- تغيير الرّؤساء الأمريكيين واستقرار أهداف الإمبريالية الأمريكية
تأثيرات احتجاجات 2019 – 2021
بيرو:
نقلت صحيفة “غرانما” الكوبية عن “فيدل كاسترو” (1926 – 2016)، انه يعتبر “الأوليغارشية البيروفية هي ربما الأكثر فسادًا والأكثر رجعية في أمريكا الجنوبية”، ولذا فرغم النجاح النّسبي الذي حققه “بيدرو كاستيلو” وتحالف “بيرو ليبر” (بيرو الحُر) في انتخابات السادس من حزيران/يونيو 2021، لا يزال اليمين الذي يميل نحو التّطرُّف قوياً للغاية ، خاصة في العاصمة “ليما” (ثلث إجمالي سكان البلاد)، بينما تميزت النقاشات التي دارت حول هذه الحملة الانتخابية بتذكير المواطنين البيروفيين بالوضع الذي كان سائدًا، سنة 1968، عندما قام الجنرال خوان فيلاسكو ألفارادو (1910-1977) بانقلاب وعَرْقَلَ خطط شركة النفط الدولية (International Petroleum Company )، وهي فَرْعٌ تابع لمجموعة “ستندارد أويل” ( Standard Oil )، الشركة التي أسّسها “جون روكفلّر” سنة 1870، والتي أعدّت مُخطّطًا للإستيلاء على احتياطيات البيرو من النفط.
تضمّن برنامج الجنرال “فيلاسكوألفارادو” تأميم قطاع النفط، ونقْل ملكية الأراضي المُؤَمَّمَة، ضمن خطة إصلاح زراعي، إلى تعاونيات الفلاحين، وتضمَّن مشاركة العُمّال في إنتاج وإدارة المصانع، ليُصْبِح العُمّال شُركاء في مِلْكِيّة المصانع، وفي مجال العلاقات الدّولية، أقام علاقات دبلوماسية مع كوبا واستقبل فيدل كاسترو في العاصمة “ليما”، وأقام تحالفًا مع رئيس تشيلي، الإشتراكي “سلفادور أليندي” (انتُخِبَ ديمقراطيا سنة 1971، وأطاح به انقلاب تدعمه الولايات المتحدة يوم 11 أيلول/سبتمبر 1973)، وهَدَف هذا التّحالف تنفيذ مشروع تكامل إقليمي يسمى “ميثاق الأنديز”، نسبة إلى سلسلة الجبال التي تَعْبُرُ عددًا من بلدان جنوب القارة الأمريكية، كما يهدف هذا الاتفاق السيطرة على الاستثمار الأجنبي، ما يعيق مصالح رأس المال، بشكل مباشر، وهو ما اعتبرته الإمبريالية الأمريكية تَجَاوزًا خطير لنفوذها ولنفوذ رأس المال، فنظّمت سنة 1975 انقلابًا يقوده الجنرال “فرنشيسكو موراليس” الذي حَكَم البلاد، نيابة عن اليمين المتطرف من 1975 إلى 1980 ( وُلِد سنة 1921 ولا يزال حيا، يوم 30 حزيران 2021 ) وضع حدًا لتجربة “فيلاسكو” الذي توفي سنة 1977، وانتقم اليمين، الناطق باسم الرأسماليين وكبار مالكي الأراضي الزراعية، من رُفاتِهِ، حيث فَجَّرَ كوماندوز يميني متطرف قَبْرَهُ في ليما…
تواصل حُكْم اليمين المتطرف فكان “ألبرتو فوجيموري” الأب رمزا للتّواصُل مع حُكْم الجنرال “فرنشيسكو موراليس”، ورمزًا للنيوليبرالية، ولتزايد عدم المساواة، بعد عقد الثمانينيات من القرن العشرين الذي تميز بالكفاح المسلح لمنظمة “الدّرب المضيء” المَاوِيّة، وتميز بارتفاع عدد الإغتيالات والمُداهمات والإعتقالات، بذريعة “مكافحة الإرهاب”، ومرت البلاد بفترة عدم استقرار، والحركة التقدمية بفترات مَدّ وجزر، إلى أن أدّت التعبئة الشعبية ضد سياسات الرئيس “مارتن فيساكارا”، إلى إقالته من قِبَل مجلس النواب، في 09 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، قبل انتهاء فترة ولايته، وحل محله” مانويل ميرينو” الذي استقال بعد ستة أيام بعد القمع الدموي للمظاهرات ومقتل اثنين من المتظاهرين، بينما أظهر وباء “كوفيد 19” فشل النظام، وعدم قدرته على تلبية احتياجات المواطنين، إذ أصبحت “بيرو” ضمن قائمة الدول التي لديها أعلى معدل وفيات بالوباء، مع ارتفاع عدد الفقراء، خلال سنة واحدة، بنسبة فاقت 10%.
