بات مفهوم القومية والأمة حاضراً بكثافة في الجدل والنقاش السياسي، وذلك ارتباطاً بالأحداث العاصفة التي تمر بها المنطقة العربية، خاصة بعد بدء ما يسمى بثورات الربيع العربي.
وعلى الرغم من أهمية حضور التعريف القاموسي في مثل هذه النقاشات، إلا أن اتخاذها كمقياس مجرد تحاكم على أساسه مختلف القضايا، يقود غالباً إلى الخروج عن حدود الموضوع المعالج، بل والهدف الأصلي من هذه المعالجة، والمتعلق بانطباق تلك التعريفات من عدمها على واقع المنطقة، وبمعزل عن وقائع التطور التاريخي الذي شهدته، ذلك أن المفهوم خاصة السياسي والاجتماعي، المعزول عن سياقه التاريخي ليس له معنى محدد ضابط، إنه يشبه اللفظة المفردة في اللغة، التي وإن دلت على شيء إلا أن معناها يبقى رجراجاً وغير محدد، إلى أن توضع في سياق محدد، أي في جملة، عندها ينضبط المعنى وتتكشف دلالاته، ومعانيه بوضوح، وجملة المفهوم السياسي أو الاجتماعي هي السياق التاريخي الذي يندرج فيه، وخارجه يبقى دلالةً عامة، لا ننكر فائدتها ولكنها فائدة غير مكتملة، وذلك لأن دلالة المفهوم ستتغير بالضرورة حسب الأمة التي يقاس عليها وتجربتها التاريخية.
أولا: تعريف أولي لمفهوم القومية والأمة والدولة
تستدعي عملية التعريف الانتباه إلى ثلاثة مفاهيم متلازمة، وهي مفهوم القومية والأمة، والدولة الأمة، هذه المفاهيم الثلاثة يستدعي كل منها الآخر، بحيث إن أي منها يفقد قيمته العملية إذا تم تناوله بشكل مجرد، وبدايةً يمكن تعريف القومية بأنها نسق من الأفكار والنظريات السياسية والحقوقية والدينية والأخلاقية والجمالية والفلسفية، ونظام سياسي واجتماعي واقتصادي؛ يتحدد بالظروف المادية لحياة مجتمع من المجتمعات في مرحلة تاريخية من مراحل تطوره، ويرتكز هذا المفهوم على مجموعة من العناصر الأساسية، تتمثل في وحدة اللغة والتقاليد والتاريخ المشترك، بدلالاته الماضوية والمستقبلية، للمجموعة البشرية المكونة لذلك المجتمع، ومن الناحية التاريخية فتعود نشأته إلى أواخر القرن الثامن عشر، ثم اتخذ معناه الأكثر تحديداً خلال القرن اللاحق، وذلك في سياق مرحلة الانتقال من التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية الإقطاعية إلى التشكيلة – الاقتصادية الرأسمالية، وهي الفترة التي شهدت تشكل الدول الرأسمالية القومية، أما بالنسبة لمفهوم الأمة، فهو أكثر اتساعاً من مفهوم القومية؛ كونه يشير إلى بنية اجتماعية يتحقق فيها وبموجبها امتداد الأجيال المتعاقبة لمجموعة بشرية، ودوام روابطها الاقتصادية والثقافية والحضارية والجغرافية، ومصالحها الثابتة والمشتركة، بما يعنيه ذلك من استمرارية التكوين الجمعي المتراكم من الماضي السحيق إلى الحاضر والمستقبل، وبذلك تتبدى الأمة كبنية وصيرورة تاريخية، للعلاقة بين الأرض والجماعة، وكذلك تنتظم العلاقة بين المفهومين، كانتظام العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون؛ فالأمة هي المضمون الموضوعي المتحقق في الوقائع التاريخية، فيما تتبدى القومية كشكلٍ للوعي بالأمة، يتلخص هدفه في تعزيز مصالح الأمة، والحفاظ على ثقافتها، ويتأتى ذلك من خلال دولة القومية أو الدولة الأمة التي تتجسد في منطقة جغرافية محددة، وتستمد شرعيتها السياسية من تمثيلها لأمة أو قومية مستقلة وذات سيادة، فإذا كانت الدولة عبارة عن كيان سياسي وجيوسياسي، ودولة القومية عبارة عن كيان ثقافي؛ فإن مصطلح “دولة القومية” يفيد التقاء وتوافق السياسي والجيوسياسي مع الثقافي والإثني معاً.
ثانيا: تنزيل التعريف في سياق التاريخ
تنزيل التعريفات السابقة على الواقع العربي المحدد يترتب عليه مجموعة من الاستنتاجات تتلخص فيما يلي:
أولا: الأمة العربية هي حصيلة ونتاج التراكمات التاريخية لكل الحضارات السابقة، بأبعادها الثقافية والاقتصادية، التي بناها الانسان وتجسدت كوقائع ملموسة على هذه الأرض، بمحدداتها الجغرافية المعروفة، والتي تتسم بالتواصل والانفتاح، على ضوء ذلك يبرز مفهوم التنوع ضمن الوحدة، وليس بديلاً لها، كما يتبدى الزيف العلمي لمقولات من نوع (الأمم والقوميات العربية المختلفة).
ثانيا: إن ظهور القومية العربية كحركة تحررٍ واستقلالٍ قومي، من نير الإمبراطورية العثمانية تحت لواء الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين، كان من الضروري أن يقود إلى تشكل أو قيام دولة الأمة العربية أو الدولة القومية العربية الواحدة؛ المستوعبة للتعددية والتنوع، بما يعنيه أن عروبتها ذات دلالات ثقافية أكثر من كونها ذات طابع عرقي.
