- فَشَل أمريكيون في جعل المركزي حكومياً وخدعة روتشيلد مالياً
يفيد التنبيه هنا أن خضوع البنوك المركزية في العالم لبنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي لا يعني أن البنك هذا خاضع للحكومة الأمريكية، وإن كان بالطبع ينفذ كثيرا من سياساتها السلطوية خاصة ضد الأمم الأخرى وحتى ضد الطبقات الشعبية الأمريكية نفسها. فهو شركة هائلة في خدمة مالكيها .
تفيد هنا الإشارة إلى تجربة الولايات المتحدة في هذا السياق حيث كتب كاتاسونوف:
“… أما فيما يخص الولايات المتحدة، فقد تم الخروج على ما كان قد أُسس هناك بأن يكون البنك المركزي خاضع للحكومة، فقد فشلت محاولة غلاس-سيجال أو ما يعرف بقانون غلاس سيجال نسبة لعضوي الكونجرس اللذين تبنيا مسودة لمشروع القانون وهما كارتر جلاس و هنري ستيجال 1933 في عهد الرئيس فرانكلين روزفلت كوسيلة لإعادة العمل بالنظام المصرفي الامريكي الاصلي وهو نظام الكسندر هاملتون المبني على اساس تحمل الدولة مسؤولية السيطرة على العملة والائتمانات وتوجيهها نحو تطوير الاقتصاد الفيزيائي للامة وليس جني الارباح لثلة من المصرفيين والتجار والمضاربين الذين دمروا اقتصاد الولايات المتحدة بالتعاون مع مصرفيي لندن في العشرينات من القرن الماضي وادخلوا الولايات المتحدة والعالم في الكساد العظيم. وكان قانون غلاس- سيجال قد فرق بين المصارف التجارية والشركات المالية او المصارف الاستثمارية ووضع المصارف التجارية التي يودع فيها المواطنون اموالهم وتقرضها البنوك للافراد والشركات لنشاطات اقتصادية فعلية تحت حماية الدولة وضماناتها وتعويضاتها بينما لا تحظى الشركات المالية المضاربة بتلك الحماية لأن نشاطاتها مضاربة تخريبية . وقد وفر هذا القانون الاستقرار المالي والمصرفي للولايات المتحدة الذي مكن الرئيس روزفلت من شن حملته الاعمارية الكبرى في ذلك العقد وأحيا اقتصاد الولايات المتحدة كاكبر واقوى اقتصاد صناعي في العالم ، وكل ذلك عن طريق ائتمانات حكومية طويلة الامد وبفائدة منخفضة موجهة نحو بناء مشاريع بنى تحتية عملاقة كالسدود وسكك الحديد والطرق وقنوات المياه والمستشفيات والمدارس وجلب الطاقة الكهربائية للريف الزراعي الامريكي”(فالنتسين كتسانوف، استعباد العالم ص 137-38)
تعيدنا سياسات روزفلت إلى الجدل بين أنصار النظام الصيني الحالي ومعارضيه ومضاديه (وهذا مثبت بالتفصيل والتحليل في كتابنا القادم. فخضوع البنك المركزي الصيني للدولة هو الذي سمح بإقامة سلسلة ضخمة من البنايات بل المدن والتي نظر إليها البعض كاستثمار استراتيجي بينما رآها البعض هدراً للموارد. وبغض النظر عن ايهما الأدق، فما يهمنا هو خضوع البنك المركزي للحكومة وأهمية ذلك في احتجاز سيطرة راس المال الخاص ليس في البلد نفسها بل، وهذا الأهم، راس المال الأجنبي والذي يسيطر عليه روكفلر وروتشيلد ومورجان…الخ.
وهنا يكون السؤال، بعد مغادرة النظام الصيني الحالي للسياسات الماوية، هل هذا ما نقلته السلطة الصينية الحالية عن تجربة الولايات المتحدة هذه أو مما احتفظت به من الإرث الماوي وإرث ستالين؟ أي بمعنى هل النظام في الصين هو نظام مركَّب في أكثر من حالة:
• أخذ نظرية إفزي ليبرمان في تبني الحوافز المادية وتغليبها على التحفيز الفكري والوعيوي من الاتحاد السوفييتي بعد ستالين بغض النظر عن مدى تطبيقها وآلية تطبيقها في الصين، ولكن ذلك لم يقد إلى انهيار الدولة كما حصل في روسيا بقيادة يلتسين ولا إلى نهبها من الإمبرياليات الغربية بل قاد إلى نمو عالٍ جدا وهذا معيار رأسمالي. هذا من جهة ومن جهة ثانية، أخضع الطبقة العاملة لاستغلال معولم، ومن جهة ثالثة أخرج 750-850 مليون صيني من دائرة الفقر.
• وأخذ تجربة روزفلت من الولايات المتحدة فيما يخص البنك المركزي، وذلك طبعا بعد مغادرة السياسة الماوية؟
• وأخذ تجربة هنري فورد في أمريكا، رفض التراكم كسيولة مالية،أو أخذ بعضها (انظر أدناه).
