على هامش اليوم العالمي للغة العربية، شحادة موسى

ظواهر لُغويَّة خطرة

كاتب فلسطيني

كانون الأول/ ديسمبر 2020

                     أرى كل يوم في الجرائد مزلقًا         من القبر يُدنيني بغير أناة              

الشاعر حافظ ابراهيم عن اللغة العربية

في الثامن عشر من كانون  الأول / ديسمبر 1973 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اللغة العربية لغةً رسمية سادسة في المنظمة. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2012 تقرر في منظمة اليونسكو اعتماد ذلك التاريخ يومًا عالميًا للغة العربية؛ فيجري على مستوى العالم الاحتفال بهذا اليوم من كل عام بهدف تأكيد أهمية اللغة العربية ومكانتها، وتعزيزها محليًا ودوليًا.

وفي هذا العاماختارت اليونسكو شعارًا للاحتفال، “مجامع اللغة العربية ضرورة أم ترف”، تأكيدًالدور المجامع في صون اللغة العربية وحمايتها خصوصًا في ظل تراجعها أمام استخدام الإنجليزية والفرنسية، والدعوة الى استخدام اللهجات المحلية أو ما يسمى اللغة العاميَّة. وفي الدول العربية جرى الاحتفاء بهذه المناسبة على نطاق واسع، وتحدثت شخصيات مرموقة عن اللغة العربية وأصالتها وأهميتها الحضارية، وعن ضرورة الحفاظ على الفصحى وتعزيزها في مقابل الدعوات القديمة الجديدة الى تقديم العاميَّة.

 ويجدر التنويه في هذا الشأن بمقالة كتبتها الأكاديمية خديجة صبَّار (المغرب) في جريدة راي اليوم (20 -12- 2020). فقد بدأت المقالة بعبارة للفيلسوف الألماني (هيدجر) تقول: “اللغة مسكن الوجود، فيها يُقيم الإنسان، وأهم ما يميِّز الأقوام، وعنصرٌ رئيس للهوية الوطنية والتقدم”. واستشهدت بالمفكر عبدالله العروي وقوله: إنَّ الإمساك بزمام المصير يبدأ باللغة، واعتمادُ الفصحى ضروري في ما هو فكري، وتأملي، ورمزي، أكان أدبَا أو فلسفة، أو علمًا أو تقنية.

وذهبت صبَّار في تحليل معمَّق للغة العربية ودورها الحضاري، وتوقفت أمام ما تتعرض له الفصحى من بعض النُخب التي تدعو الى العاميَّة المحليَّة في الكتابة، وخلصت الى أنَّ مسألة الانبعاث الثقافي مفروضة على العرب بسبب تاريخهم، وأنَّ هذا يتطلب تجديد اللغة وتطويرها وتحويلها الى لغة وظيفيَّة للكلام والكتابة لاستيعاب المستجدات العلمية والتقنية، ممَّا يؤدي الى تعزيز مكانتها والحفاظ على هذا الكنز الحضاري.

وعرض عماد الدين حسين، رئيس تحرير جريدة “الشروق” المصرية، صورة مُحزنة عن واقع اللغة العربية وقال: يندر وجود مسؤول يتحدث العربية بطريقة سليمة، وهناك آباء يتفاخرون بإجادة أبنائهم اللغة الانجليزية؛ وذكر أنه في مؤتمر طبيٍّ عربي أصرَّت إحدى المشاركات من دولة في الجزيرة العربية حيث نزل القرآن، على التحدث بالإنجليزية مع أن الحضور عرب ورئيس المؤتمر طلب منها التحدث بالعربية.

ما ذكره الكاتب عن المسؤولين والمباهاة بالانجليزية يشير على الأرجح الى مصر؛ فيكفي أنْ تستمع الى رئيس مجلس النواب أو الى أحد القضاة وهو يتحدث الفصحى حتى تشعر بالصدمة والمتحدث يبعثر الحركات كيفما اتفق، فلا تعرف الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المنصوب او المجرور. أمّا عن تَحدَّث الأبناء بالانجليزية أو الفرنسية على حساب العربية، فذلك أصبح ظاهرة عامة في البلدان العربية حيث تنتشر المدارس الأجنبية، ولغة التدريس فيها الإنجليزية او الفرنسية.

