* القائد الشيوعي الجزائري الفلسطيني عضو مجلس الأممية الثالثة ممثلا لأحزاب العالم العربي ما بين 1936 و 1938
مقتطفات من الجزء الثاني من مذكرات محمود الأطرش
مظاهرة أول ماي 1945
تلقينا إشعارا، قبيل أول ماي 1945، من إدارة النقابات، بالاجتماع صباح أول ماي في صالات وديار السينما للمساهمة في الاحتفال بذاك اليوم. وفيما نحن مجتمعين سمعنا بخبر قيام مظاهرة أتت من شارع ”رندون” في حي القصبة حتى شارع ”ديزلي” سابقا، شارع العربي بن مهيدي اليوم، تحمل العلم الجزائري، قابلتها قوى الشرطة الفرنسية بالرصاص، فقتل شخص وجرح آخرون، وعلى الإثر تفرق المتظاهرون.
خرجت عند سماعي هذا الخبر في الحال، إلى مكان الحادث، وكان لا يبعد كثيرا عن مكان اجتماعنا في سينما “ريجانت” في نفس الشارع، لأرى ولأسمع بما حدث، فلم أجد أحدا من الناس، سوى بعض الأحذية والطرابيش مبعثرة هنا وهناك في الشارع وعلى الأرصفة، ورجال الشرطة الفرنسية يغدون ويروحون. عندئذ رجعت إلى محل اجتماعنا.
خرجنا بعد الاجتماع بمظاهرة للتمركز أمام دار البريد الكبرى مع باقي المظاهرات الأخرى، التي كانت تأتي من مختلف النواحي، لا سيما مظاهرة عمال المرفأ الكبيرة. وأخيرا افتتح الاجتماع بإعلان خبر انتصار الجيوش السوفيتية، التي أصبحت في برلين، عاصمة الرايخ. وقوبل ذاك الخبر بعاصفة من التصفيق الحاد والهتافات بحياة الجيوش السوفيتية.
بعد ما أتم الكاتب العام للنقابات، وكان آنذاك الرفيق روزو، خطابه، أعطيت الكلمة للرفيق بوعلي طالب، عضو الديوان السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الجزائري، الذي بدأ خطابه بمهاجمة زعيم حزب الشعب الجزائري، مصالي الحاج، وكان إذ ذاك أحب رجل في الجزائر للطبقة العاملة وللشعب الجزائري بوجه عام. واعتبره المسؤول عن المظاهرات ودماء الشغيلة التي أراقتها الشرطة الفرنسية صباح ذاك اليوم أول ماي 1945، بقوله ما معناه: “إن الخبيث مصالي الحاج قد دفع العمال والجماهير الشعبية إلى القيام بمظاهرة خارج نطاق النقابات، وتسبب في قتل البعض وجرح الآخرين…” بدلا من مهاجمة، بالدرجة الأولى، الإرهاب الدموي وتعديات الشرطة الفرنسية على جماهير المتظاهرين، التي سببت موت وجرح المتظاهرين العزل … تألمت من ذاك الموقف، ولسماعي ذاك الخطاب، واعتبرته بمثابة إعلان الحرب على “حزب الشعب الجزائري” وزعيمه مصالي الحاج، وعزل حزبنا عن الجماهير العاملة الجزائرية.
توجهت بعد انقضاض المظاهرة إلى مركز الحزب في شارع “موقادور” رقم 41، وكنت أقيم فيه، وهناك وجدت الرفيق بول كاباليرو أمين الحزب الشيوعي، فشرحت له ما جاء في خطاب الرفيق بوعلي طالب، وكان قد ألقاه باللغة العربية، وعقبت عليه بقولي :” إنني أعتبر هذا الموقف تهجما على “حزب الشعب الجزائري” وزعيمه مصالي الحاج، وإعلان حرب على الحركة القومية”، فأجاب: “أجل، وماذا؟” (oui, et puis ?)، فقلت له:” أريد أن أعـرف إذا كان حزبنا سيسير بعد انتهاء الحرب على نفس الخطة، في محاربة القادة القوميين”. تركته وأنا أفكر في نتائج ذاك الموقف، وما سيجره على الحزب من العزلة عن جماهير الشعب الجزائري العاملة، والحركة الوطنية، وما سيجره من متاعب لرفاق القاعدة الناشئين الجزائريين، لا سيما المرتبطين منهم بالجماهيرالشعبية وبالمناضلين القوميين.
حرّف القوميون الجزائريون أقوال الرفيق بوعلي طالب، واتهموه ومعه حزبنا الشيوعي الجزائري بأنه طالب برأس مصالي الحاج، ونسبوا هذا الطلب إلى الرفيق العربي بوهالي، أحد أمناء الحزب، آنئذ.