ثالثا: إن التوافق التاريخي لظهور القومية العربية كحركة تحرر قومي، مع الانقضاض الإمبريالي على المنطقة، بهدف تقاسم تركة الإمبراطورية العثمانية، أو كما كانت تسمى في حينه بالرجل المريض، قد وضع الحركة القومية العربية في مأزق تاريخي، تعمق بتحالفها مع الطرف الإمبريالي الذي يرتهن تحقيق مشروعه، بمنع استكمال حركة التحرر العربية، لمهمتها في استيلاد وبناء دولة الأمة العربية، وخلاصها من نير الإمبراطورية العثمانية.
رابعا: إن اتفاقيات سايكس بيكو كأداة تقسيم، لم تكن أداة تقسيم لدولة عربية موجودة، وإنما أداة تقسيم لممتلكات امبراطورية منهارة، وبالنتيجة أداة منع ميلاد الوارث الحقيقي في الجغرافيا ذاتها أي تشكل دولة الامة العربية، والمفارقة الصارخة في هذا الجانب، أن المجتمعات الأوروبية التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية، قد تمكنت أو تم تمكينها من بناء دولها القومية بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية، بينما وضعت العراقيل أمام حركة التحرر العربية لمنعها من تحقيق هدفها.
خامسا: إن أداة سايكس بيكو كانت تمهد لأداةٍ أخرى، وهي وعد بلفور لتتوافق الأداتان لميلاد الدولة القطرية العربية من ناحية، وإسرائيل من ناحية أخرى، والتي أوكلت لها مهمة الاستمرار في منع تشكل دولة الأمة العربية، وبالنتيجة بقاء الدول القطرية، التي تشكل كل منها جزء مقتطع من الدولة الأم، بتكويناته وتعدديته العرقية والثقافية، والتي يتم الاشتغال عليها من قبل القوى الاستعمارية ذاتها، لتعميق عملية التفتيت والتقسيم، وإيجاد الموانع الحاسمة في منع التشكل التاريخي للدولة الأمة، وذلك بتقسيم وتفتيت المكونات الأساسية للدولة القطرية الوطنية.
ثالثا: تنزيل التعريف في سياق الحاضر والمستقبل
إن التحديات التي واجهتها حركة التحرر العربية، في مرحلتها الأولى، تعيد إنتاج نفسها أمام حركة التحرر العربية في صيغتها المعاصرة، مضافاً إليها متغيرات عديدة، وتعقيدات جديدة، لعلّ أهمها أن صيغة التقسيم الأولى، قد تحولت إلى واقع تحميه مصالح قوى وطبقات اجتماعية، تشكلت في ضوء ذلك التقسيم، وارتبطت مصالحها به، وفي دفاعها عن هذه المصالح، ارتمت في أحضان القوى ذاتها التي انتجت التقسيم، وتحولت بذلك إلى عامل إعاقة محلي شديد الخطورة؛ الأمر الذي يستدعي مزيد التعمق في وعي الواقع وكيفية إدارة الصراع مع كل قوى الإعاقة، ذلك يعني أن حركة التحرر العربية في بناء تصوراتها ونضالها، من أجل بناء الدولة القومية الموحدة، كهدف استراتيجي، لا بد أن تقوم على أساس المشاركة في بناء مشروع مثل هذه الدولة، بما يعنيه ذلك من عدم استخدام العروبة كمرادف للقومية العربية. فالأولى انتساب مجرد عن المعنى السياسي، والثانية حركة وعي سياسي وأيديولوجي نضالي؛ لتحقيق أهداف واضحة ومحددة، تتعلق بمصير الأمة، بما تتضمنه من تنوع، لا سيما وأن التكوين العرقي والإثني للمنطقة في جوهرة تكوين تعددي، وذلك ارتباطا بالعمق التاريخي والمدى الجغرافي للدولة الأمة المبتغاة، ومن الملاحظ أن هذه التعددية باتت مستهدفة الآن، ليست بهدف التفتيت فقط، وإنما لإنتاج صورة مشابهة، لصورة الكيان الصهيوني المزروع رغماً في جغرافية المنطقة، لذلك، فإن حركة التحرر العربية كبنية نضالية منوط بها أن تؤطر كافة الشرائح والقوى الممثلة لها، وتمكنها من التوحد على مشروعٍ نضاليٍ جامعٍ مستند إلى تاريخ مشترك ويتطلع إلى مستقبل مشترك أيضاً، مشروع وعي جمعي تاريخي، يؤسس لتحقيق دولة الأمة على المدى الاستراتيجي، وذلك لا يتناقض مع المهام المدرجة على جدول أعمال كل فصيل من فصائل حركة التحرر العربية، على المستوى القطري، إذا ما توفر الوعي بضرورة الانتباه الدائم، إلى إيجاد العلاقة الجدلية بين ما هو لازم قطرياً بحكم الواقع القائم، وما هو لازم قومياً بحكم الواقع الهدف.
*مدير مركز دراسات أرض فلسطين للتنمية والانتماء، تونس
قراءات المقال
1 ــ حدادين، جورج: 19/2/2016 ـــ الأمة والقومية
2 ــ بدران، نزار: 28/1/ 2021 ـــ مفهوم الأمة القومية
3 ــ مطر، سليم: 12/3/2012 ـــ الأمة والقومية.. ما الفرق بينهما: نعم هنالك أمم وقوميات عربية مختلفة! الحوار المتمدن-العدد: 3665 – 2012 / 3 / 12 –
4 ــ ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
5 ــ محادين، موفق: 26/2/2012 ــــ الأمة هي بنية والقومية هي ايدولوجيا
:::::
موقع “الأول نيوز” 19 أبريل، 2021
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.