وخصخصة القطاع العام، واندماج كافة القطاعات في اقتصاد السّوق، فارتفع حجم المديونية العمومية (الديون الداخلية والخارجية) إلى 84% من الناتج المحلي الإجمالي للمغرب، سنة 2018، بحسب المصرف المركزي المغربي، وحصلت حكومة المغرب على قرض ائتماني، بقيمة ثلاثة مليارات دولارا، أو ما يعادل 3% من حجم الناتج المحلي الإجمالي، البالغ حوالي مائة مليار دولارا، بنهاية الرّبع الأول من سنة 2020 وعلى قُرُوض أخرى من البنك العالمي ومن أطراف أخرى، في بداية الرّبع الثاني من سنة 2020، لتصل قيمة دُيُون النصف الأول من سنة 2020، إلى حوالي 4,2 مليارات دولارا، وقُدّرت قيمة “خدمة الدَّيْن” في المغرب بما يعادل عشرة أضعاف ميزانية الصّحّة، وما الدّيُون سوى وسيلة لتوسيع نفوذ وهيمنة الدّول الإمبريالية (أمريكا الشمالية والإتحاد الأوروبي بشكل خاص) ومصارفها وشركاتها، عبر مُؤسسات “بريتن وودز”، وعبر فَرْض شُرُوط وقواعد منظمة التجارة العالمية، مثل “حقوق المِلْكِيّة الفِكْرِيّة” التي رفَعَتْ أسعار الأدوية بمعدّل 25%، في بعض البلدان الفقيرة، ومن بينها المغرب، ما حَرَمَ الفُقراء من الرعاية الصحية، ومثل “تحرير” كافة القطاعات بما فيها تجارة التجزئة والفلاحة، حيث تُقدّم الدُّول الإمبريالية (أمريكا الشمالية واليابان والإتحاد الأوروبي، وأستراليا…) دَعْمًا هامًّا لقطاع الزراعات الكبرى وتربية الماشية واللحوم ومشتقات الألبان، مقابل التّأكيد على مَنْع دول “الجنوب” من حماية اقتصادها، ومن تقديم أي دَعْمٍ للقطاعات الإستراتيجية، كالزراعة، ويأتي هذا التّحريم عبر منظمة التجارة العالمية، أو عبر اتفاقيات “الشّراكة” الثنائية ومتعددة الأطراف، ووقّعت تونس والمغرب ومصر والأردن ولبنان اتفاقيات شراكة غير متكافئة بالمَرّة مع الاتحاد الأوروبي، وكبّلتْ حكومتا تونس والمغرب شَعْبَيْهِما، من خلال المفاوضات المُرهقة التي بدأت منذ 2015، بشأن “اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق”، مع الإتحاد الأوروبي، الذي لا يخدم سوى مصالح المصارف والشركات الأوروبية العابرة للقارات، والذي يفرض على الدّوْلَتَين (تونس والمغرب)، تطبيق المَعايير الأوروبية، في مجالات القانون والإنتاج والتجارة، والفلاحة والخَدَمات، وحماية “المُستثمِرِين” والشركات الأوروبيّة، لتعظيم أرباحها، عبر تكثيف استغلال العاملين المَحَلِّيِّين واستغلال واحتكار الثروات والأسواق المحلّية، ما يُعَمِّقُ علاقات التّبَعِيّة، ذات الطابع الإستعماري، وما يؤدّي إلى تهديد الأمن الغذائي لشَعْبَيْ تونس والمغرب، ففي مجال الفلاحة، يعتبر المغرب مُنتجًا غذائيًّا ومُصدّرًا للأغذية الرّخيصة إلى أوروبا، التي تنهب أيضًا الثروات البحرية للمغرب، التي لها واجهتان على البحر (المتوسط والمحيط الأطلسي)، وتنهب ثروات غرب إفريقيا، فيما يتهدّدُ الإفلاس القطاع الفلاحي المغربي، وبالأخص صغار الفلاحين، أصحاب المَزارع الصغيرة، أو الذين يسْتأجِرُون الأرض، المُكبّلين بالدّيُون، بالإضافة إلى العوامل الطبيعية غير المُواتية، كالجفاف، وهيمنة الشركات الإحتكارية، التي تستحوذ على الدّعْم الحكومي، وتستغل العاملين الفُقراء في الأرياف، وتحتكر الأراضي والموارد والمياه، وتفرض شروطها على صغار الفلاحين، لتُدَمِّرَ الغذاء التقليدي والصّحّي، ولتستحوذ على معظم الإنتاج الفلاحي، لتوجيهه نحو التّصْدِير، وِفْقَ حاجة الأسواق الأوروبية (والخارجية عمومًا)، بدل تَلْبِيَة حاجة الشعب المغربي، ولذلك تستورد الدولة، قرابة 55% من المواد الغذائية الضرورية، وخاصة من الحُبُوب والقَمْح، وأدّى تطبيق هذه السياسات إلى احتجاجات نظّمها الفلاحون الصغار وجمعيات المُستهلكين وبعض منظمات المُجتمع الأهْلِي، سنتَيْ 2018 و 2019، جابهتها أجهزة الدّولة بالقمع والإعتقالات والمحاكمات …
تُؤَدّي عملية استيلاء الشركات العابرة للقارات على الأراضي الزراعية، مثلما تنص عليه اتفاقيات الشراكة مع الإتحاد الأوروبي، إلى تهديد الأمن الغذائي للمغرب (كما الحال في أي بَلد آخر)، وبدأت بعض اللجان المَحَلِّيّة، وبعض القوى السياسية والنقابية، في المغرب وتونس، ترفع مطلب إلغاء الدّيون، وينظم بعضها حملات، مُحتشمة، من أجل إلغاء اتفاقيات “الشراكة” مع الإتحاد الأوروبي، التي تضفي الشرعية على علاقات التّبَعية والهيمنة الاستعمارية.
تؤدي هذه الاتفاقيات إلى تفاقم التبعية وارتفاع قيمة العجز التجاري، وزيادة الاعتماد على الواردات الغذائية من الأسواق العالمية، وتؤدّي إلى تدمير أنشطة الإنتاج الفلاحي، وتدمير الوظائف، أو فُرَص العمل الدائمة، وتدمير النّسِيج الإجتماعي في الأرياف.