جر علينا بالفعل هذا الموقف، وبالخصوص على الرفاق الجزائريين المرتبطين بالجماهير الشعبية الجزائرية، مشاكل جمة، زادت في عزلتنا. وكنا خلال مناقشاتنا مع القوميين الجزائريين نرد هجماتهم، من هذه الناحية على حزبنا، بتكذيب هذه الإشاعات، ونقسم لهم بأغلظ الأيمان بأن العـربي بوهالي لم يتفوّه بها في حياته مطلقا، وأن الحزب الشيوعي الجزائري لم ولن يطالب، لا برأس مصالي الحاج، ولا برأس أي مناضل قومي، طالما أن عدونا واحد وهو: الاستعمار الفرنسي وغلاة المعمرين الأوربيين وأعوانهم الإقطاعيين الجزائريين، وأن أهدافنا في كثير من النواحي متقاربة…
محمود الأطـرش في قـلـب الحدث
مظاهـرات ديسمبر 1960 في حي القصبة بـالجزائـر العاصمة
” … كـنا و لا سيما في أوائل شهـر ديسمبـر 1960 نشعـر بتحركات و استعـدادات غـريبة بين الأوروبييـن في الجـزائـر، و سمع حارس العـمارة، كما بلغـنا، الأوروبييـن من مستخدمين و رؤساء عـمل و مهندسيـن يتحدثون عن التأهب للقيام بثورة في الجزائر، و قـد قال أحدهـم:” لـو أصادف في طريقي أحد من يعملـون معـنا من الجـزائريين لأقـتـلـنـه”..
أتينا للعمل كعادتنا في 9 ديسمبر 1960 فـلم نجد أحدا من المستخدمين و رؤساء العـمل الأوروبيين، سوى رئيـس الشغـيلة العـرب و كان من التـقـدمييـن، و على الأثـر بدءنا نتسـرب للطابق السابع، و بقي الحارس واثنان من الشغيلة العرب مع رئيس العمل، و عـقـدنا اجتمعا، بعـدما وضعنا من يراقـب ليحذرنا من قـدوم أحد الأوروبيين، أخذنا نبحث دون نظام عن الأسباب الداعـية لقـدوم الأوروبيين على القـيام بأعمال التمرد هـذا، و مـا يجـب أن نصنع أمامه، و اتـفـقـنا جميعـا على أن الهدف الـذي يرمي إلـيه الأوروبيون هـو منـع الحكومة الفرنسية من القيام بأي حل سلمي للقضية الجزائرية، وعليه فهم يتوجهون ضد حكومتهم قـبل كل شيء، و لـيـس بمقـدورهـم محاربة الجـزائـريين في نـفـس الوقـت، و أخيرا اتـفـق الجميع على أن لا نبادر بمهاجمة الأوروبيين إلا إذا هاجمونا و في حدود الدفاع عـن النفس. و في الحال أخرج أحدهم من بين ثيابه ورقة ليطلعنا على تعليمات الحكومة المؤقـتة للجمهورية الجزائرية في هذا الموضوع الصادرة في أواخر شهر نوفمبر 1960 تصديقا لآرائنا و قد جاء فيها ما معناه:
1) على منظمات الجبهة في المدن الاحتفاظ بسريتها و مضاعفة يقظتها.
2) المطلوب من سكان المدن البقاء على جانب من الحوادث و شجب كل عمل استفزازي وإتباع شعارات الحكومة المؤقتة.
3) على الفـرق المحاربة في المدن أن تكـون على أهـبة الاستعـداد للتدخل في حالة تهديد الفـرق الفـاشية وجنود الجيش السري لسكان المدن وأضفـت إلى ذلك قـولي: يوجد بين الأوروبيين من يعـملـون على استـفـزاز الجزائريين بغـية جرهـم إلى مهاجمة الأوروبيين، و غرضهم من ذلك تأليب الرأي العام و لا سيما في فرنسا على الجزائريين و الثورة الجزائـرية، و إظهارنا بمظهـر الشوفـينيين المتعصبين الدينيين و نزع الصفات الوطنية و الاستقـلالية عن ثورتنا التحررية، و سر الجميع بهذا التفسير و افترقنا على أن نجتمع في اليوم التالي. شاهدت لدى عـودتي إلى المنزل فـريقـا من الطلبة الأوروبيين في حي الأغـا يحاولون اقـتحام دار الشرطة المركزية، و جنود الشرطة تقذف المهاجمين بالقنابل المسيلة للدموع، و كانوا يتراجعون بغير نظام ليعيدوا الكرة من نواحي أخرى، أما في القصبة فـكان الوضع شبه طبيعي، و في اليوم العاشر من ديسمبر قـطعـت المواصلات، و عبثا حاولت التنقل إلى محل العمل للاجتماع بالشغـيلة كما تواعدنا. نظم المستعـمرون ذاك اليـوم عـدة مظاهـرات في مختلـف المدن الجزائرية، و ارتـكـب المـسـتـفـزون من الأوروبيين عـدة اعـتـداءات أجاب الجـزائريون على بعـضها بالمـثـل، و في اليوم الحادي عـشر من شهـر ديسمبـر جاء إضراب الجزائريين كـرد فـعـل على تـلـك المظاهـرات و الاعـتـداءات و استغـلـت في البـدء جماعـات ”لاساس” (المكاتب العـسكرية) مـن الجزائريين ذاك الإضراب للتظاهـر في الشوارع العـربـيـة والمناداة بشعار ديغول آنئذ: “الجزائر جزائرية.”