ولكن، وعلى أهمية ما قيل في هذه المناسبة، فإنَّ هناك قضايا لم يجرِ التطرُّقُ إليها مع ما تحمله من مخاطر على اللغة العربية وعلى الأمة العربية ذاتها.

من أخطر هذه القضايا دور الصهيونية في العمل على تفكيك الأمة العربية، والحطِّ من قيمة اللغة العربية بوصفها الأداة الحضارية والتعبير الثقافي للأمة العربية. إنَّ الصهيونية مجسَّدة بالكيان “الإسرائيلي” تدرك أنَّ الإيمان بوجود أمة عربية، وبانتماء الكيانات السياسية العربية إلى هذه الأمة، يُلزم حكامَها بالحفاظ على أرضها وعدم التفريط بأي جزءٍ منها. وممَّا يجدر تذكُّره هنا أنَّ أنور السادات حين اعترف “بإسرائيل” وتنازل عن أرض فلسطين العربية قال، من بين ماقاله، إنَّ المصريين فراعنة وليسوا عربًا. وشبيه بذلك الحكام العرب الذين يعترفون “بإسرائيل” اليوم، وما يسوقونه من تبريرات لانسلاخهم عن عروبة الأمة العربية وتنازلهم عن فلسطين، بأن ذلك قرار سيادي ولمصلحة خاصة.

ولم يعد خافيًا أنَّ إسرائيل تتدخل لدى المكوِّنات الإثنية في المشرق العربي ومغربه وتشجعهاعلى الانفصال والخروج من كيان الدولة، والانعزال الثقافي واللُغوي بالدعوة الى نزع الصفة العربية عن مسمَّى الدولة، وأن لا تكون لغتها الرسميةالعربية منفردة.

وفي هذا الإطار تجري محاولة فسخ اللغة عن الأمة والقول إن اللغة العربية لا تعبِّر عن هوية الأمة العربية أو عن وجودها،ويقدم القائلون بذلك سندًا لزعمهم من أميركا الجنوبية حيث تتحدث شعوبها لغةواحدة (الإسبانية)وهم أمم مختلفة.

وهناك قضية الإعلام وخطورة الدور السلبي لوسائله على اللغة العربية.فمن الطبيعي أنْ تتجه الأنظار الى وسائل الإعلام، المقروءَة والمرئية، والتعويل عليها في المساهمة الإيجابية للحفاظ على اللغة العربية وتعزيزها. غير أنَّ الواقع يشير الى غير ذلك.

تجدر الإشارة أوَّلاً الى أنَّ الصحافة المقروءَة تبذل جهدًا ملحوظًا كي تقدِّم للقارئ مادة مكتوبة بلغة سليمة؛ فتوظف محرِّرين ومدقِّقين لُغويين يعملون على ضبط العبارات والألفاظ. ثمَّ هناك النُّقاد الذين يسجلون ملاحظاتهم على ما يقع من أخطاء لُغوية في المادة المكتوبة. ولكنَّ جمهور القَّراء يظل محدودًا قياسًا بجمهور وسائل الإعلام المرئية وخصوصًا بعد ظهور القنوات الفضائية.

وقد تكاثر عدد الفضائيات، وتنوَّعت برامجها، واتسع جمهورها، وأصبح لها تأثير كبير بفضل ما تقدمه من برامج ومشاهد جاذبة للجمهور بفئاته المختلفة. ولذلك ينبغي التركيز على الفضائيات لأن كثيرًا منها يبدو منفلتًا من الضوابط اللُغوية، ويترك لمقدمي ومقدِّمات البرامج الحرية في استخدام اللغة؛ فكثرت الأخطاء اللُغوية واستُحدثت ألفاظٌ تسيئ الى اللغة العربية وتؤذي جمالها وتشوه معانيها. وفي ما يلي نماذج من هذه الأخطاء والتشوهات:

هناك ألفاظ يكثر استخدامها ولكنها تدخل في باب الأخطاء الشائعة التي ينبِّه اليها المختصون؛ إلَّا  أنَّ مقدمي البرامج، والمراسلين ( يشمل التعبير الذكور والإناث) يستمرون في استخدامها، مثل:

كلمة “تواجَدَ” التي يستخدمونها بمعنى يوجد أو موجود، والفرق كبير بين المعنيين: تواجَدَ فلان يعني أظهر من نفسه الوجد أو الحزن؛ أليس من الغريب إذن أنْ تسمع المراسل يقول “أنا متواجد” في المكان الفلاني.