عَمَّمَت هذه الاتفاقيات (مع الإتحاد الأوروبي) هيمنةَ الشركات متعددة الجنسيات، بالتعاون مع رأس المال المحلي الكبير، على القطاعات الاقتصادية المربحة، وعلى الخدمات العامة، بما في ذلك الصحة والأدوية، وكفلت حماية “حقوق” رأس المال الأجنبي، من خلال قوانين “حقوق الملكية الفكرية” و “براءات الاختراع”، وتشمل الصيغة “الجديدة” من اتفاقيات التجارة الحرة، كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية ، كما هو الحال في اتفاقية التجارة الحرة الشاملة المعمقة (كافتا) بين تونس والإتحاد الأوروبي، وتتكاملُ اتفاقيات “التجارة الحرة” مع الدُّيُون الخارجية، لِتُشكِل أهم أدوات الهيمنة الإمبريالية، وهي اتفاقيات لا تهدف تلبية احتياجات المواطنين، بل على العكس من ذلك، تستهدف هذه الاتفاقيات خصخصة القطاعات الأساسية والحَيَوِيّة كالصحة والتعليم والنقل الحضري وقطاعات الطاقة الاستراتيجية والمصارف والاتصالات، وتقتضي بنود هذه الاتفاقيات تحرير تجارة السلع، والخدمات، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، عبر ما تُسَمِّيه المُؤسسات المالية “تَحْسِين مناخ الإستثمار والأعمال” إلخ.
نشرت جمعية “أتاك” المغربية، سنة 2019 (وهي جمعية تناضل من أجل إلغاء الدّيون، ومن أجل فَرْض رُسُوم على عمليات المُضاربة) دراسة عن العلاقة بين الزراعات التقليدية المحلية و”السيادة الغذائية”، أو “الأمن الغذائي”، واستنتجت أن الفلاحين والفلاحات الصغار يُعانون من ظروف الحياة وظروف العمل الصعبة، ومن الأُمِّيّة ومن غياب مؤسسات التعليم والصحة، والبُنية التّحتية، كالطرقات، والخدمات الأساسية، كالمظَلّة الإجتماعية والرعاية الصحية، ومن انخفاض مستوى الدّخْل، ومع ذلك لهم فضْلٌ كبير في المحافظة على البيئة، ومُقاومة التّصَحُّر وفي إنتاج غذاء صحي، رغم الحجم الصغير للمساحات المزروعة، ورغم شُحّ المياه، وارتفاع أسعار الأسمدة والمُعدّات الفلاحية، وَراكَمَ هؤلاء الفلاحون الصغار، في المغرب كما في كافة مناطق العالم، خبرات ومهارات وتجارب للحفاظ على المياه وعلى خصوبة الأرض، واحترام البيئة، والحفاظ على التنوع البيئي، النباتي والحيواني، وخبرات أخرى عديدة ورثوها عن الأجيال السابقة، على مر القُرُون، قبل اجتياح هذه المناطق الريفية من قِبَل الشركات العابرة للقارات، ووكلائها المَحَلِّيِّين، وهي شركات تمتلك المال والسّلطة، واستخدمتهما لتدمير البيئة ولنهب الموارد، من أجل تحقيق الربح السريع، وهيمنت هذه الشركات وَوُكلاؤُها على الأسواق، ما حَرَم صغار الفلاحين من بُذُورهم التي تأقلمت، خلال مئات السّنين، مع تُربة ومناخ البلاد، وما حرمهم من تسويق إنتاجهم، خُصُوصًا في غياب العمل الجماعي، النّقابي، والتّعاوُنِي، للدّفاع عن مصالح هذه الفئة الإجتماعية من المُنْتِجِين، في ظل غياب الرُّؤْيَة الشُّاملة (الوطنية والمغاربية) للمسألة الزراعية، وإهمال الأنظمة للتخطيط من أجل إنتاج المواد الأساسية الضّرورية للسوق المحلية (كالحبوب والخضروات واللحوم والألْبان…)، وإهمال (أو عرقلة) أجهزة الدّولة شروط تحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي، مع تشجيعها الإنتاج التجاري المُعَد للأسواق الخارجية، في مزارع ضخمة، تستغل العاملات والعُمّال المياوِمين، لفترة 12 ساعة يوميا، برواتب ضعيفة، وبدون حُقُوق، ويُهاجر الآلاف منهُنَّ ومنهم، سنويًّا، إلى جنوب أوروبا، بعقود موسمية، أو بدون عُقُود، ويعملون في ظروف سيئة جدًّا، وتعتمد هذه المزارع الضخمة على التقنيات التي لا تُراعي المحافظة على الثروة المائية وعلى أديم الأرض، وتستخدم البُذور المُعَدَّلَة وراثيا والمواشي التي يقع تَسْمِينُها بالمُضادّات الحيوية والهرمونات، وتستخدم المبيدات التي تم حَظْرُ استخدامها في الإتحاد الأوروبي (مُنِعَ استخدام بعضها منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين)، فتُلَوِّث التّرْبَة والمياه، ومُحيط عَيْش القَرَوِيّين المغاربة، وهو تدمير شبيه بما يحصل في مناطق عديدة من العالم، في غابات الأمازون، بأمريكا الجنوبية، وفي جنوب آسيا، وفي معظم بلدان إفريقيا…
بين تَبَعِيّة الإقتصاد وبُؤْس المواطنين:
شهد المغرب انتفاضات عديدة منذ الإستقلال الشّكْلِي (سنة 1956)، حيث رَفَضت بعض فصائل النضال الوطني تَبِعات اتفاقيات هذا “الإستقلال” مع فرنسا، القوة المُسْتَعْمِرَة، وواصلت بعض المجموعات المُعارضة الكفاح المُسَلّح، عدة سنوات، كما انتفض الأولياء والمُدَرِّسُون والتلاميذ أيام 22 و 23 و 24 آذار/مارس 1965، احتجاجًا على ظروف الدّراسة وعلى ارتفاع نفقاتها في مؤسسات التعليم العُمومي، وقتل الجيش مئات المتظاهرين في الدار البيضاء، وبعد سنوات، أدّى تطبيق برنامج الإصلاح أو التَّكَيُّف الهيكلي، الذي فَرَضَهُ الدّائنون إلى مزيد من الفَقْر، في المغرب، كما في العديد من البلدان، إلى انطلاق احتجاجات جماهيرية عارمة، في العديد من البُلدان، ومنها المغرب، وقمعت القوى الأمنية المُسلحة المغربية هذه الإحتجاجات بشراسة، منذ بداية عقد الثمانينيات من القرن العشرين، وأسفرت عن عشرات القَتْلى والمُصابين والمُعتقَلِين، وخاصة خلال سنوات 1981 و 1984 و 1990، ثم تغيّر شكل الإحتجاجات، بداية من سنة 2011، حيث انطلقت انتفاضة شبابية، قبل أن تتسع رقعتها، في شهر شباط/فبراير 2011، ولم يكُفّ سُكّان الأحياء الشعبية في المُدُن المغربية عن الإحتجاج ضد ارتفاع أسعار السّلع والخدمات، وضد خصخصة الخدمات، وارتفاع أسعارها، كالهكرباء والمياه، وصعوبة استئجار مَسْكن، وغير ذلك من ظروف الحياة اليومية الصّعْبَة، وعالجت الحُكومات المتعاقبة (التي لا يمكنها الخُرُوج عن مخططات القصر المَلَكِي) هذه المطالب بالقمع، وعالجت الوضع الإقتصادي بالإستدانة والخصخصة، وتحْميل الأُجَراء والفُقَراء أعباء الأزمات، كما في معظم بلدان “الجنوب”…
الدّيُون الخارجية:
تقترض حكومات المغرب وتونس ومصر والأردن من صندوق النقد الدولي (وكذلك من البنك العالمي ودائنين آخرين)، وعندما يوافق صندوق النقد الدولي أو البنك العالمي على قرض، فإنه يتحكم في السياسة الإقتصادية للدولة المُقْتَرِضَة، ويفرض عليها برنامجًا اقتصاديًّا، ومن يتحكّم بالإقتصاد، يتحكّمُ بالقرار السياسي السيادي، ولا تترك الشروط المفروضة، وجدول السداد (الدَّيْن والفائدة) أي هامش للدول المُسْتَدينة لكي تستثمر في القطاعات الحيوية التي يُمْكنُها تَعْزِيز الاستقلال الاقتصادي والسياسي، ولا يُمكن للدول المُسْتدينة أن تعد ميزانية سنوية أو تخطط للإنفاق أو الاستثمار بدون موافقة صندوق النقد الدولي أو البنك العالمي الذي يُحَدّدُ بُنُود الميزانية، ويتدخّل في تفاصيل الإيرادات والإنفاق، ما يُعَدُّ استعمارًا من نوع جديد، بدون جُيُوش.
طبّقت هذه الدول شُرُوط الدّائِنِين، ولكن لم تنخفض قيمة ونسبة الدُّيُون (من الناتج المحلي الإجمالي)، بل على العكس، فهي تتزايد باستمرار، وتطلب الحكومات قُرُوضًا جديدة لسد العجز أو لتسديد القروض القديمة، ودخلت في دوّامة أَضَرّتْ بحياة الشُّعُوب، وخاصة فئات الكادحين والأُجَراء والفُقراء، فارتفعت الفوائد وخدمة الدّيون (تكلفة أو أعْباء الدّيُون)، ما قد يؤدّي إلى عدم القُدْرَة على التّسْديد، لتقترض الحكومات (في المغرب وتونس ومصر والأردن ولبنان) أموالاً لتسديد القُروض السابقة، وهي قُرُوض أو دُيُون خارجية، مُقَوّمة بالعملة الأجنبية، معظمها من صندوق النقد الدولي ومن البنك العالمي ومن مؤسسات مالية أخرى كالمصرف الإفريقي للتنمية، ونادي باريس، ودخلت معظم الدول العربية (ومنها المغرب) في هذه الدّوّامة الخطيرة من الإستدانة لتسديد ديون قديمة، وفاقت قيمة الديون الخارجية للمغرب، بنهاية سنة 2018، خمسين مليار دولارا، وبلغت حصة كل مواطن مغربي منها، أي المبلغ الذي يتوَجّب على كل مواطن مغربي تسديده، من الرضيع إلى الشيخ الطاعن في السّن، 2120 دولارا، من الدّيون الخارجية، بالعملات الأجنبية، في ظل انخفاض قيمة العملة المحلّية، وارتفاع قيمة الدّولار، وهو ما يُتَرْجَمُ في الحياة اليَوْمِيّة بارتفاع الأسعار، وبانخفاض القيمة الحقيقية لدخل الأفراد، وباعت معظم الدول العربية، ومنها المغرب، الأُصول (أي خصخصة ممتلكات الدّولة والشعب)، والسّندات، بالإضافة إلى الإقتراض المباشر، بهدف سدّ العجز في ميزانيات هذه الدّول، ويُشرف الدّائنون على طريقة إنفاق هذه القروض الخارجية، في غياب مؤسسات الرقابة الشعبية، والمحاسبة الداخلية، ولم تُسْتَخْدَم القُرُوض في الإستثمار في قطاعات إنتاجية (لو افترضنا أن الدّائنين يسمحون بذلك)، بل لسد العجز، وتمثلت شُرُوط صندوق النقد الدولي في إقرار سياسات التّقشُّف، وزيادة الضرائب على الرّواتب وعلى السلع الأساسية، مع خفض الضرائب على الثروات وعلى أرباح الشركات (ومعظمها شركات أجنبية)، وإلغاء دعم السلع والخدمات الأساسية وخفض قيمة العُملة المحلية، ووَقْف التّوظيف في القطاع العام، بل وبيع القطاع العام أصْلاً، وتَضُرُّ سياسات التّقشف بالعاملين وبالفُقراء، بفعل زيادة الأسعار وإلغاء الدّعم، وخفض قيمة العملة المحلية، ما يُبرّرُ انطلاق الإحتجاجات بشكل شبه متواصل في المغرب وتونس والسودان ومصر (قبل موجات القمع الرهيبة) والأردن ولبنان والعراق، وهي دول يتّسم اقتصادها (مثل بقية الدول العربية) بالتّبَعِية لدول “المركز” الرأسمالي الإمبريالي، رغم، أو بسبب ثروة المحروقات في العراق.
