قراءة سياسية لواقع فلسطيني مأزوم ومُربَكْ! محمد العبد الله

مدخل

– إن محو الاستعمار إنما هو نزال بين قوتين متعارضتين أساساً، قوتين تستمد كل منهما صفتها الخاصة من ذلك التكوين الذي يفرزه الظرف الاستعماري ويغذيه”

  المناضل الأممي الطبيب ” فرانز فانون ” – كتاب ” معذبو الأرض”.

  ليس جديداً في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، ظهور الأزمات الداخلية وارتباطها بالعوامل الذاتية أو الموضوعية، منذ أن واجه الشعب الفلسطيني موجات المستعمرين الأوائل في العقود الأولى من القرن العشرين، خاصة، مع ظهور التباينات بين الإطارات السياسية – الأحزاب والوجهاء “ممثلو الإقطاع” وقوى ثورية تعتمد على الكتلة الشعبية الريفية – لتحديد العلاقة مع المُستعمر البريطاني، ومن ثم كيفية مواجهة الغزو المنظم للحركة الصهيونية الذي تم تحت مظلة حكومة الانتداب، وصولاً لنكبة عام 1948 بكل ما نتج عنها.

إصرار البعض على وضع العربة أمام الحصان!!

  تضمنت البيانات الصادرة عن القوى المشاركة في جولات الحوار المتكررة، كما تصريحات قياداته، متلازمات لغوية تحمل في مضامينها تشديداً على أهمية الحفاظ “النظام السياسي الفلسطيني ورفض “الانقسام” والعمل على تحقيق “الوحدة الوطنية”.

عند الحديث عن مكونات هذا النظام، خاصة ما يرتبط بمنظمة التحرير ومؤسساتها، نجد واقعاً موضوعياً؛ يؤكد أن تلك المؤسسات قد استنفذت شرعيتها حسب أنظمتها الداخلية، ناهيك عن تكلسها وجمودها منذ سنوات طويلة، لأن “هذا النظام بكل مكوناته، وبغض النظر عن فروقات محدودة، يعيش ومنذ سنوات، حالة شيخوخة” 1. أما الكلام المكرر عن “حالة الانقسام” والاكتفاء برفضه وشجبه فقط، دون التوقف على أسبابه؛ السياسية، الكفاحية، التنظيمية والإدارية، خاصة، الموقف من اتفاق إعلان المبادئ “اتفاق أوسلو” الذي أصاب النضال التحرري لشعبنا في مقتل، فإنه سيؤدي إلى الإبقاء الدائم على حالة “إدارة الانقسام”، وليس معالجته وإنهائه على قاعدة البرنامج الذي يجب أن تنطلق منه الإجابة على السؤال المركزي: هل نحن في مرحلة التحرر الوطني؟ أم بناء السلطة / الدولة؟

يكتب ” مجد كيال” واصفاً الاتفاق بـ” كارثةً دمويّة “؛ مضيفاً “لم تكن أوسلو خدعةً ولا خطأً. كانت تتويجاً لتدهورٍ ظهرت بذوره الأولى في النقاط العشر (1974)” 2.

إن جوهرة النضال التحرري لشعبنا ولكل الشعوب التي تُقاوم الغزو والاستعمار، تتلخص في بناء الأداة الكفاحية الموحدة؛ “السياسية والعسكرية والجماهيرية” التي تقود المعركة الوطنية الكبرى لتحرير الأرض والإنسان. وقد علمتنا تجربتنا، كما تاريخ الحركات الثورية، أن النوايا الحسنة لا تكفي لقيام الجبهة الوطنية المتحدة، كما أن “التجميع العددي” لا يعني تشكيل الإطار الوحدوي. إن الاتفاق على تشخيص المرحلة التي نخوضها “مرحلة التحرر الوطني” وصياغة الرؤية السياسية الاستراتيجية، وبرنامج النضال المرحلي، هو الكفيل ببناء الأسس التي تقوم عليها منظمة تحرير حقيقية؛ تناضل من أجل تحقيق أهدافها التي تشكلت على أساسها؛ “وحدة وطنية؛ تعبئة قومية؛ تحرير”، ومُجَددةً التزامها ببنود الميثاق القومي/الوطني.

