حين لا يحرق السماد نفسه
هناك مقولة متداولة بين اليهود مضمونها: “اليهود كالسماد إذا لم يختلط بشيء آخر ليحرقه فإنه يحرق نفسه”.
قد يعترض البعض قائلا: “ولكن ألم تكن الجيتوات انحصار اليهود على بعضهم؟”
والإجابة نعم و لا.
نعم لو كانوا محصورين تماماً عن سائر الأمم التي هم منها أي لو أن اليهودي البولندي لم يختلط بالبولنديين، وكذلك الروسي والكندي والأمريكي والمغربي…الخ.
لذلك الإجابة الأخرى: لا.
لأن اليهود ومنذ زمن السيد المسيح على الأقل يختلطون بكل المجتمعات التي هم منها بالمال ، والمال أصلا هو الذي قهر السيد المسيح حيث اكتشف أن المال معبود أكثر من الله فقال مقولته الشهيرة: “لا تعبدوا إلهين، الله والمال”.
قال ذلك لأنه اكتشف أن الناس في زمنه حقا يعبدون المال، اي المرابين اليهود خاصة وهم أكثرية المرابين كما يقول فالنتين كتسانوف في كتابه: استعباد العالم النهب على الطريقة اليهودية ترجمة د ابراهيم استنبولي دمشق مطابع الهيئة العامة السورية للكتاب 2018، ، من ص 1-80.
ولذلك ايضاً، حينما هُزم السيد المسيح قال قولته الأخيرة: “إيلوي إيلوي…لاما شبشتني” “إلهي إلهي…لماذا تخليت عني”!
باغتصاب فلسطين بالاستعمار البريطاني 1917 وإيلاج الكيان فيها حتى 1948 ومن ثم 1967، وحتى زمن قريب لم يتوقف اختلاط اليهود بالوطن العربي في سلسلة حروب مباشرة أو غير مباشرة يمكننا تسمية ذلك بمرحلة التناقض التناحري لأن المعادلة جدا بسيطة:
- اغتصاب وطن يعني وجوب التحرير. “رُفعت الأقلام وجفت الصحف”
وعليه، تنحصر خيارات الفلسطيني والعربي في خيارين فقط:
- إما أن تقاوم
- أو لا تعارض المقاومة بغض النظر كيف ستجتر حياتك.
لكن التطبيع الذي رافق القضية منذ 1916 وحتى اليوم خلق حالة خطيرة ما بين الحدَّيْن أعلاه وهو:
- ادعاء المقاومة بعدم المقاومة وهذا حال الأنظمة العربية التي نصَّب حكامها الاستعمار وهي قائمة اليوم بل الأقوى حيث كانت تثرثر عن عروبة فلسطين بينما تلعب ما امكنها دوراً في بناء الكيان الصهيوني وها هي اليوم تتحالف معه حتى عسكريا، والإمارات نموذجاً. اي ان اليهود كانوا مختلطين بهذه الأنظمة سرا.
- المقاومة، ولكن دون جاهزية ودون خلق بنية اقتصادية اجتماعية تقطع مع النظام الرأسمالي العالمي تتمحور على ذاتها، وتفك الارتباط بذلك النظام وتتبنى التنمية بالحماية الشعبية لأن هذا النهج وحده الذي يؤكد بناء ووجود مجتمع المقاومة ومن ثم تأكيد الانتصار. وهذا حال الجمهوريات العربية التي مثلا، كان تبادلها الاقتصادي مع الغرب بنسبة 70% بينما مع الشرق قرابة 20%! أي تتحالف عسكريا مع الشرق لتشتري وخاصة ان الغرب يرفض بيعها السلاح، وتتحالف اقتصاديا مع الغرب أي لتدفع!. وهذه كانت مختلطة مع الكيان صراعاً.