لم تستثمر الحكومات المغربية المتعاقبة، شأنها شأن الحُكومات العربية الأخرى، مبالغ الأموال المُقْتَرَضَة في القطاعات المُنْتِجَة، بل استخدمتها لسدّ العجز المُتراكم في ميزانية الدّولة، ما زاد من نسبة الدّيون من الناتج المحلي الإجمالي، ومن قيمة الأموال التي وجب تسديدها، فتضغط الحكومات، بأمر من الدّائنين، وفي مقدمتهم صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، على الفُقراء والأُجَراء، عبر برامج “الإصلاح الهيكلي” والتقشف وخفض الإنفاق الحكومي، وخصخصة القطاعات والخدمات الأساسية، لتتحمل الفئات الشعبية، والعُمال والأجراء والفُقراء نتائج سياسات السلطات التي لم تستشر الشعب، وبعد انهيار الإقتصاد، يفلت الفاسدون واللصوص ومكونات السلطة من المُحاسبة والعقاب، ثم تَصُمُّ الحُكومات آذان الأُجَراء والفُقراء بالحديث عن “الشفافية” و”الحوكَمَة”…
من خصائص اقتصاد المغرب العربي:
(يلي ذلك فقرة خاصة باقتصاد المغرب)
يعاني اقتصاد البلدان المغاربية، ولا سيما في المغرب وتونس، من آثار التباطؤ في اقتصاديات الشركاء التجاريين، مثل الصين وأوروبا، بالإضافة إلى انخفاض أسعار صادرات هذه البلدان من المواد الخام (نفط الجزائر ومعادن موريتانيا، وفوسفات تونس والمغرب) أو المنتجات الزراعية، المُصَدَّرَة من تونس والمغرب، وأعلن صندوق النقد الدولي تباطُؤَ اقتصاديات البلدان المغاربية “بشكل خطير”، وفقًا لتقرير الصندوق (تشرين الأول/أكتوبر 2019)، ويشير صندوق النقد الدولي في نفس التقرير إلى نمو هزيل بنسبة 2,7% في المغرب و 2,6% في الجزائر و 1,5% في تونس، وتأثّر اقتصاد الجزائر بانهيار أسعار النفط، وبالحراك الإجتماعي ضد البطالة والفساد، أما وضع ليبيا فإنه كارثي، ويُشكل التفاوت الطبقي المُجْحف قاسمًا مشتركًا في الدول العربية، بما فيها بلدان المغرب العربي.
لجأت حُكومات الإخوان المسلمين في المغرب وتونس، منذ 2012، للإقتراض من صندوق النقد الدّولي، وتنفيذ الشُّروط التي أَضَرّت كثيرًا بالمواطنين من الفئات المتوسطة، والأُجراء، وأضَرّتْ خاصة بالفُقراء، وسكان الأحياء الشعبية والأرياف، فارتفعت معدلات الفقر والبطالة، بسبب “الإصلاحات الهيكلية” وانخفاض الإنفاق الحكومي، وخصخصة المُؤسسات والخدمات العامة، وانخفاض قيمة العملات المحلية، بالإضافة إلى الفساد وهدر المال العام، وهي إجراءات تزيد عدد العاطلين عن العمل، ومن الفقراء، ويشترط صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي توجيه جُزْءٍ من الدُّيُون لما يُسميانه “تحسين مناخ الأعمال”، أي تقدم الدعم القانوني والمالي للقطاع الخاص، ليزدهر على حساب القطاع العام، الذي يجب أن يزول، بحسب مُؤَسَّسَتَيْ “بريتن وودز”، ما يعني توجيه المال العام والقُروض التي يتكبد الشعب عبء تسديدها، لدعم الشركات والأثرياء الذين لا يدفعون الضرائب على الأرباح، ولا يُساهمون في ميزانية الدولة…
خُصُوصِيّات اقتصاد المغرب
الدّيُون:
قَدّرت الحكومةُ قيمة الناتج الإجمالي المحلي المغربي بنحو 118 مليار دولارا سنة 2019، لنحو 35 مليون نسمة، بينما ارتفعت نسبة الدّيْن العمومي إلى حوالي 66,2% من الناتج الإجمالي المحلي، بحسب البيانات الرّسمية، وخلال النصف الأول من سنة 2020، طلبت حكومة المغرب سبعة قُرُوض خارجية، بقيمة تجاوزت ثلاثة مليارات دولارا، وقُدّرت حاجة الحكومة، سنة 2020، إلى قُرُوض خارجية أخرى، بقيمة تفوق 1,32 مليار دولارا أخرى، ويقدّر البنك العالمي نسبة الفقر بأكثر من 25% ممن يعانون من الفقر أو يتعرضون للفقر، الذي ينتشر في المغرب، إلى جانب الأمية، وتفتقد المناطق الريفية للبنية التحتية وللخدمات الأساسية، كالمرافق الصحية والمدارس والماء والكهرباء والصّرف الصحي، ولذلك يحتل المغرب مرتبة سيئة (123) في مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة…
خَفّضت المندوبية السامية للتخطيط (مؤسسة رسمية) توقعاتها لنمو اقتصاد البلاد سنة 2019، عدة مرات، ليستقر عند 2,3%، بينما يقدّر صندوق النقد الدّولي نسبة النّمو المَرْجعِية لإدماج العاطلين عن العمل، بنحو 10% سنويا، طيلة عقد كامل، وتهيمن القطاعات الهشة وذات القيمة الزائدة الضعيفة (المعادن الخام، والسياحة والزراعة وصناعات تركيب قطاع الغيار أو النسيج) على اقتصاد المغرب، حيث يُشكل الفوسفات الخام (خصوصًا بفضل استغلال فوسفات الصحراء الغربية) والمواد الزراعية غير المُصنّعة والسياحة، وصناعات النسيج والجلد وتركيب قطع غيار السيارات والطائرات، الجزء الأكبر من صادرات البلاد، ويمثل القطاع الزراعي نحو 16,5% من الناتج المحلي الإجمالي، ويُشغّل نحو 40% من العاملين (أو ما يُسمّى “قُوّة العمل”) في البلاد.