   انقلاب أم انكشاف المستور؟

    إعلان سلطة الحكم الإداري الذاتي المحدود يوم 17 تشرين الثاني / نوفمبر 2020 عن “إعادة مسار العلاقة مع اسرائيل”، كما كان عليه الحال قبل 19/5/2020″، كما جاء في تصريحات “حسين الشيخ” عضو اللجنة المركزية لفتح؛ رئيس الهيئة العامة للشؤون المدنية الفلسطينية/برتبة وزير؛ أعاد فتح “المعارك الإعلامية” والسجالات السياسية داخل المشهد السياسي، فما بين النقد الجذري لمضمون ذلك الموقف وانعكاساته الداخلية والإقليمية، والإدانة اللفظية التي شجبت تلك التصريحات ودعت للعودة عنها، لكن، بالحفاظ على الالتزام بمخرجات المهرجان الخطابي/ اللقاء الذي جمع على الهواء من بيروت ورام الله الفصائل والحركات يوم 3 / 9 /2020؛ تراوحت مواقف القوى، لكن اللافت فيما تسرب من لقاءات الفصائل التي تداعت لسلسلة لقاءات ثنائية وخماسية في دمشق على إثر “حركة انقلاب السلطة على التفاهمات”؛ أن ممثل أحد الفصائل كرر لأكثر من مرة “النقد والإدانة ضرورية، لكن وقف حوارات المصالحة؛ بسبب العودة المعلنة للتنسيق الأمني، لا مبرر له، طالما أننا دخلنا على مدى سنوات الحوارات مع السلطة وفتح، الممتدة على أكثر من عقد ونيف، وهم ملتزمون بذلك التنسيق… فما مُبرر وقف الحوار معهم الآن”. وقد جاء حوار “صالح العاروري” نائب رئيس المكتب السياسي لحماس ومسؤول ملف الحوار مع فتح، على قناة الحوار يوم 25/11/ 2020، خاصة رده على سؤال عن احتمال وقف الاتصالات والحوار مع فتح/السلطة، ليصب الماء في ذات المجرى: “نحن سنستمر في التواصل مع فتح ومع كل الفصائل للخروج من هذا الخلاف والعودة إلى مسار استعادة الوحدة الوطنية إن شاء الله “؛ مستبعداً في جوابه على سؤال المحاور عن إمكانية قيام تحالف فلسطيني في هذه المرحلة بعيداً عن فتح/ السلطة”. لسنا في وارد إنشاء جبهات ضد جبهات ولا فائدة من هذا… أنا أقول زمن الجبهات المتقابلة؛ فصائل عشرة، مقابل الفصائل العشرة لا فائدة من هذا. نحن نتواصل في كل يوم ولم تنقطع الاتصالات بيننا”. لكن القراءة المُعمقة للمقال الذي كتبه؛ مدير مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات الدكتور “محسن صالح” القيادي في “حماس” والمنشور يوم 4/12/2020؛ تُشير إلى بروز وجهة نظر أُخرى داخل الحركة الإسلامية، يُعبّر عنها الكاتب بقوله: “أثبتت التجربة أن الحديث عن “شراكة استراتيجية” لقوى المقاومة مع قيادة فتح الحالية هو مجرد حديث رغائبي؛ وأنه ما لم يتم الوصول أولاً إلى برنامج سياسي؛ قائم على المحافظة على الثوابت، والخروج من اتفاقات أوسلو واستتباعاتها، وفتح أطر منظمة التحرير التشريعية والتنفيذية لشراكة فلسطينية حقيقية جادة تعكس أوزان القوى الفلسطينية… ما لم يحدث ذلك، فإن الحديث عن هكذا شراكة هو مجرد “عبث”، وعدم احترام لعقول شعبنا الفلسطيني” 3.

  لهذا، فإن ما شهدته اللقاءات الفلسطينية الأخيرة بدمشق، كما نقل أكثر من قيادي فلسطيني لكاتب هذه السطور، بالإضافة لما تحدث به القيادي “العاروري” لفضائية الحوار؛ تأخذ المتابع للشأن الداخلي الفلسطيني لاستنتاج واضح: سنعود للحوارات، لا بدائل. بمعنى، ليس هناك تفكير جدي لفصيل أو اثنين للدعوة لطاولة حوار فلسطينية، تضم ممثلين عن الفصائل وعدد من المثقفين والنُشطاء من فلسطين المحتلة والقطاع ومخيمات الشتات وبلدان اللجوء من أجل بناء إطار أو هيئة للعمل على بلورة موقف سياسي وكفاحي؛ يُعبر عن رؤية سياسية، مقابل مسار آخر مُناقض يعمل عليه فريق السلطة في رام الله.

بالعودة لمقال الدكتور “محسن صالح”؛ تُبرز لنا في فقرة أخرى وجهة النظر المتعارضة مع ما تحدث به “العاروري” للقناة الفضائية، حول بناء الأطر والتحالفات؛ يكتب الدكتور “صالح” “… في الوقت نفسه، يمكن لقوى المقاومة السير في خطٍّ موازٍ من خلال إنشاء أطر وتحالفات وجبهات عمل وطنية، وعدم انتظار قيادة السلطة وفتح، للحفاظ على الثوابت، وتطوير أداء المقاومة بكل صورها وعلى رأسها المقاومة المسلحة… وتشكيل حالة فلسطينية شعبية واسعة وضاغطة لدفع قيادة السلطة وفتح للتماهي مع الإرادة الشعبية الفلسطينية في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، على أساس الاستيعاب الفعال للكل الفلسطيني، وفق برنامج وطني للتحرير” 4.