هذا كي أدخل إلى انتخابات المحتل 1948 الانتخابات الصهيونية. وحين نقول الصهيونية، فهذا يعني بالضرورة والمنطق أنها ليست للفلسطينيين ابداً، فهي حتى قبل ما تٌسمى “قومية- اي قانون القومية” كانت وستبقى انتخابات لبرلمان للدولة اليهودية. فما موقع العربي فيها؟
لا معنى لأكرر ما قيل كثيراً وما قاله حتى غير العرب بأن برلمان الأكثرية هو استعباد للأقل عدداً بمعنى تسخيرهم خدماً للأكثرية، فكيف حين تُعتبر الأقلية أعداء في بطن الوحش نفسه وحين يكون الوطن لطرف واحد هو الأقل عددا وإمكانات وبلا سلطة؟
لعلَّ ما ساعد التطبيع في المحتل 1948 هو العجز العربي الرسمي، وتغييبه للطاقات الشعبية حيث لعب دوراً في نقل تخريب الوعي والانتماء السائد في الوطن العربي إلى فلسطينيي المحتل 1948 وذلك بآليات عديدة أورد منها اثنتين فقط:
الأولى: استبدال الانتماء العروبي بالانتماء القُطري (قطر-إقليم) والذي وصل لاحقا إلى كل قطر أولاً!
والثانية: للتغطية على تهافت الأنظمة العربية وخاصة م.ت.ف جرى تضخيم أعضاء الكنيست من العرب وكأنهم ابطالاً، بل وصل الأمر حتى إلى اعتبار كل من هو في الأرض المحتلة بطلاً! وفي هذا دس خبيث مقصود به أن القضية الفلسطينية هي قضية الفلسطينيين وحدهم، وحتى فقط الذين في فلسطين، وكفى كل من هو فلسطيني وعربي خارج جغرافيا فلسطين، كفاه شر القتال! اي معفىً من المقاومة. وهذا بالطبع طبعة خطيرة من استدخال الهزيمة وتعميمها.
لذا، لاحظنا منذ سنوات مشاركة أنظمة التطبيع العربية و م.ت.ف في انتخابات الكنيست :
- دعم حزب العمل لمواجهة الليكود
- دعم بيرس في مواجهة شامير
- دعم باراك في مواجهة شارون
- دعم جانس في مواجهة نتنياهو
خطورة هذا لا تنحصر في اجتثاث الوعي الجمعي العربي عموماً تجاه القضية العربية الجامعة والمركزية بل في توريط فلسطينيي المحتل 1948 في خلع هويتهم وانتمائهم ليصوتوا ويترشحوا في برلمان يقول لهم “عمليا” أنتم حثالة وعبيد لدينا وانتم هنا إلى حين.
هذا القول الصريح قد يزعج البعض ! ليكن، ولكن تحت احتلال محيوي اقتلاعي نحن نذوق الاحتقار يومياً واركز على الاحتقار لأن المقصود به التدمير النفسي، وهذا اشد تاثيرا وابقى من التعذيب الجسدي الذي يُمارس طبعا على قدم وساق.
وهنا، يكون السؤال: ما هو شعور هذا المحتقَر الفلسطيني وهو يصطف في طابور بين صهاينة يعتبرونه كائناً دونياً متخلفاً يدلي بصوته ضد نفسه سوى أنه يقول في قرارة نفسه وعلانية: “سيدي الخواجا تقبَّل صوتي”!
هل يفكر هذا الناخب ما الذي يجري في مخيال اليهودي الصهيوني؟
وهل يلاحظ هذا الفلسطيني بأن صراخ مرشح الكنيست العربي وانتفاخ أوداجه ليس سوى براعة تمثيل! أو رفع الأذان في الكنيست “تأميم الكنيست”!
طبعاً دعك من عبارات النفاق الصهيوني أو زيارة مرشح صهيوني لقرية عربية وخاصة لمختار او رجل دين او “وجيه”…الخ وحضور زوجته عرسا هنا او هناك بشكل استشراقي ممجوج، ثم ما تلبث أن تعود لبيتها الذي ابتناه فلسطيني منذ قرن لتغتسل من أدران مصافحة سيدة فلسطينية.
وهكذا، يُبتنى خطاب من التكاذب:
- تكاذب بين قيادات الفصائل وأعضاء الكنيست
- تكاذب بين الحكام العرب وأعضاء الكنيست العرب
- وتكاذب بين أعضاء الكنيست العرب وسادتهم اليهود
- وتكاذب بين المرشح العربي للكنيست ومن يروجون له وبين جمهور المشاركين في الانتخابات.
ولكي اعود إلى بداية الحديث فيما يخص السماد، فقد حولت القيادات الصهيونية احتراق السماد ذاتيا إلى طاقة تصلح للتندُّر بل طاقة تسخين قبل المباراة وهو ما نشاهده من “معارك” شكلانية بين الكتل والأحزاب في الكيان وخاصة منافسي نتنياهو الذي يكاد يكون “ملك الكيان” .