وكلمة “تغطية”التي يستخدمونها بمعني نَقْل أو متابعة؛ فكثيرًا ما نقرأ على الشاشة، أو نسمع مذيعًا يعلن عن “تغطية خاصة” لحدث معين. وكلمة غطاء وتغطية من أبسط الكلمات وأكثرها تداولًا في برامج الطبخ، وتحذيرات الوقاية من البرد؛ غطَّى الشيء يعني سَترَه وأخفاه.

وفي هذا السياق يمكن الإشارة الى تشوُّهات لُغوية تنجم عن استخدام اللهجة العاميَّة في عناوين برامج حوارية سياسية أو ثقافية، وهي لهجة لا تُفهم إلَّا في نطاق محلي محدود، مثل برنامج “وهلق شو” (= وماذا بعد)، أو برنامج “أنا هيك” (= هكذا أنا)، على فضائية لبنانية، مع أن البديل في الفصحى أكثر لُطفًا وغنىً.

غير أنَّ الخطر يأتي ممَّا لا يُصنَّف في باب الخطأ؛ وإنما هو أقرب الى التعدِّي على اللُغة والإساءة اليها، ويستدعي الردع. ومن ذلك استخدام ألفاظ إنجليزية بصيغة الجمع العربية؛ فلا تعود إنجليزية ولا عربية. ومن هذه الألفاظ:

إفنتات“، وهي صيغة جمع عربية للكلمة الإنجليزية event)) بمعنى مناسبة أو حدث. ولفظ “كومنتات”، وهي صيغة جمع عربية للكلمة الإنجليزية (comment) بمعنى تعليق. ولفظ “مَسِجات”، وهي صيغة جمع عربية للكلمة الإنجليزية (message) بمعنى رسالة. أليست الألفاظ العربية “مناسبات، وتعليقات، ورسائل” أيسر في الاستعمال، وأرقُّ في المعنى!

ويبدو أنَّ الشيء الغريب يستتبع مثيله؛ من ذلك مثلاً استخدام لفظ عربي لا هو من الفصحى ولا من العامية، وذلك بإدخال حرف لام الجرِّ (ل) على ضمير الملكية بالعامية؛ وضمائر الملكية هي: لي – لك – له … الخ. وبالعامية هي: إلي – إلك – إلو…الخ. الآن وعلى جميع الفضائيات في لبنان تسمع المذيع أو مقدِّم البرنامج يقول ” شكرًا لَئِلك،وهذا لَئِلنا”،بدلًا من “شكرًا لك، وهذه لنا”، وقس على ذلك. والاستخدام نفسه موجود في الفضائيات السورية، مثلما هو استخدام الأخطاء الشائعة التي أُشير اليها آنفًا؛ وذلك مستغرب على البلد المعروف بإجادة أبنائه عامة للغة العربية.

وقد توسع استخدام هذا اللفظ وأصبح متداولًا لدي فنانين، ومسؤولين، وأكاديميين. فقد استخدمته الأكاديمية رانية المصري وهي تقدِّم المفكر المعروف جوزيف مسعد، وخاطبته “شكرًا لَئِلك”. (كانت المناسبة محاضرة ألقاها مسعد عن بُعد لندوة في بيروت بعنوان إسرائيل عدوٌّ إيديولوجي، دعت اليها مجلة الآداب وحملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان، 6  – 12 – 2020 ).

وبعد، فإن ما ذُكر عن أحوال اللغة العربية، وعن الأخطار التي تحيط بها، والأخطاء التي تسيئ إليها وتشوِّه معانيها، يدعو الى وضع الإجراءات والقوانين التي من شأنها تعزيز اللغة العربية، وضبط استخداماتها، وتردع المسؤولين عن وسائل الإعلام، ومقدِّمي البرامج الإعلامية، عمَّا يصدر من مخالفات، ويكون ذلك تكريمًا عمليًا للغتنا الأُم.  

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.