لم أقو على البقاء في المنزل، بل تناولت ماعون الحليب وقفة باسم البحث عن الحليب و البطاطا و سـرت صحبة ولدي الصغيرين عمر و رضا، أجوب الشوارع بعد ما هيأت بعض الشعارات لمعارضة شعارات
جماعات “لاساس” التي أخـذ بعـض الأولاد يرددونها، لتلقينها للشبان و الأولاد و النساء، فـكـنـت أؤم كـل جمع من الشبان و الرجال و النساء و الأولاد لأتلو عليهم أهون الشعارات و أسهلها للحفـظ و منها:” تحيى الجزائر و الشعـب الجزائري، يحيى الاستـقـلال”، ” تحيـى جـبهـة التحرير الوطني و الحكومة المؤقـتـة ” “الجزائر عربية, يحيى الاستقلال …” و غـيرها من الشعارات، و الغـريب هو أنني كنت أسمع الأولاد في الأحياء الأخرى يرددون نفس هذه الشعارات على نفس النغم قبل أن أتلوها عليهم. و سرعان ما كنست الجماهير الشعـبية جماعات “لاساس” و تولى المناضلـون قـيادة النضال الجماهيري، سيطروا على الشوارع،وعندها أخذت المظاهرات صفاتها الجماهيرية لا سيما في حي بلكور،واصطدمت بغلاة المستعمرين و الجيش الفرنسي، و لأول مرة أشاهد الأعلام الجزائرية خفاقة فوق رؤوس الجماهـير. كانت سيطرة الجماهير الجزائرية على الشارع تامة طيلة أيام الإضراب، لم أر خلالها أثـر للجند الفرنسي في حي القصبة. مكثنا بضعة أيام لم نـر خلالها للنوم طعـما في تلك الليالي، كانت زغاريد النساء و أناشيـد الشبـان و الأولاد و الشعارات الثـورية التي كانت تـلقـى من آن لآخـر، تختـرق حجب الـليـل في كـل حي، و تجند حولها جماهير الشعب كله: “عاشت جزائر حرة لنا”، “دوما أرضها لكلنا” و كم سمعت هذا النشيـد من أفـواه الشبان و المناضلين الفلاحين في معـتـقـلات بني مسوس و الدويرة، لأنهم كانوا واثقـيـن من أنهم يحاربون من أجـل الاسـتـقـلال الوطني و الأرض .. كانت أبواب المنازل في تلك الليالي مفتحة في حي القصبة طيلة أيام الإضراب و يطوف الرجال و الشبان و الأولاد الشوارع متظاهـرين استعـدادا لصـد هـجـوم طارئ يقـوم به الجيش الفـرنسي و منظمات الجيش السري، و جعل من تلك المنازل ملجأ في حالة الفرار من وجه الجيش الفرنسي المهاجم. أصبحت الأعلام الجزائرية خلال تلك الفـترة ترفـع علنا فـوق المنازل و الأبـواب. بينما كان القتـل جزاء لكل من يرفع هـذا العلم، و كم من شاب أو حتى طفل قتل لرفعه العلم الجزائري. أما في حي بلكور فقد هاجمت الجماهير الشعبية جنود الدبابات الذين أتت بهم السلطات الفرنسية من داخل البلاد، لقمع المظاهرات و إخماد جذوة هـذا الغليان الجماهيري المتصاعد في المدن، و بذلك خفف الجيش الفرنسي من ضغـوطه على جـيـش المجاهـدين في الجبال. كان المتظاهـرون ينادون الجنود: اخرجوا من دباباتكـم إذا كنتـم حقـا رجالا و قاتلـونا بنفـس السلاح الذي نقاتلكـم به و سوف نرى لمن ستكـون الغـلـبـة. واصطدام المتظاهرون الجزائريون بالجند الفرنسي والشرطة وبغلاة المستعمرين في الشارع “دي ليون” سابقا أمام مخازن ”المونوبري”، و كانت معـركة هائلة ذهب ضحيتها العـديـد من الجزائريين بين قـتـلـى و جرحى و سطروا بدمائهم صفحة مجيدة في تاريخ الثورة الجزائرية. وجدت يـوما في طـريـقي مظاهـرة كـبرى نظـمـها الشـبـان بصورة عـفـوية في شارع “رانـدون” سابـقـا، ووجهتهم شارع “لالير” سابقا وعندما توسطوا شارع “لالير”سابقا،سألت قادة المظاهرة إلى أين وجهتكم؟ أجابوا “بلاصة العـود” أي ساحة الشهداء، فأشرت عليهم بالبقاء في أماكنهم، حتى أذهـب و أرى إذا كانت هناك قوة عـسكرية في باحة الشيخ بن باديس اليوم، أمام نادي الدكتور سعـدان، و كان الجنود الفـرنسيـون يحتلونه، فوافقوني على ذلك و بقوا في أماكنهم، و لما وصلت الباحة المذكورة وجدتها تعج بالجند الفرنسي و بعضهم يستعد لمجابهة المتظاهرين، و منهم من كان منبطحا على زاوية الرصيف خلف مدافـع رشاشة، وبعض الدبابات تحتل الباحة،مررت أمامهم صحبة ولدي والقـفـة وماعون الحليب في يدي وكلهم ينظرون إلي حتى تعديتهم دون أن يعترض سبيلي منهم أحد، و دخلت حانوت بالقـرب منهم في عمارة “لافيجري” آنئذ، يبيـع الفـواكه فاشتريت شيئا من التمور بعـدما سألتهم إذا كان لديهم شيئا من البطاطا، فأجابـوا بالنفي. عـدت أدراجي من ناحية شارع “شارتر” سابقـا و منه صعـدت إلى نهج “لالير” و أعـلمت الشبـان الـذيـن وجدتهم في انتظاري بحقيقة الوضع، و ما ينتظرهم من مصير إذا استمروا في سيرهم نحو ساحة الشهداء، و أشرت عليهم بالعودة إلى نهج “راندون” و القيام باجتماع عام أمام سوق الخضر، و أخيرا تم الأمر على هذا الشكل. أذكر أنني وجدت يوما الأطفال يفرون كعصافير الدويري على غـير هدى بالقرب من جامع سفير في حي القصبة، عـندما شاهـدوا جنود الدرك الفرنسي يتقدمون نحوهم، فطلبت منهم الوقـوف بعـدما أشرت عليهم بأن لا يخافوا فوقفوا يصغون لقولي و كأنهم يصغون إلى معلم مدرسة، قلت لماذا تفرون من وجه الدرك ؟ إن الدرك معنا، فعاد الأطفال إلى سابق تجمعهم وأخذوا يصيحون بصوت واحد ويكررون باللغة الفرنسية: عندها وقف الجند في أماكنهم جامدين، ولم يتقدموا خطوة واحدة، وكنتles gendarmes avec nous أسير باتجاههم، ثم عادوا أدراجهم إلى حي “مونبانسيي” دون أن يمسون أحدا بأذى. أتى خلال أيام الإضراب ابني الكبيـر عـمـر للمنزل و كان لا يتجاوز التاسعة من عـمره مـبحوح الصوت و الدماء تسيل من رأسه و قـد غـطـت قسما من وجهه، فلما شاهدني أجهش في البكاء، ظننت أن أحد أولاد الحي أصابه بضربة على رأسه، غـير أن من يرافـقـونه من الأولاد أتوني بالخبر اليقـين، و كانوا جميعهـم يتكلمون دفعة واحدة، و أخيرا عرفـت أو فهمت منهم، أن أحـد “رجال الحرس الفـرنسي المتحرك” ضربه على رأسـه بسلسلـة الحديد التي تربط مسدسه، خلال مظاهـرة قام بها الأولاد خارج حي القصبة. أما أخوه الأصغـر رضا و كان في السابعة من عمره،فـقـد أتى للمنزل يشكو من رضوض في جسمه،وذلك لأن أحد “رجال الحركة”رفسه بحذائه كاد يلقي به في درج بولفار وريدة مدني (غامبيا) سابقا، لو لم يتلقاه الحائط ، و لعله كما قص علي الأولاد كان يقضى عليه بتلك الرفسة لو سقط في الدرج. لـقـد أحدث ذاك الإضـراب و تلك الاصطدامات و المعـارك المجيـدة، التي خاضتها الجماهـيـر الجـزائريـة العاملـة في مختلف أنحاء المدن، ضد جنـد مدجـج بأحدث الأسلحـة العـصرية، انعـطافـا حاسـما في تاريـخ الثورة الجزائرية، و سجلت نهوضا ثوريا جديدا خارقا في حركة التحرر الوطني. و حطمت تلك الجماهير في نفس الوقت بمواقفها الحازمة الصلبة و إيمانها المتيـن في حقها بالاستقلال، كـل ما بناه الجنرال ديغول و معـه المكتب الخامس في الجيش الفـرنسي المختـص بالحرب النفسـيـة، و مكاتب “لاساس” من آمال في اكتساب عواطف جماهير الشعب الجزائري، بالصدقات التي كان يتمكن بها قـباطنة “لاساس” على بعـض الجزائريين ممن كانوا يحومون في فلكهم. و أكسب هـذا النهوض الثوري الخارق في المدن حركة التحرر الوطني في الجزائر زخما جديدا يعادل نضال العديد من السنين. ظن الجنرال ديغول و أعـوانه أنهم، بأحابيلهم و مشاريعهم التافهة بالنسبة للاستقـلال الوطني، الذي أصبـح يراه كل جزائري في متناول يده، كمشروع قسطنطين، سيتمكنون من تضليل الشعب الجزائري،وجره مرة أخرى إلى نيرعبوديتهم تحت أسماء و ألبسة براقة مثل: “القوة الثالثة” و”سلام الشجعان” و غيرها، إلا أن حوادث ديسمبر 1960 و مواقف جماهير الشعب الجزائري العاملة الصلبة، التي أنضجتها حرب أكثر من ستة سنوات، و زادتها وعـيا و إيمانا بحقها في تقـرير مصيرها بنفسها، قـد لقـنـت المستعـمرين الفـرنسيين و الجنرال ديغول على رأسهم درسا في السياسة و الإستراتيجية و التكتيك لم ينسوه و لن ينسـوه إلى الأبـد. و برهنت للرأي العام الفـرنسي و العالمي، أن الشعـب الجزائري لـن تثنيه تلك