مع حلول 06 فبراير من كل عام نستذكر رحيل رمز المقاومة وأسطورة الكفاح الوطني والقومي والأممي محمد بن عبد الكريم الخطابي (توفي يوم 06 فبراير 1963 بالقاهرة). لحوالي ستة عقود وسيرة هذا المكافح الفذ والقائد الملهم تتعرض لشتى ضروب التشويه والطمس والتزييف بشكل ممنهج، في إطار مسخ واغتيال الذاكرة الجماعية للشعب المغربي، لتطويعها وتدجينها وحقنها بجرعات من سرطان الدعاية لتلميع النظام الحاكم وسلاطينه، الذين تآمروا على الشعب والوطن وقايضوهما لصالح تثبيت حكمهم الاستبدادي والعميل بالاستعانة وخدمة القوى الاستعمارية، كما تآمروا على محمد بن عبد الكريم بما يمثله من رمزية وقدوة حيا وميتا، سيما مشروعه السياسي التحرري للجمهورية التي كان الأرأس فيها.
ويكفي الإحالة هنا أنه في 25 يونيو 1925 والحملة الاستعمارية الفرنسية والإسبانية في ذروة هجومها الحربي على الجمهورية، أذاع السلطان (مولاي يوسف) منشورا من توقيعه ضد محمد بن عبد الكريم وصدر الأمر بتلاوته في المساجد، وشن حملة لاستبدال زعماء القبائل الذين لم يُظهروا الاستجابة لوقف مبعوثي ابن عبد الكريم إلى القبائل لتحريضها؛ وحيث ما يزال جثمان الثائر منفيا في مصر إلى يومنا هذا، كشكل من أشكال اقتلاعه من وعي ووجدان الجماهير، كملهم بما جسده في حياته ويمثله بعد رحيله من قيم ومبادئ ثورية.
إن الانتصارات الحربية المدوية غالبا ما غطت على المشروع السياسي للجمهورية، فمحمد بن عبد الكريم الخطابي الذي جسد البطولة بكل معانيها كمقاتل وزعيم عسكري قاد حرب تحرير، مُصاوِلاً أعتى قوتين استعماريتين يومها منذ 1920 إلى غاية ماي 1925. حيث تعرض الجيش الإسباني إلى نكبات متتالية، قبل أن ينعقد تحالف فرنسي -إسباني قوامه خمسمائة ألف جندي يقوده الماريشال (بيتان) على رأس اثنين وأربعين جنرالاً، وذلك للقضاء على «دولة قبل- حديثة وثورية بالنسبة إلى عصرها ووسائلها» على حد تعبير الباحثة زكية داوود. سيما أن تأثيرها لم يعد حبيس رقعة جغرافية محدودة إنما بات وقعها يزلزل النظام الاستعماري، حتى أن رئيس الحكومة البريطانية (شانبيرلان) نعت قادة الريف بالثوار في مجلس العموم يوم 05 غشت 1922. وكتب قائد الجيش الأحمر للاتحاد السوفياتي ميشل فرونزي خلال فترة الأحداث ذاتها: “أن ما يتقرر هناك، تحت قصف المدافع، هو كل القوة الاستعمارية لأوروبا الغربية. وخاصة مصير إمبراطورية فرنسا الافريقية”. كما أن محمد بن عبد الكريم أدار دعاية ناجحة للتعريف بقضيته ونال على الخصوص تضامن الشيوعيين، فقد نشرت صحيفة “كامفير” الشيوعية في “زيوريخ” بسويسرا «عدة مقالات تأييداً لثورة الريف»، وفي فرنسا لوحدها كان نصيب «الشيوعيين والاشتراكيين والفوضويين الذين قبلوا بمساندته تحمل ثلاثمائة وعشرين سنة من السجن وخمسة وأربعين عاما من النفي»… ومع ذلك لم ينكسر الجيش الشعبي للجمهورية رغم ضراوة الحرب، إلا مع استعمال السلاح الكيماوي في عملية همجية وارتكاب لجريمة حرب.
يعود تاريخ إعلان جمهورية الريف إلى أوائل 1921 في ظل ضراوة الصدام العسكري مع جيش الاحتلال الإسباني، فكان ذلك بمثابة جواب سياسي يكشف عن نزوع تحرري، ومن أجل التنظيم المحكم لطاقات المجتمع لتعزيز الصمود فيه واستنهاض قدرات المقاومة لديه. إذ تداعى الأهالي إلى اجتماع لِـ«تشكيل مجلس عام يكون المرجع الأعلى، بحيث يضع برنامجا للسير عليه، ويؤلف حكومة وطنية تدير شؤون البلاد، وتضع الأنظمة والقوانين»، وتم عقد أول اجتماع في بدء سنة 1921 الذي كانت أولى قراراته «إعلان استقلال البلاد وتشكيل حكومة دستورية جمهورية رأسها الأمير محمد عبد الكريم زعيم الثورة». وتم اتخاذ بلدة أجدير عاصمة ووضع عَلَم خاص بالجمهورية الناشئة، وتطوير نظام إداري لتنظيم حياة الشعب في مجال الزراعة والتجارة والمدارس وإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، كما تم إنشاء محطة راديو وشبكة تلفونية وشبكة تجسس، وتم بحث إمكانية أوراق بنكية لتحل محل البسيطة والحسني “الشريف”، بالاضافة إلى إحداث آلية للدفاع الذاتي من خلال الشعب المسلح نفسه…إلخ.