بعضهم يقول إن بينيت يخاف من نتنياهو، وبأن نتنياهو سوف يلجأ للتحالف مع تحالف الصهيونية الدينية والفاشية هذا وكأن نتنياهو ماركسي-لينيني! وإن عاد لرئاسة الوزراء سوف يستصدر قرارا بعدم محاكمته، أو ما كبته أولمرت عمن إخفاق نتنياهو سياسيا وعسكريا وخاصة في مسألة النووي، متنناسيا أن هزيمة 2006 كانت على جلده هو نفسه! فالفوارق بين مختلف هذه الكتل ليست فقط في الدرجة لا النوع بل في اقل شحطات الدرجة. ولا يهز المشهد سوى تصريح متطرف مصطنع من ليبرمان الذي نادى برمي نتنياهو ومؤيديه في سلة القمامة.
كل هذه ليست احتراق السماد ذاتيا، بل مباراة في من يخدم الكيان أكثر . وعليه ليست هذه خلافات، فلا يلبث كل هؤلاء بعد الانتخابات أن يواصلوا انشغالهم بنا كعرب على مختلف المستويات من تجميل تطبيع ملك المغرب إلى تحقير تجارة الجنس في الإمارات إلى نشر اكثر عن فساد السلطة الفلسطينية إلى دعم إثيوبيا ضد مصر مع التخطيط لزيارة نتنياهو للقاهرة…الخ، أما الأكثر إهانة فهي موقف جانس من عدم إعطاء القائمة العربية المشتركة اية مرونة رغم ان رئيس هذه القائمة اسقط كافة المحاذير العربية تجاه الحكومة الصهيونية.
أما أهم ما يذهب الجميع إليه بعد الانتخابات فهو خلط السماد بنا كي لا يحترق داخليا.
وهكذا، فالمشاركة العربية في الانتخابات هي اصطفاف الناخب والمرشح الفلسطيني ضد المقاومة، إذا اتفقنا على حقيقة أن كافة القوى في الكيان تستهدف محور المقاومة.
والمثير للأسف أنك حين تسأل الناخب أو المرشح الفلسطيني:
لمن فلسطين؟
يُجيبك: لنا؟
جميل، إذن لماذا تصطف ضد محور المقاومة؟ اليس الأجدر بك على الأقل أن تعتكف عن هذا؟
يبقى السؤال إلى أحزاب الكنيست العرب، بل التساؤل عنهم:
فبعد أن بايعوا جانس في الانتخابات الأخيرة، وأهانهم بتكرار موقفه الصهيوني العسكري، وهذا ربما اخطر من الصهيوني المدني لنتنياهو ها هم ينقسمون عشية الانتخابات في الأسبوع المقبل. ولعل أبرز مظاهر تهافت هذا النهج هو عودة البعض من المرشحين العرب للكنيست للترشح ضمن أحزاب يهودية، اي تكرار ما كان عليه أعضاء الكنيست العرب في الخمسينات، أي درجة أعمق من التماهي مع الكيان.
ولكن، ماذا وراء تضخيم المشهد الانتخابي العربي في برلمان الكيان؟
إنه الكثير بل كل شيء. فما يمكن للعربي أن يحققه في مقاطعة الانتخابات في الكيان لنذكر أمرين اثنين:
الأول: مقاطعة الانتخابات ليُثبت للكيان بأنه عربي وبأن الكيان غير شرعي وهذا يصيب الكيان في مقتل لأنه سيكون قدوة للجماهير في الوطن العربي كي ترفض التطبع بقوة لا سيما وأن هدف الكيان هو التطبيع الشعبي .
والثاني: هو بناء المجتمع الفلسطيني من داخله اي النضال من أجل بلديات وطنية باعتبار البلدية هي النخبة التي تتغذى وتغذي الجمهور ثقافيا واقتصاديا وسياسيا ووعيا وانتماء دون تقديم فرائض الولاء لكيان لا يعتبر هذه الناس مواطنين. وهذه درجة من درجات تحقيق حقوق الشعب الذي مقابل تدفيعه الضرائب له حق أخذ الحقوق او اللجوء لعصيان المدني. ولو لخصنا هذا لقلنا تبني أعلى تطبيق ممكن لموديل اقتصاد التنمية بالحماية الشعبية، وهذا لا متسع له هنا.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.