الترهات عـن عـزمه، و لا يريد عـن استقلاله بديلا، و لـن تخيفه تلك الجنود الجرارة التي بلغ عددها في أواخر سنة 1960 ما يقارب على ما قـيـل من 800 ألف جندي مع الشرطة و الدرك و الحرس المتحرك و جنود الحركة… مهما تألبت عليه قـوى الشر والاستعمار. لا سيما بعدما لمس الجزائريون بأيديهم أن بجانبهم قوى عظيمة تـفوق قـوى المستعمرين الفرنسيين و كافة أنصارهم من حلف شمال الأطلسي و الامبرياليين الأمريكيين على رأسهم، ألا و هي قـوى الشعـوب العـربية و الـدول الاشـتراكـيـة، و الاتحاد السوفـيتي في مقـدمتها، و كذلك قـوى الشعـوب والدول الإفـريـقـية و الآسيوية و كـل قـوى الحرية و السلـم في العالـم، و بالأخـص قـوى اليسـار التقدمية في فرنسا نفسها، تلك القوى التي سهلت لها معارك الشعب الجزائري و مظاهـراته الأخيرة العمل لوضع حد لحرب الجزائر، و الاعتراف بحق شعبها في تقرير مصيره بنفسه. بلغـت حصيلـة تلـك المعارك طيلة أيام الإضراب في كافـة المـدن الجزائريـة المـئات و المئات من القـتـلى و الجرحى، استشهدوا من أجل جزائر حرة مستقلة و ديمقراطية. أصبح بنتيجـة تلك المعارك من المتـعـذر حتى على دول حلـف شمال الأطلسي و الامبريالييـن الأمريكييـن الدفاع علانية أمام المحافل الدولية عن سياسة حلفائهم المستعمرين الفرنسيين العدوانية في الجزائر، بفضل ما اكتسبت جماهـيـر الشعـب الجزائـري بنضالها الشـاق الطويـل لـقضيتها العادلـة، و خـصوصا بعـد تلـك الحوادث الدامية من عطف قوى الحرية والسلم في العالم، وليس قرار اللجنة السياسية لهيئة الأمم المتحدة، الذي اتـخـذتــه في 15 ديسمبر 1960 سـوى خيـر شاهـد على ذلك و فـيه تعـتـرف صراحة بحـق الشعـب الجزائري في تقريرمصيره بنفسه،بأغلبية 63 صوتا ضد ثمانية أصوات وامتناع 27مندوبا عن التصويت.
… قـص عـلينـا الشغـالون بعـد عودتنا للعمل و يقـطـن أغـلبهـم في حي “سلامبي” ما قاموا به من الأعمال الجريئة خلال أيام الإضراب، و رد عدوان المستفزين من الأوروبيين عـن أحيائهم، و كيف نظموا حراسة منازلهم، و ما لقيه بعض المعـتدين من الجزاء على أيديهم. و قـد احرقـوا سيارة بالـقـرب من العـمارة التي نشتغـل فـيها بعـدما قـتـل سائقها اثنين من الجزائريين و قـتـل هو فـيما بعـد …
ذهبت صباح يوم الاثنين للعمل في حي الأبيار … جلست على حدة انتظر قدوم رئيس شغيلة البناء و يدعى عبد القادر، و كان من المؤيدين لحزبنا، و لما حضر قدمت له نفسي و كان على علم بقـدومي، و في الحال قدم لي عملا و بدأت الشغل، و جدت أكثر من يعملون هناك من بلـدة جيجل، و قـد أقـبلوا علي يرحبون بي مع أنه لم تكـن لي سابق معـرفـة بهم، سألت أحدهـم إذا حصل بيننا تعارف في السابق؟ أجاب كـلا إلا أنني أعرفك و أنت لا تعرفني، ثم أضاف ألست أنت الذي كنت تلقن الأولاد والشبان في القصبة إلقاء الشعارات خلال الإضراب ؟ و عـدا ذلك قـد حدثنا عـنك من كان يعمل معـك في بيرمندريس …”
مقتطفات من مخطوط مذكـرات محمود الأطرش ـ طريق الكفاح
( السـفـر إلى الجزائر) الـقـسـم الثاني، برلين الشرقية 20 نوفمبر 1972، من الصفحة 317 إلى 324.
محمود الأطرش و علاقـتـه مع القـائـدين الشيوعـيين الإستقلاليين قدور بلقايم و أحمد اٌسماعلي
“ وصلت مدينة الجزائر في شهر يونيو 1939, لا أتذكر اليوم الذي وطئت به قـدمي أرض الجزائر …
أتاني ذاك البحار الجزائري بعد ما رست الباخرة في ميناء الجزائر بأحد الرفاق النقابيين و أظنه فرانسوا سيرانو, وكل ما أتذكره أنه كان طويل القامة , نحيف الجسم, طلب مني ذاك الرفيق أن أسير بصحبته, إلى أن وصلنا إحدى المقاهي القريبة من المرفأ , و المجاورة لعمارة الشرطة المركزية , و بعد ما أجلسني أمام إحدى الطاولات القائمة على رصيف الشارع الرئيسي طلب مني أن أنتظره قليلا, و عند عودته سرنا إلى مركز الحزب في الحي الأوروبي بباب الواد.