من تخدم سياسة المراوحة بالمكان

يبدو أن الفصيلين الأساسيين في المشهد الفلسطيني اللذين يتحكمان بالحركة السياسية، كُلٌ حسب رؤيته، قد أصابا القوى الأخرى التي تحولت في غالبيتها، صدىً لتلك الحركة. وإذا كانت السنوات الأخيرة – منذ ترسيم الانقسام – قد حملت للشعب الفلسطيني صدمات عنفية؛ من حيث مستوى الأداء السياسي والعلاقات الداخلية والإقليمية الذي ترافق مع انحسار وضمور في التواجد التنظيمي للقوى والفصائل، لكنها بالجانب الآخر؛ أضافت تراكمات نضالية بارزة ظهرت في العمليات الاستشهادية الفردية؛ سواء بالسلاح الناري أو الأبيض أو الدهس بالسيارة، والانتصار الكبير في القدس المحتلة “معركة البوابات الالكترونية”، والمسيرات الشعبية من الصامد باتجاه الجزء المحتل من الوطن، وإطلاق مئات البالونات الحارقة والمتفجرة نحو المستعمرات المحاذية للقطاع، وفي الرد الصاروخي المنطلق من غزة أثناء الاعتداءات الوحشية المتكررة لجيش الاحتلال الذي ضرب المستعمرات “المدن والمراكز” اليهودية / الصهيونية في العمق المُحتل منذ عام 1948.

 استنتاج

  الواضح أن الكمون الرافض لكل المظاهر السلبية، العاجزة والمُتكلسة في البنى السياسية الراهنة، قد بدأ يُعَبّر عن حركته من جديد بظواهر وأشكال لافتة، يمكن مقاربتها مع أشكال الرفض الشعبي فور إعلان اتفاق أوسلو؛ حينها، بدأت في مناطق التجمعات الفلسطينية على امتداد المعمورة “حركة اللاجئين” كردٍ على إسقاط قضيتهم من اتفاق أوسلو الكارثي، هذه الحركة التي تحتاج لقراءة نقدية لتجربتها وواقعها اليوم من أجل إعادة تجميعها واطلاقها بشكل يخدم القضية، ويُخرجها –عدد منها- من بازار المنافسة والمحاصصة، لكن اللافت منذ سنوات؛ بروز أشكال جديدة من التحركات داخل فلسطين وخارجها، منها: الحراك الشبابي؛ الهيئات النقابية المستقلة؛ التجمعات المهتمة بحرية التعبير، وأخيراً المؤتمر المقترح  للمسار البديل؛ لهذا، فإن البيئة الحاضنة لثقافة المقاومة؛ الرافضة لكل أشكال التنازلات والمتمسكة بالثوابت التي التف حولها الشعب الفلسطيني، كما جاءت في الميثاق؛ ما زالت هي الخزان الذي يرفد ساحات المواجهة السياسية والثقافية والميدانية في مواجهة نهج التفريط؛ المُراهن بشكل عبثي على إدارة أمريكية جديدة – هي امتداد لنهج أوباما ولسياسة الحزب الديمقراطي المنحازة لكيان العدو – يمكن لها أن تعيد للمفاوضات “الحياة”!

  خاتمة

ليس هناك أبلغ من قول الشهيدين الذين قَدَّما حياتهما “ثلاثة عقود ونيف”، بدمائهما وأجسادهما التي مزقتها نيران العدو، بالتفجير أو الاشتباك المباشر؛ من أجل تحرر الوطن من الغزاة بالدعوة لنهج الكفاح المسلح، لأنه أقصر وأنجع الطرق لمواجهة المستعمرين وطردهم.

 “إذا كنّا مدافعين فاشلين عن القضية… فالأجدر بنا أن نُغيّر المدافعين… لا أن نُغيّر القضية”

  الشهيد المثقف والقائد السياسي غسان كنفاني

“كل ثمن تدفعُه في المقاومة إذا لم تحصده في حياتك، فستحصل عليه لاحقاً، المقاومة جدوى مستمرّة”

 الشهيد المثقف المشتبك باسل الأعرج

هوامش:

 1 عن النظام السياسي الفلسطيني … وحديث المأزق / صادق الشافعي – جريدة الأيام

 2 – يتامى أوسلو”غلطة وندمان عليها ”   https://metras.co/

 3 – ماذا بعد أن أدارت السلطة الفلسطينية ظهرها لقوى المقاومة؟https://qudsn.net/post/180870

 4 – مصدر سابق.

:::::

بوابة الهدف الاخبارية

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.