• وأخذ من تجربة نابليون في فرنسا، ولاحقاً تجربة ميتران.
وكل هذا يردنا إلى السؤال الكبير لهذا الكتاب بأنه بغض النظر عن كيفية صياغة النظام الصيني الحالي، هل إمكانية عودة إلى الاشتراكية أمر وارد؟ وإلى اين ستقود هذه التجرية؟
وقد يكون النظام الصيني الحالي قد إطلع على تجربة نابليون بونابرت مع البارون روتشيلد حينما اقترح على نابليون اقراضه فرفض كي يكن مستقلا عن روتشيلد واسس البنك الوطني بشرط ان يبقى تحت اشرافه الحازم فوقَّع مرسوما بانشاء بنك فرنسا بمواصفات شركة مساهمة قانونيا …وبعد افول نجم نابليون بدأت السلطة الفعلية في البلاد تنتقل بالتدريج من الحكومة الى اصحاب المصارف ” (فالنتسين كاتاسونوف نفس المصدر ص 164).
لكن روتشيلد انتقم من نابليون بدعم دوق ولينحتون قائد جيش بريطانيا، الأهم أنه جنى نتيجة هزيمة نابليون وانتصار بريطانيا، فقد وضع ناثان وكیلا لأعماله اسمه روكفود على الجانب الشمالي من میدان المعركة، قرب بحر المانش . وعندما كانت نتیجة معركة واترلو معروفة، عبر روكفود المضیق، وأوصل الخبر إلى ناثان روتشیلد قبل 24 ساعة من وصول رسول الدوق ویلینغتون إلى لندن. ھرع روتشیلد على الفور إلى البورصة وأخذ مكانه المعتاد بجانب عمود قدیم.وقد وُجّه الناس عیونھم إلیه لأنھم یعلمون بأن عائلة روتشیلد تملك شبكة لا مثیل لھا من المخبرین في جمیع أنحاء العالم إذا ھُزم ویلینغتون وفاز نابلیون في تلك المعركة، فإن الوضع المالي للمملكة المتحدة سيتدھور بسرعة.
بدا روتشیلد حزینا. كان واقفا في مكانه دون حراك، وینظر بعینیه إلى الأسفل ثم بدأ فجأة بالبیع. رأى الجمیع سلوكھ ھذا، وربما اعتقد المستثمرون أنه یجب على ویلینغتون أن یكون قد خسر
المعركة لیبرروا بیع روتشیلد للسندات. ھبط السوق بسرعة إلى أسفل. وقریبا، باع المستثمرون جمیع سندات الحكومة البریطانیة فانخفض سعرھا بشكل حاد. بعدھا، بدأ روتشیلد من خلال وكلاء له على شرائھا سرّا، وبجزء صغیر فقط من سعرھا الذي كان قبل بضع ساعات فقط.
… ما ھو أكثر إثارة للاھتمام، ھو أنّ عددا من المؤرخین كتبوا عن أنّ ناثان روتشیلد وفي غضون ساعات قلیلة بعد معركة واترلو، سیطر لیس فقط على السوق الانجلیزیة للسّندات الحكومیة ولكن على بنك إنجلترا أیضاً. ھل سیطرت عائلة روتشیلد على أول وأكبر بنك مركزي خاص لأقوى دولة في العالم في ذلك الوقت، أم لا؟ (انظر كتاب “البنوك الفتاكة: كيف سيطرت البنوك الدولية على امريكا تأليف ديمتري كراسيف ترجمة مكسيم بيان صالحة، 2012 ص ص 35-39).
لا داع للإطالة، لكن هذا يستدعي تجربة وخبرة جورج شورش المضارب المعولم في الأيام الحالية، بل ومختلف المضاربين الكبار وحتى الصغار . ولعل الحكمة أو الدرس المستفاد هو أن البنوك بالربا والفوائد لا تحكم العالم بل تُذلَّه وخاصة الطبقات الشعبية. وإذا كان ماركس قد قال بأن العمال لن يخسروا ما يملكون لأنهم لا يملكون، فإن الطبقات الشعبية تستعيد عالما لتملكه وتستعيد إنسانيتها بالاشتراكية.
يذكرنا هذا الأمر ايضاً بكميونة باريس حيث يرى ماركس أن عدم وضع يدها على البنك المركزي الفرنسي كان سبباً في هزيمتها.
والسؤال الآن: هل المغادرة الجزئية أو النسبية لاستقلال البنك المركزي ، كما هو في حالتي فرنسا نابليون وأمريكا روزفلت، هي مغادرة رجراجة لا تلبث أن تُهزم على يد ضواري المال؟ وهل هذا ما ستؤول إليه التجربة الصينية الحالية؟
ربما من خلال الاطلاع على هذه التجارب توصل النظام الصيني الحالي إلى التمسك ببقاء المصرف والعملة بيد الحكومة الصينية.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.