دخلنا بعض الغرف في الطابق الأول, و فيها كان يجلس شاب ذو لحية سوداء وراء طاولة كبيرة, علمت فيما بعد أن إسمه رولان رائيس , و قال له بعد ما أجلسني على إحدى المقاعـد: ” هذا هو الـرفيق السوري”, و تركني مودعا في تلك الغرفة و ذهب لشأنه. بقي رولان متشاغلا عني يطالع بعض الأوراق ثم يطبقها, و أنا أقابله في نفس الغرفة , و أخيرا وجه نظره إلي متسائلا لم أتذكـر شيئا مما قالـه لي , ثم ذهب إلى غـرفة مجاورة , و ما أن خرج منها حتى أومأ لي أن أتبعـه إلى تلك الغـرفة المجاورة , و بها وجدت الرفيق قـدور بلقايم أحد أمناء الحزب , و كنت على ما أتذكر قد رأيته في باريس صحبة الوفـد الجزائري, و بعـد السؤال عن الصحة و عن حالتي الشخصية, أخذ يحدثني عن مشروع إصدار جريدة باللغة العربية, و عـن ترجمة بعض النشـرات الحزبية. ثم أردف قائلا : ” غـير أن جهلك للغـة الفـرنسية سيكون أكبر عائق لك في العمل عندنا ”, ثم عـرفني على اٌسماعـلي أحمد عضو اللجنة المركزية للحزب, و الذي طرد فيما بعد من صفوف الحزب. و في المساء اصطحبني الرفـيق قدور بلقايم إلى شقة كان يقيم فيها مع رولان رائيس, و اٌسماعلي أحمد في حي باب الواد، نهج مونتان رقم 30 …
كثيرا ما كنت أسيـر في بدء قدومي للجزائر مع اٌسماعـيلي أحمد , الذي عرفني على الأماكن الحزبية مثل نادي ”هانري باربوس” و نادي الشبيبة الشيوعـية في باب الواد. كنا كثيـرا ما نذهب للغـذاء معا في مطعـم مزيان في ساحة مكماهـون و يسميها العـرب ”بلاصة ماعـون” بالقـرب من ميدان الحكومة ”بلاصة العـود” و بواسطته تعـرفت على الرفيق العربي بوهالي و كان مسؤولا عن “المساعدة الشعبية الجزائرية”, و كنت قد تعرفت عليه عندما كان طالبا في موسكو عام 1936.
أذكـر أني طلبت مرة من اٌسماعـلي أحمد الجلوس سوية في أحـد المقاهي العـربية والتحدث قـليلا مع الجالسين,فـنظـر إلي باٌستغراب, قائلا أتريد أن يقتلوننا ؟ فأجبته و لماذا يقتلوننا ؟ فقال: إذا علموا بأننا شيوعيين فسيقتلوننا لا محالة. و كـم من المرات أظهر له رغبتي في التجول معه في حي القصبة العربي, الذي سمعت عنه الشيء الكثير آنئذ فكان إما يراوغـني أو يرفض مطاوعـتي.
سألته يوما أين نحن من قضية تكوين الجبهة الوطنية في الجزائر, فأشار إلى رولان رئيس أن يقدم النشرة الداخلية باللغة الفـرنسيـة, و فـيها يتوجه الحزب إلى الإشتـراكييـن الديمقـراطيين, من أجل تكـويـن جبهـة شعـبية, و لما سـألـته عـن عدد الإشتراكيين الديمقراطيين في الجزائر, ومدى تأثيرهم على الجماهير العاملة العربية ؟ أجاب لا أدري, فقلت له علمت من الرفيق علي دبابيش في باريس, أن عددهم ضئيل, و ليس لهـم أي تأثير على الجماهير العاملة العـربية, و ليس لديهـم من العرب سوى ثلاثة أو أربعة أعضاء بينهم صحفي يدعى عزيز قسوس عـرفني عليه في باريس. و الأفـضل حسب رأيي قلت له هو التوجه نحو الأحزاب و المنظمات القـومية لتحقيق مثـل هذه الجبهة و بالأخـص نحو حزب الشعب الجزائري, لأنه أكبر حزب جماهيري هنا في الجزائر. فأجاب إنه حزب فاشي و هو أكبر المقاومين لحزبنا.