يتميز اقتصاد المغرب (كما معظم الدول العربية) بتفشي الفساد والرشوة واللصوصية، مع الإفلات من العقاب، بحسب بيان الجمعية المغربية لحماية المال العام (15 آذار/مارس 2020) ويُقيم بالمغرب عدد من كبار اللصوص والفاسدين والشّاذّين ومُغْتَصِبي الأطفال، من جميع أنحاء العالم، ومن بينهم المدير التنفيذي الأسبق لصندوق النقد الدّولي، الذي أسس شركة استشارات، يقع مقرها (عنوانها) بالمغرب، ولا تُشغّل أحدًا غيره وشريكه (صهيوني يتنقل بين تل أبيب والمغرب وفرنسا، قبل أن ينتحر إثر كشف قضية فساد هائلة، نفذها مع شريكه “دومنيك ستروس كان”)، وقدرت الأرباح الصافية لهذه الشركة بنحو 25 مليون دولارا، وهي مُعفاة من الضرائب، واستقال “ستروس كان” من منصب مدير صندوق النقد الدّولي، بعد انتشار خبر عديد الفضائح الجنسية وقضايا الفساد واستغلال السّلطة، وانتقل إلى الإقامة بالمغرب، حيث يمتلك محل إقامة فاخرة، وأدى انتشار الفساد، إلى احتجاج الجمعية المغربية لحماية المال العام، التي دعت إلى مسيرة وطنية في مدينة مراكش، يوم 15 آذار/مارس 2020، تحت شعار ”تجريم الإثراء غير المشروع، وربط المسؤولية بالمحاسبة، ومكافحة الفساد مدخل أساسي للتنمية”.
Haut du formulaireمن جهتها أشارت المُديرة التّنفيذية لصندوق النقد الدّولي (كريستالينا جورجيفا)، خلال أول زيارة لها للمغرب، خلال الأسبوع الأخير من شهر شباط/فبراير 2020، أن نسبة البطالة والفقر لا تزال مرتفعة، وتجدر الإشارة أن شرُوط صندوق النقد الدّولي تُؤَدِّي دائما إلى ارتفاع نسبة البطالة والفَقْر، وأعلنت أيضًا أن سياسة الدولة تفتقر إلى الشفافية، وتتميز بالفساد، ويُشكّل هذا التّصريح مُنعطَفًا، إذ اعتادت الحكومات المغربية على طمس الحقائق، بدعمٍ وإطْراءٍ من بعثات الدّائنين…
ارتفعت قيمة الدّيون الخارجية بما لا يقل عن ثلاثة مليارات دولارا، سنة 2018، لتزيد عن خمسين مليار دولار، بحسب البيانات الحكومية، ليرتفع حجم خدمة الديون الخارجية إلى نحو 4,3 مليار دولار في تقديرات ميزانية 2020، ونشر عضو لجنة برلمانية بيانات أخرى، مفادها أن مجموع ديون البلاد يفوق ما أعلنته الحكومة، وأن المؤسسات المالية الدولية (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والمصرف الإفريقي للتنمية…) تفرض شروطاً مجحفة على المغرب وكل الدول الأخرى، ليتحكم الدّائنون في القرارات التي تخص الميزانية والضرائب والنفقات وأجور الموظفين، في إطار “برنامج الإصلاح الهيكلي”، الذي يولي أهمية خاصة لخفض الإنفاق الحكومي، ولضمان تسديد الديون، على حساب احتياجات الشعب والفقراء والأُجراء، وأنتجت هذه السياسة، في المغرب كما في بلدان أخرى، تعميق الفجوة الطبقية بين الأثرياء والفُقراء، وارتفاع عجز ميزانية الدولة سنة 2019، بنسبة 14,2% مقارنة بسنة 2018، وبلغت قيمة العجز نحو خمسة مليارات دولارا، رغم ارتفاع حجم الضرائب على الرواتب والضرائب غير المباشرة على استهلاك السلع والخدمات، وكان شُيُوخ الخليج قد وعدوا ملك المغرب (كما ملك الأردن) بدعم مالي، بقي وهْمِيًّا أو افتراضيًّا، ولم يوف الخليجيون بوعودهم، للسنة الثالثة على التوالي…
يمكن تلخيص الوضع، بنهاية النصف الأول من سنة 2020، من خلال برقية لوكالة “رويترز”، تَضَمّنَتْ بيانات رسمية، إذ توقعت “المندوبية السَّامِيَة للتخطيط” (جهاز رسمي) يوم الأحد الخامس من تموز/يوليو 2020، انكماش الإقتصاد، بسبب تَبِعات جائحة “كوفيد 19″، وكتبت وكالة رويترز ( 07/07/2020) أن الديوان الملكي يتوقع أن تبلغ نسبة عجز الميزانية 7,5% وأن يَنْكَمِشَ اقتصاد البلاد (أو النّاتج الإجمالي المَحَلِّي)، سنة 2020، بنسبة 5%، أي أن يكون النّمُو سلْبِيًّا بنسبة 5%، مقارنةً بسنة 2019، بسبب انخفاض الإستثمارات الأجنبية، وانخفاض إيرادات الصادرات والسياحة والتحويلات المالية للمغاربة المقيمين بالخارج، واقترضت الحكومة أكثر من أربعة مليارات دولارا، من الخارج، خلال النصف الأول من سنة 2020، ليس بغرض استثمارها في قطاعات منتجة، وإنما لتمويل عجز الميزانية، ويتوقع المصرف المركزي المغربي ارتفاع الدّيْن الحكومي من 65% سنة 2019، إلى 75,3% من الناتج الإجمالي المحلي، سنة 2020، وهي توقّعات دون الواقع، بحسب بعض وسائل الإعلام والنقابات المغربية…
الفقر في المغرب:
تتضمّن هذه الفقرة مُلخّصات لمحتوى العديد من التقارير، وفق تسلسلها الزمني، بين أيار/مايو 2019 و 15 آب/أغسطس 2020، ورغم طول هذه الفقرة، فإن قراءتها تُبَيِّنُ التدهور السريع للوضع، مع غياب أُفُق معالجتِهِ من قِبَل الحكومة، التي يُديرها الإخوان المُسلمون، ويُشرف عليها القَصْر المَلَكِي.