ما أن تحرر محمد بن عبد الكريم من النفي ودخوله مصر في يونيو 1947 حتى عاود نضاله السياسي والاعلامي المناهض للاستعمار، وتلقى رسالة من ماو تسي تونغ «يهنئه بالعودة إلى مركز القيادة من جديد»، كما كتب إليه هو شي منه «يطلب منه استعمال نفوذه لدى الجنود المغاربة العاملين في الجيوش الفرنسية…». وفي يناير 1948 قام بتأسيس «لجنة تحرير المغرب العربي» التي ترأسها وكتب ميثاقها، فتصدى لقيادة الكفاح الوطني التحرري في البلدن المغاربية محكوما بخلفية الربط ووحدة وتكامل هذا الكفاح ضد العدو المشترك. ولأجل ذلك أوفد في أكتوبر 1948 بعثات طلابية إلى الكليات العسكرية في العراق وسوريا ثم مصر ليتخرجوا منها ضباطا، وعليهم سيعتمد لتدريب الوحدات الأولى لجيش تحرير المغرب العربي… وجعل من فلسطين بعد صدور قرار التجزئة وشرعنة الاغتصاب في صلب اهتماماته، فدعا في ميثاق «لجنة تحرير المغرب العربي» حرفيا إلى: “ويسرني في الختام أن أحيي إخواننا مجاهدي فلسطين الشقيقة، داعياً لهم بالفوز والنصر، ومؤكداً لهم تضامن الأقطار المغربية معهم، وعزمها اتخاذ جميع الوسائل الممكنة للاشتراك في إنقاذ بلادهم والمحافظة على عروبتها ووحدتها”. وأثناء استئناف معارك حرب 1948 حثّ على الكفاح المسلّح حيث قال: “ما دام هذا العصر يضيع فيه الحق إذا لم تسانده قوة، ويظاهره سلاح وعتاد، ويتكتل فيه الرجال شيباً وشباباً (…)، فالواجب يفرض أن نتكلم بالسيف لندفع عنا الظلم والحيف”.
أجهضت آمال الاستقلال، وما أن اندلعت الانتفاضة الشعبية في الريف شمال المغرب 1958- 1959 حتى أعلن تأييده ومساندته الواضحة لها، وبادر إلى مراسلة الرئيس المصري جمال عبد الناصر ليؤكد له أن ما يجري «ثورة شعبية»، وأنها «ليست ضد الاستعمار فحسب، بل ضد عملائه أيضا في الدرجة الأولى»، والتي من أهدافها: «~إجلاء القوات الأجنبية عن القطر المغربي جلاء تاماً وناجزاً، ~إعادة تطبيق الاستراتيجية التحريرية بفتح جبهة القتال ضد قوات الاحتلال في المغرب إلى جوار الجزائر في سبيل تحرير تونس والجزائر، ~القضاء على النظام المتعفن الذي مسخ التاريخ والوجود…».
إننا إذ نستحضر سيرة هذا الرمز الخالد، وجب التنويه أن من عوامل التشويه التي يتعرض لها وبالتالي يتعرض لها تاريخ شعبنا في الراهن، هو النزعة الشوفينية التي تحاول عزله في قوقعة قطرية تجزيئية أو عرقية ضيقة أو تقزيمه إلى زعيم قبيلة؛ تماما كما النزوعات الظلامية التي تحاول إعطاءه صبغة متأسلمة غايته دعوية وليست تحررية! كلتا النزعتين تدحضهما الوقائع التاريخية، ولا يخدمان في المحصلة سوى المشاريع الامبريالية والصهيونية والرجعية التي كرس هذا النبراس المتقد حياته ضدها.
ملاحظة: لاحظ أن مجلة تايم الإمبريالية أقرت بعظمة الرجل ووضعت صورته على غلافها عدد تاريخ 17 آب 1925.

مراجع:
~ جرمان عياش، أصول حرب الريف، ترجمة محمد أمين الباز وعبد العزيز ألتمسماني، بدون تاريخ للطباعة.
~ د.زكي مبارك، محمد الخامس وإبن عبد الكريم الخطابي وإشكالية استقلال المغرب العربي، الطبعة الأولى 2003.
~ ذ.محمد العلمي، زعيم الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي، الطبعة الرابعة 2015.
~ روجر ماثيو، مذكرات الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي (1927)، ترجمة: عمر أبو النصر، الطبعة الأولى 2005.
~ زكية داوود، عبد الكريم ملحمة الذهب والدم، ترجمة: محمد البكري.
~ ابراهيم أحرشان، أنظر مقال: هذه سطور من “صفحات فلسطينية” في التاريخ النضالي الخطابي.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.