كان الرفيق قدور بلقايم كثيرا ما يصحبني معه في الأمسيات إلى إجتماعات الفـرق الحزبية, التي لم أشاهد فيها رفيقا عربيا إلا ناذرا. قال لي مرة ستجتمع في فرقة هنا بباب الواد و سيعـطونك بطاقة الحزب, و سألني رأيي, فأجبته إنني أعـتبر ذلك شرف لي أن أناضل في صفـوف الحزب الشيوعي الجزائري، و كنت أأمل فـيه الخير للحزب و الحركة الوطنية. اٌنتظمت منذ شهر يوليو 1939 في خلية حزبية من خلايا باب الـواد و كنت الرفـيق العـربي الوحيد فـيها, و هكـذا أصبحت عـضوا رسميا في الحزب الشيوعي الجزائري. إن كل من عـرفـتهم من الرفاق العـرب آنئذ لا يكاد يتجاوز عـددهـم أصابع اليدين, و أكثرهم متخلق بأخلاق الفرنسيين و مطبع على عـوائدهم…
إذ هاجمت الشرطة الفرنسية في أواخر شهر يوليو 1939 مركز الحزب الشيوعي الجزائري,واٌعتقلت الرفيق قدور بلقايم أميـن الحـزب, و كل من وجـد داخل المـركـز, و أخذت حملات الإعـتـقـالات تتـوالى و يـشتـد الإرهاب على الشيوعـييـن و التقدميين و الوطنيين.
فوجئت في أواخر شهر أغسطس بدق ناقوس الشقة التي أقيم فيها, و عندما فتحت باب الشقة لأرى ما الخبر,وإذا بي وجهـا لوجه أمام أحد رجال الدرك, و لما سألته عما يريد, أجاب أريد رولان رائيس, قلت له إنه ليس هنا, فقال وأنت من تكون ؟ أجبته بأنني أقطن في نفس الشقة, ما إسمك ؟ سألني الدركي, قلت محمود المغربي … و أمرني بالسيـر أمامه و كان يسيـر خلفي شاهرا مسدسه …حتى وصلنا مركز الشرطة الخامس في حي باب الواد و تركني هناك حتى المساء, إلى أن أتى من اٌقتادني إلى مركز الدرك في حي سانتوجان و هناك قضيت ليلتي مع أحد الفارين الجزائريين من الجندية.
نقـلت في الصباح الباكر إلى دار المحافـظة (بريفيكتور) حيث مررت بـقـسـم التصوير, و عـرضت أمام مختلـف الأجهـزة و المقاييس, و أخيرا عـرضت مع بعـض المساجين أمام هيئة تحقـيـق في قـصر العـدلية التي أمرت بسجني, و في المساء نقلت مع عشرة آخرين إلى سجن بارباروس في حي القصبة …
إلتقيت مرارا بالرفيق قدور بلقايم داخل السجن, لدى خروجي للفسحة.كنت أدخل خلسة المربع الموجود فيه, و الغريب أن ”البـريفو” كان ممن يسهلون لي هذا اللقـاء, و ذلك لأن في المربع كانت حرية التنقل و الكلام مطلقة للجميع, و في المربع كانت تقوم أعمال التحريض و تنظيم أعمال المقاومة بعكس الصالة, التي لا يمكن التنقل داخلها إلا بإذن من ”البريفو”.
سألني الرفيق قدور بلقايم في المرة الأولى عن أحوالي, فأجبته إن الحياة في السجن لا تطاق, و تـشابه الحياة في عهـود الرق و الإقطاع, و ضحك كثيرا من هذا التعبير الذي أعجبه. كنا نتجاذب أطراف الحديث عن الأوضاع السياسية, و دور الإتحاد السوفيتي في السياسة العالمية, و أبديت له سروري بمعاهـدة عـدم الإعتداء, التي تم عـقـدها بين الإتحاد السوفـيتي و الدولـة الألمانية الهتلـرية,و وددت كما قـلت له, لو كان لدي شيء من الدراهـم شراء بضعة كيلـوات من العـنب أقـدمها للشغالين مقابل هذا الخبر السار, و كان هـو أيضا يبادلـني السـرور, و لـو بقي حيا لأختلف وضعـي تماما داخـل الحـزب الشيوعي الجزائري, لجرأته و لتعلقه أكثر من غـيره بقضايا التحرر الوطني, و اٌستقلال الجزائـر, لذلك أسميت إبني البكـر بإسمه قـــدور.
الآن فقط قلت له اٌقتنعت باٌنهيـار الجبهة التي طالما حاول الإمبرياليون البريطانيون و الفـرنسيون إقامتها مع الهتلـريـيـن الألمان ضد الإتحاد السوفيتي, و بمدى الهوة التي حفـرها الهتلريون, بتوقـيعهم تلك المعاهدة, بينهم و بين هاتين الدولتيـن الإمبرياليتين.
أعلمت الرفيق قدور بلقايم, الذي شعرت لأول وهلة بوجود شيء عام و مشترك بيننا, في إحدى مقابلاتي معه بما لمستـه مـن شعـور السجناء الجزائـريين, الذين لا يفكـرون إلا في أقـطار الشرق العـربي, و لا يهتمون إلا بأخبار مصر, سوريا, العراق و باقي أقطار الشرق العربي, و يشعرون من صميم أعماقهم بأنهم جزء لا
يتجزء عن باقي الأقطار العربية,كانوا لا يسألوني إلا عن أخبار سوريا و مصر و فلسطين, ولا يستعذبون الحديث إلا عن الشرق وأخبار الشرق, وكان بعضهم يبكي لسماعه تلك الأخبار, لا سيما أخبار البطولة التي أبداها الثوار السوريون و المصريون و العراقيون و الفلسطينيون خلال ثوراتهم التحريرية, و بما ألمسته لديهم من عـداء و كره لا حد له لكل ما هو فـرنسي.