أشار تقرير نشرته الأمم المتحدة في شهر أيار/مايو 2019 عن الفقر، إلى أن المغرب هو أحد أهم البلدان العربية التي يعاني سُكّانها من الفقر، بتصنيفاته الثلاث (من الفقر المُدْقع والفقر متعدد الأبعاد إلى الفقر النّسبي)، وتصل نسبة الفُقراء والمُهَمَّشين إلى حوالي 60% من السّكّان المحرومين من عدد من الحُقُوق، كالتعليم والصحة والحق في العمل والسكن، وغير ذلك، ويحتل المغرب المركز 123 في تصنيف مؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة (من إجمالي حوالي 189 دولة في العالم، سنة 2018)، وتُشير تفاصيل التّقرير إلى حرمان أطفال الفُقراء من وسائل الترفيه والمُطالعة، وإلى تسَرُّبهم من المدارس، للعمل ومساعدة الأسرة، وقدرت اليونسكو أن 7,5% من الأطفال يُغادرون المدرسة، قبل نهاية مراحل التعليم الأساسي، وأن نحو 2,5 مليون طفل، معظمهم من الفتيات الريفيات، محرومون من الذهاب إلى المدرسة، وأن 83% من النساء في المناطق الريفية لا يزلن أميات، ويؤدّي الفقر وحرمان البنات الفقيرات من التعليم إلى ارتفاع حالات الزواج المبكر للقُصّر، لِيَبْلُغَ معدلها 16% من حالات الزواج، بينما لا تتجاوز النسبة 2% في تونس و 3% في الجزائر، ولا تتجاوز نسبة الذين تمكّنوا من الدّراسة في التعليم العالي 32%، فيما تفوق النّسبة 81%، في أوروبا الشمالية، على سبيل المُقاربة…
يُقَدِّرُ التقرير أن 18% (ستة ملايين مواطن يعانون الفقر المدقع)، أو حوالي مليون مغربي ومغربية يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم، وأن خمسة ملايين مغربي يعيشون بأقل من دولارين في اليوم (بنهاية سنة 2019)، وفقًا لتقرير البنك العالمي، ويعيش حوالي ثمانية ملايين مواطن، أو ما يعادل 25% من السّكان، على عتبة الفَقْر، فيما يتهدَّدُ الفَقْرُ حوالي 40% من السّكّان البالغين، أو حوالي 13 مليون شخص، بسبب احتمال تعرّضهم لفقدان العمل أو للمرض وما إلى ذلك، وتعتمد تصنيفات الفقر متعدد الأبعاد، الدّخل الفردي اليومي، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي السّنوي والحق في التعليم والرعاية الصحية، ونسبة البطالة والأمل في الحياة عند الولادة، ووفيات الأمّهات بسبب الحمل أو الولادة، وتصل نسبة الوفيات في صفوف الأمهات بالمغرب إلى 121 امرأة لكن مائة ألف نسمة، بينما لا تتجاوز في النرويج التي احتلت الصدارة 5 نساء لكل مائة ألف نسمة…
نشرت الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان، بيانات بخصوص نسبة انتشار الفقر في المغرب، ووَرَدَ في تقريرها الذي نُشِر في نيسان/ابريل 2019، إن حوالي 38% من الأطفال المغاربة الذين تقل أعمارهم عن 17 سنة يعانون الفقر متعدد الأبْعاد، فهم محرومون من التعليم، أو لم ينهوا مرحلة التّعليم الإبتدائي، ومحرومون من التأمين الصحي والطّبابَة، ومن المياه النّقِيّة، والسّكن اللائق، وخدمات الصرف الصحي، ويُسْتَشَفُّ من التّقرير تدهور الوضع الإقتصادي والإجتماعي والبيئي والثقافي ( أو ازداد تدهورًا)، منذ 2012، خلال فترة حُكْم الإخوان المسلمين (حزب العدالة والتنمية)، ما أدّى إلى زيادة حجم ونسبة الفقر…
أما “المُنظّمة الديمقراطية للشغل” ( إحدى نقابات الأُجَراء )، فقد أصْدَرَتْ، في بداية سنة 2020، تقريرًا بعنوان “الحصيلة الإجتماعية بالمغرب لسنة 2019″، تَضَمّن مُعطَيات عن الفقر، اعتمادًا على تقارير الأمم المتحدة والبنك العالمي، وأوْرَدْنا بعضًا منها في الفقرات السابقة، ومنها أن تسعة ملايين مواطن كانوا مُهدّدين بالفقر المدقع، سنة 2018، وأن أكثر من 45% من المغاربة “يعانون من الحرمان الشديد”، ونسب التقرير إلى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن 13,2% من المغاربة “معرضون للفقر متعدد الأبعاد” فيما يعاني 25,6% من الفقر المرتبط بالظروف الصحية (المرض مع العجز عن العلاج، والإعاقة…) ويعاني 32,2% من الفقر المرتبط بمستوى المعيشة، و 42,1% من ضُعْف مستوى التعليم، ما يُعيق فُرَصَ التّدريب والتّأهيل واكتساب المهارات الخ.