جرت الانتخابات، سنة 2021، في ظل هذه الظروف، ويُعتبر انتصار بيدرو كاستيلو وتحالف “بيرو الحرة” نتيجة منطقية للتعبئة الشعبية من أجل ظروف معيشية أفضل، كما يُعتَبَرُ أيضًا رد فعل على الأزمة السياسية والمؤسسية الموروثة من حقبة الرئيس الدكتاتور “ألبرتو فوجيموري” وعقد التسعينيات.
لم يكن “بيدرو كاستيلو” معروفًا في الخارج، أما في داخل البلاد، فهو أحد قادة نقابة المعلمين الذين نظموا وقادوا إضرابًا وطنيًا للمعلمين سنة 2017، وأظْهَر قُدرات في الدّعاية والتّحريض وتعبئة قاعدته الإجتماعية، وشدّ انتباه الجمهور الذي يستمع إليه، أثناء الحملة الإنتخابية ببساطة تعبيره واستحضار تاريخ البلاد وسكانها الأصليين من “الإنكا” والتذكير بثوار “توباك أمارو” بمرتفعات ماتشوبيتشو” …
يشارك بيدرو كاستيلو، منذ سنة 2019، في لقاءات ونقاشات تهدف إلى توحيد التيارات اليسارية المختلفة، انبثق من هذه النقاشات والحوارات، التحالف بين النقابيين والمنظمات الفلاحية والمناضلين المستقلين (غير المُنتَمِين إلى تنظيمات)، وأنشأ التحالف ائتلاف “بيرو الحرة”، وتوسّعَ النقاش بين الحُلفاء ليشمل مسائل تتعلّق بالسياسات المحلية وكذلك في منطقة أمريكا الجنوبية، من أجل إنشاء تحالف يساري مناهض للسياسات النيوليبرالية والخصخصة، والفساد، وكل القِيَم السّلْبِيّة التي تُجسّدها عشيرة “فوجيموري”، وهي قِواسم مُشتركة بين قوى اليسار في أمريكا الجنوبية، إضافة إلى مُعارضة هيمنة الإمبريالية الأمريكية.