و ذلك ما يعكس ما كنت ألمسه داخل حزبنا من عدم إهتمام كلي لا بالشرق ولا بكل ما يأتي من الشرق, بينما كان الإهتمام كله موجها نحو فرنسا و أوضاع فرنسا,وأخبار فرنسا فقط. فكأن الحزب من هذه الناحية يعيش مع الأقلية القومية الأوروبية في واد, و الشعب الجزائري في واد آخر. و أظن قلت له من المستحسن الجمع بين الطرفـين, و كان هـذا العـمل من جانبي أول محاولة قصدت منها المساعـدة على تنقيح سياسة حزبنا.
كان السجناء يدعونني محمود القدسي … طلبت … إرسال كافة المعلومات …إلى المحامي مسيو ” بونـتـيـر” الذي أوقفته الإغاثة الشعبية للدفاع عني, و بعد بضعة أسابيع مثلت أمام المحكمة, التي أمرت بإطلاق سراحي أقمت بعد خروجي من السجن بمدة قليلة مع الرفيق العربي بوهالي, و كان يعمل محاسبا في نفس ” تعاونية العمال” للبناء التي كنت أشتغل فيها,في حي تقاران … كانت لي مفاجئة كبرى عندما وجدت يوما الرفيق قدور بلقايم عندنا في الشقة مع الرفيق العـربي, و كان قد أطلق صراحه من السجن, و قضى ليلته معنا, غـير أني لم أعـرف لأي سبب لـم يدخل الرفـيـق قدور العمل السري في الحال إثر خروجه من السجن, مع أن الحزب كما بدا لي بحاجة آنذاك إلى القيادة السرية,و عزوت ذلك لجهلي تماما لحقيقة الوضع داخل الحـزب ذاك العهـد. و سمعت فـيما بعد أن قدور اٌعـتقـل في اليوم التالي من إطلاق سراحه, لأن الشرطة كانت تبحث عنه, و توفي في السجن العسكري, بعد ما رفض مدير السجن العسكري إطلاق سراحه, رغم خطورة مرضه,و رغم رأي الأطباء, قائلا:” لن أطلق سراحه ولو بقي من عمره دقيقة واحدة حتى يموت في السجن” و كنت من آن لآخر أقـوم بزيارته في المستشفى العـسكـري …
إنتقلت بعـد اٌعتقال الرفيق العـربي بوهالي إلى منزل الرفيق علي مبروك … بلغـني يوما هذا الحلاق بأن إثنين من الأمن العام سألاه إذا كان يعرف شيئا عن رجل سوري و صنعته بناء وهو كومنيست…قال لي فأجبتهما بالنفي و أظنهما يبحثان عنك و من المحتمل أنهما ذهبا للمنزل الذي تقطن فيه…
و سأعمل ما باٌستطاعتي كي لا أمكن الشرطة من اٌعتقالي … قـصدت منزل صديقي الرفـيق قـراجيان لأطلعه على جلية الخبر, و قادني هو بدوره إلى مخزن الرفيق مارتي و كان يعمل في نجارة الموبليا …
إتصل بي الرفيق اٌسماعيلي أحمد مع بعض الرفاق الأوروبيين, و اٌنتقلت فيما بعد للعمل السري معهم, في حي”نوتـردام دافريك” و ”سانتوجين” و بيلكور. كنت أحضر بعض الإجتماعات السرية, و أتـرجم بعض المناشير و النشرات الحزبية, وأسهم أحيانا في طبعها مع أحد عمال المطبعة,الرفيق باريس جوزيف, طرد من الحزب فيما بعـد,وكتابة بعض المقالات, و قـد بـدا لي وجود خلاف بين الرفاق اٌسماعيلي أحمد و علي دبابيش و بعـض الـرفاق الأوروبييـن من جهة, و الرفـاق الإسبانيين من جهة أخرى, إلا أن أحدا لم يطلعني على ماهية الخلاف…
عدت يوما للمنزل السري في حي ”نوتردام دافريك” فلم أجد به أحدا و وجدت حقيبتي و قد نثرت أمتعتي حولها, و اٌفتقدت شهادة الهوية التي أتتني من بيروت فلم أجدها.فعرفت أن شيئا قد حدث …قصدت …منزلنا السري في حي بلكور, فوجدت البوابة … و ما أن رأتني حتى أشارت لي بالرجوع …
اٌتصلت فيما بعد بالرفيق قراجيان, و علمت منه بخبر اٌعتقال الكثير من الرفاق و حكم على 47 منهم بالإعـدام أمثال بـول كباليرو, بولين لينوار… و غيرهما”.
المصدر: محمود الأطرش ـ مذكرات ـ القسم الثاني , الجزء الأول. مخطوط , نوفمبر 1972, برلين.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.