تَعَرَّضَ تقريرُ المنظمة الديمقراطية للشغل إلى اتساع الفجوة بين الأثرياء والفُقراء، وهبوط مستوى عيش الأُجَراء والفئات المتوسِّطَة، وإلى التفاوت الطبقي بين خُمُس ( 20% ) السكان الأكثر ثراءً، وخُمُس (20% ) الموطنين الأشَدّ فقرًا، وأن 5% من السّكّان يستحوذون على نسبة 40% من الناتج المحلي الإجمالي، واستَنْتَجَ تقرير الإتحاد النقابي (المنظمة الديمقراطية للشغل) أن المغرب يعرف أعلى مستوى للفوارق في المغرب العربي، إذ تضاعف حجم الناتج الإجمالي المحلي، ثلاث مرات، خلال عِقْدَيْن (من 1990 إلى 2019)، إلا أن 10% من الأكثر ثراء، يتمتعون بمستوى معيشة أعلى 12 مرة، من مستوى معيشة 10% لأكثر فقرا، وهو فارق لم يتراجع منذ 1990، بحسب النقابة التي أكّدَ تقريرها على انخفاض القيمة الحقيقية للرواتب، وعلى الفوارق الهامة في الرواتب والمعاشات حيث تتجاوز رواتب ومُكافآت الفئات العُليا (مُديرين وموظفين حكوميين سامين) 35 مرة الحد الأدنى للأجر والمعاش، مع استمرار الضغط الضريبي على الأجور والمرتبات والاقتطاعات، التي تُشكل نحو 80% من إيرادات الرّسُوم والضرائب التي تَجْبِيها الدّولة، عبر الضرائب غير المباشرة، والضريبة على الدّخل، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والخدمات الأساسية، بينما لا تُشكل الجباية من الشركات و”الأعمال الحُرّة”، ومن الأثرياء، سوى 20% من إجمالي إيرادات الرُّسُوم الضّرِيبية…
أما بخصوص الطبقة العاملة، فقَدّر التقرير النقابي أن 72% من العمال والعاملات بالقطاع الخاص، محرومون من عقود العمل، ولا يُصرح أرباب العمل “للصندوق الوطني للضمان الإجتماعي”، سوى بثلاثة ملايين ونصف مليون عاملة وعامل، من إجمالي 11 مليون من العاملين بالأجر، وتَتَواطَأُ الحكومة مع أرباب العمل الذين لا يحترمون القوانين المحلية، ولا يُطبّقون مضمون اتفاقيات منظمة العمل الدولية بخصوص تحقيق المُساواة في الأَجْر، وظروف العمل الخ.
نشرت الأمم المتحدة تقريرًا، يوم الخميس 02 نيسان/ابريل 2020، بعنوان “التأثير الاجتماعي والاقتصادي لوباء كوفيد19 على المغرب”، اعتمد بيانات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، واللجنة الاقتصادية لإفريقيا، والبنك العالمي، ويتوقع مُحرّرو التقرير أن ترتفع نسبة الفقر في المغرب إلى 27%، وأن يلتحق عشرة ملايين مواطن بصفوف الفُقَراء، بسبب “ارتفاع الإنفاق الإجتماعي والاقتصادي المرتبط بكوفيد 19 وانخفاض الإيرادات الضريبية، خاصة من ضرائب شركات النّقل والتّجارة والسّياحة والخدمات اللوجيستية، وسوف يَتأثّرُ المواطنون القريبون من خط الفقر، لينخفض دخل الأسرة الواحدة إلى حوالي 5,5 دولارا، يوميًّا (أو حوالي 56 درهمًا مغربيا) ويلتحق هؤلاء بصفوف الفُقراء، مع الإشارة أن الأُسْرة التي تُنفق 3,2 دولارا يوميا (33 درهما مغربيا) تُعدّ في باب “الفُقر المُدقع”، ويتوقّع مُعِدّو التقرير أن “يلتحق حوالي 300 ألف مغربي إضافي بصفوف الفقراء”، وأن يتضرر الاقتصاد المغربي بشدة، بسبب الجفاف، وانخفاض النشاط الإقتصادي، مُتأثِّرًا بتبَعِيّتِهِ لأوروبا، الشريك التجاري الرئيسي للمغرب، واعتماد الاقتصاد المغربي بشكل كبير على صادراته إلى أوروبا، وعلى السياحة والاستثمار الأجنبي المباشر…
في منتصف شهر آب/أغسطس 2020، أكّدَ تقرير مشترك صادر عن المندوبية السامية للتخطيط ومنظمة الأمم المتحدة والبنك العالمي، بعنوان “مذكرة استراتيجية بشأن الأثر الاقتصادي والاجتماعي لجائحة كوفيد 19″، زيادة حدة الفقر في المغرب، وارتفاع عدد المتضررين من جائحة الفيروس التّاجي “كورونا” إلى أكثر من مليون مواطن، وأن يصل معدل انتشار الفقر إلى 20% بنهاية سنة 2020 (بدل نسبة 18% التي كانت متوقعة في شهر نيسان/ابريل 2020)، بسبب ارتفاع عدد العمال غير الرسميين، الذين يفتقرون إلى شبكات التأمين الاجتماعي والصحي، والمُعَرَّضِين للبطالة وللفقر والمرض، وأشار التقرير، من خلال مَسْحٍ وطني (نيسان/ابريل 2020) إلى تخلّي 30% من الأسر على خدمات الاستشارة قبل الولادة وبعدها (33%في المناطق الريفية)، كما اضطرت 36% من الأسر إلى التخلي عن خدمات تطعيم الأطفال ضد بعض الأمراض الخطيرة كالشلل (43% في المناطق الريفية مقابل 31% في المناطق الحضرية، وهي بعض مُؤشّرات الفَقْر…
المغرب في ظل حقبة “العَوْلَمة”:
سبق أن تَدَخّل صندوق النقد الدّولي، في بداية عقد الثمانينيات من القرن العشرين، إثْرَ عَجْزِ الدولة المغربية عن تسديد القيمة المُرتفعة لخدمات الدّيْن الخارجي، للمصارف وللدّول الأجنبية الدّائِنَة، وفَرَضَ صندوق النقد الدولي برنامجًا ل”الإصلاح الهيكلي” لفترة عشر سنوات، من 1983 إلى 1993، وتَضَمّن تطبيق “الإصلاح الهَيْكَلِي” خصخصة القطاع العام والمرافق، وخفض الإنفاق الإجتماعي وتجميد الرّواتب وخفض قيمة دَعْم المواد والخَدمات الأساسية، وكان ذلك سببًا مُباشرًا لانطلاق ثلاث انتفاضات شعبية، خلال عقد واحد، وشمل “برنامج الإصلاح” القطاع الفلاحي (خفض دعم صغار المزارعين، و”تحرير” القطاع) ما أدّى إلى إفلاس العديد من صغار الفلاحين، واستحواذ الشركات الرأسمالية على الأراضي الخصبة والمياه، وتوسيع رقعة زراعة الإنتاج النباتي والحيواني، المُعَدّ للتصدير، بدعم من الدّولة، ثم انضَمّ المغرب، سنة 1995، إلى منظمة التجارة العالمية، وَوَقَّعَ اتفاقيات “التبادل الحر”، دخلت حيز التنفيذ سنة 2000 مع الاتحاد الأوروبي، وسنة 2006 مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهي نموذج لعلاقات الهيمنة الإستعمارية، وللتّبادل غير المتكافئ، وتسمح هذه الإتفاقيات للشركات العابرة للقارات بالإستثمار في أي قطاع بالمغرب، مع خُرُوج الأرباح، وهي (الإتفاقيات) إحدى أسباب تهديد أو فقدان الأمن الغذائي، وارتفاع عجز الميزان الغذائي، خلال الفترة 2008 – 2018، وزيادة توريد الحبوب، وتَخَصُّص الفلاحة المغربية في تصدير الطماطم والحمضيات، غير المُصَنَّعَة، مع بقاء القسم الأكبر من قيمة الصادرات بالمصارف الأجنبية…
ضرورة التكامل الاقتصادي المغاربي والعربي:
بعد تسع سنوات من انتفاضة تونس، ومحاولات الإنتفاض في الجزائر والمغرب، وانهيار نظام ليبيا، لم يتحسن وضع المواطنين في أي بلد مغاربي، من موريتانيا إلى ليبيا، بل ساءت حال الأغلبية من المواطنين والفُقراء، ورغم العوامل الدّاخلية المُساعِدة، واستعداد مواطني المغرب العربي لتطوير العلاقات بين البلدان الخمسة، لم تتطور المبادلات بين البلدان المغاربية، في أي مجال، لا الثقافي ولا الإقتصادي، باستثناء السياحة، حيث يُشكّل المواطنون الجزائريون والليبيون نصف عدد زائري تونس. أما العلاقات التجارية وتبادل الإنتاج المحلي، فإن قيمة التجارة البَيْنِيّة بين البلدان الخمسة، لا تتجاوز نسبة 5% من إجمالي التجارة الخارجية لهذه البلدان.
تكمن المشكلة الرئيسية في نمط النّمو وفي سياسة التّبَعِيّة السياسية والإقتصادية تجاه القوى الإمبريالية، والحواجز السياسية التي تُعرقل التكامل الإقتصادي المغاربي أو العربي أو الإفريقي…
يدعو الإتحاد الأوروبي إلى التكامل الإقتصادي المغاربي، ليس من أجل مصلحة الشعوب أو البلدان في المغرب العربي، ولكن من أجل تخفيض جلسات التفاوض، مع أربعة أو خمسة حكومات إلى طرف واحد، ومن أجل خلق سوق كبيرة، يفوق عدد سُكّانها مائة مليون نسمة، لتُرَوّج أوروبا بضائعها، خصوصًا بعد الإمتيارات الكبيرة التي حصلت عليها أوروبا وشركاتها، من خلال اتفاقيات الشراكة، ولكن جوهر دعوة الإتحاد الأوروبي يختلف عن دعوة المواطنين المغاربيين والعرب لإنشاء سوق مغاربية، كخطوة لتأسيس تكامل اقتصادي شامل، وسوق عربية واحدة، قادرة على تحفيز النمو وخلق وظائف، وخفض حِدّة الفقر ( أما القضاء على الفَقْر فأَمْرٌ آخر)، شرط أن لا تُهيمنَ الشركات الإحتكارية والقوى الإمبريالية على هذه السوق الموحدة، التي يتجاوز عدد سُكانها في المغرب العربي مائة مليون نسمة، ويتجاوز سكان البلدان العربية نحو 340 مليون نسمة، ولكن نسبة التبادل التجاري بين هذه البلدان لا تتجاوز 3% بين بلدان المغرب العربي ونحو 5% بين الدول العربية، من إجمالي حجم مبادلاتها التجارية، وهي أقل منطقة تُمارس التكامل الإقتصادي فيما بينها، بعد تسع سنوات من الإنتفاضات العربية سنة 2011، “رغم التاريخ واللغة والإمتداد الجغرافي” بحسب “كريستين لاغارد”، المديرة التنفيذية السابقة لصندوق النقد الدّولي، منتصف تشرين الثاني/نوفمبر 2019، أثناء تقويم نتائج إقامة طويلة (على حساب المواطنين) لوفد من صندوق النقد الدولي في المغرب والجزائر وتونس، خلال شهر تشرين الأول/اكتوبر 2019.
لا يُمكن التّعويل على الحُكومات والأنظمة، لتحقيق التكامل المغاربي أو العربي، أو الإفريقي، بل يتطلب ذلك نقاشًا وتنسيقًا بين الأحزاب والنقابات والمنظمات الأهلية (المحلّية، ولا نعني بذلك المنظمات المُمَوّلَة أجنبيًّا)، وضَغْطًا شعبيا، عبر استخدام كافة الوسائل المُتاحة…
يُعتَبَرُ المغرب وتونس نُمُوذَجَيْن متشابهَيْن لعلاقات التبعية والهيمنة، التي برزت نتائجها السّلبية بسرعة وبوضوح، وتُبَرِّرُ حُكومتا الإخوان المسلمين، منذ 2012، علاقات التبعية، وتتأقلم معها، وتطلب من المواطنين أن يُطيعوا “أولياء الأمر”، أي الحُكّام، مع إهمال “آيات الإنذار لمن يكنِزون الذّهَبَ والفِضّة”، وأطنَبُوا في ذِكْر الثّري “عثمان بن عفان” (الذي يعتبره إخوان تركيا زعيمهم الرّوحي) وأهمَلُوا ذِكْر “أبو ذَرّ الغَفارِي”، ما يُبَرِّرُ الثورة ضدّهم، وضد أنظمة التّبَعِيّة التي يُجسِّدُونها، وإرساء نظام يُطبّق مبدأ “من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته”.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.