خاض الإئتلاف معركة سياسية حامية، أثناء الحملة الإنتخابية، ضد “كيكو فوجيموري”، ابنة الرئيس الدكتاتور “ألبرتو فوجيموري” (من 1990 إلى 2000)، والتي تَميّز خطابها بالعداء للعاملين والفُقراء ولكل ما يرمز إلى التحرّر من نير الرأسمالية، وتعدّدت أوجه شبه خطابها وبرامجها مع الرئيس البرازيلي (اليميني المتطرف) “جائر بولسونارو”، وتدعم الإمبريالية الأمريكية هذا الإتجاه، رغم الأحكام القضائية التي صدرت ضد ألبرتو فوجيموري، بتهمة الفساد والجرائم ضد الإنسانية، فيما تتم مقاضاة الابنة “كيكو” بتهمة تلقي رشاوى من شركة “أودبريخت فارغاس يوسا” العابرة للقارات (Odebrecht. Vargas Llosa ). وهي مدعومة من قبل الجيش والكنيسة والدوائر المالية ووسائل الإعلام التي شنت حملة تشهير عنيفة ضد منافسها “بيدرو كاستيلو”، وأظْهَر التّحالف اليميني استعداده لإطلاق حرب أهلية، عندما اتّضَحَ فَوز مُنافسيهم بالإنتخابات الرئاسية والنيابية، وعَمَدَ أنصار “فوجيموري” إلى تهديد وتهديد أعضاء هيئة مراقبة الإنتخابات، وترويع أنصار ائتلاف “بيرو الحُر”، بحسب وكالة “رويترز” (16 حزيران/يونيو 2021) التي اعتبرت أن المناخ مشحون بالعُنْصُرِيّة ضدّ السّكّان الأصليين وضد سُكّان الأرياف الذين منحوا أصواتهم للمرشح الإشتراكي “بيدرو كاستيلو”، وكتبت وكالة الصحافة الفرنسية (17 و 27 حزيران/يونيو 2021) أن بعض أركان اليمين البيروفي طلبوا، عبر السفارة الأمريكية، تَدَخُّل الولايات المتحدة لمَنْع فَوز اليسار في الإنتخابات، ودعمتهم شركات التّعدين التي تتخوف من إعادة تحرير الدّستور، ومن خَفْض حصتها من أرباح المعادن (النّحاس خصوصًا)، عبر زيادة حصة الدّولة، مع الإشارة أن سفيرة الولايات المتحدة ب”ليما” (عاصمة بيرو) موظفة في وكالة الإستخبارات الأمريكية، لفترة تسع سنوات، وشاركت بشكل مُباشر في تخريب العراق أثناء الإحتلال، وتدخّلت مباشرة في سير العملية الإنتخابية في بيرو، مع منظمات “غير حكومية” مُتعاقدة مع الوكالة الأمريكية للأمن القومي، وجمعت “كيكو فوجيموري” من حولها أنصار أبيها (ألبرتو فوجيموؤي) وزعماء الأحزاب اليمينية وحتى التي كانت تُصنِّف نفسها أحزابًا “وسَطِيّة”، وعددًا من الضّبّاط المُتقاعدين، فيما حمل أنصارها من أبناء الميسورين وبعض فئات البرجوازية الصّغيرة، لافتات تُنَدّدُ بالشيوعية، وعُمومًا أظهرت هذه الإنتخابات التفاف سُكّان الريف الأكثر فقراً، حول “كاستيلو” والتفاف السّكّان الأكثر ثراءً في المُدُن، تدعمهم شركات الإعلام، حول “فوجيموري” التي رَوّجت أن التّزوير شاب العملية الإنتخابية، خلافًا لتصريحات المُراقبين الأجانب الذين شهدوا ب”نظافة عملية الإقتراع” بحسب وكالَتَي “رويترز” ووكالة الصحافة الفرنسية (27 و 28 و 29 حزيران 2021)…
بعد أكثر من ستة أسابيع، أصبح “بيدرو كاستيلو” رئيسًا للبلاد، بعد “تعديل برنامجه” وتنازله عن العديد من النقاط الرئيسية، منها القُيُود على الإستثمارات الأجنبية والسياسات النّقدية ومُساهمة العُمّال في إدارة المؤسسات الإقتصادية…
كولومبيا، دَوْر وظيفي:
تُشكل كولومبيا مركزًا لإنتاج وتجارة المُخدّرات، بإشراف الولايات المتحدة التي جعلت منها احتياطيا لاقتصادها، وممرًّا للمهاجرين من الفُقراء، ضحايا الحرب الأهلية في كولومبيا، ومن بلدان أخرى أيضًا، وتحوّلت، بفعل استمرار الحرب الأهلية لعدة عُقُود، إلى مقبرة للنقابيين ولصغار الفلاحين والطّلاّب والصحافيين وللقُضاة غير الفاسدين، وللمناضلين التّقدّميين بشكل عام، كما أدّت زراعة وصناعة المُخدّرات إلى تدمير الغابات والبيئة المَحَلّية وإلى الإستحواذ على أراضي السّكّان الأصليين وتشريدهم، داخل وخارج البلاد، وإلى ارتكاب مليشيات المرتزقة (المُسلّحة والمُدرّبة أمريكيا وصهيونيا) مجازر، دَلّت عليها شهادات النّاجين، وكذلك المقابر الجماعية المُكتشَفة، ولم يضع اتفاق السّلام حدًّا للإغتيلات السياسية، ولعُنف السّلطة والمجموعات اليمينية المُسلّحة وللقتل تحت التعذيب، ولاستمرار انعدام المساواة وانتشار الفساد والعُنف الذي يستهدف حياة الفُقراء والسّكّان الأصليين بشكل خاص، ما عَمَّق الفَجْوَة الطّبقية، وما كان سببًا لإعلان الإضراب العام (نيسان/ابريل 2021) الذي دام أربعة أسابيع، رغم العُنف الوحشي الذي مارسه الجيش وقوات الشّرطة ومليشيات اليمين المتطرف التي تدعمها الحكومة، لأنها (الحكومة) تعتبر أي تحرك شعبي تهديدًا لها ولمصالح قاعدتها من الأثرياء والفاسدين، لكن قاعدة النظام بدأت تَضِيق لأن الأزمة وكذلك القمع طال فئات من البرجوازية الصغيرة، كما تضرّرت مصالح فئات أخرى، حيث أعلن اتحاد مُزارعي البُن، في العاشر من تموز/يوليو 2021، عن تراجع صادرت حُبُوب القهوة خلال النصف الأول من سنة 2021، مُقارنة بنفس الفترة من سنة 2020، “بسبب الإحتجاجات وإغلاق الطّرقات”، وفق اتحاد مُزارعي بُن القهوة، في ثالث أكبر دولة منتجة للبُن في العالم (بعد البرازيل وفيتنام)، بحسب برقية لوكالة الصحافة الفرنسية (10 تموز/يوليو 2021)، مع الإشارة أن كولومبيا تُصدِّرُ المعادن والنّفط والبُن، وهي رابع أكبر اقتصاد بأمريكا الجنوبية، بعد البرازيل والأرجنتين والمكسيك.
تميّزت “كولومبيا” كذلك بتصدير المُرتزقة من العسكريين السابقين الذين درّبتهم الإستخبارات الأمريكية، ومن مليشيات اليمين المتطرف ومجموعات تجارة المخدرات والجريمة المُنظّمة، نحو بُؤَر التّوتّر، حيث تُجَنّدهم شركات أمنية من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وجنوب إفريقيا والكيان الصهيوني، وقُتِل بعضُهم في سوريا والعراق وأفغانستان واليمن وليبيا، بعد مرور بعضهم بالإمارات، وتورّط بعضُهم مؤخّرًا في اغتيال رئيس هايتي “جوفينيل مويز” يوم السابع من تموز/يوليو 2021، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية (10 تموز/يوليو 2021)، وتَعُدّ القوات المسلحة الكولومبية ما لا يقل عن 220 ألف جندي وضابط، وهو عدد مرتفع، مقارنة بعدد السّكّان (50 مليون نسمة)، يُغادر ما بين عشرة وخمسة عشر ألف منهم صفوف الجيش سنويًّا، بمعاشات مُتَدَنِّية القيمة، بعد تدريبهم على القتل والإغتيال وتدمير بيوت وأراضي ومواشي الفلاحين الفُقراء والسّكّان الأصليين، إذ قُدِّرَت البيانات الرسمية عدد ضحايا الجيش من المَدَنِيِّين بنحو 6400، بين سنتَيْ 2002 و 2008، ادّعى الجيش أنهم من أعضاء القوات الثورية المُسلّحة لتبرير قَتْلِهم، ولحصول الضّبّاط على ترقيات وإجازات إضافية، وأظْهرت التّحرّيات أنهم مُزارعُون ومَدَنيُّون لم ينتموا لأي فصيل مُسلّح، ولا علاقة لهم بتجارة المخدّرات…
استقرّت شركة المُرتزقة “بلاك ووتر” (بعد أن غيرت إسمها إلى “أكادِيمِي”) بالإمارات، وهي تُشغّل آلاف المرتزقة، من الجنود الكولومبيين السابقين، في حراسة منشآت النفط بالخليج والمطارات بالعديد من البلدان العربية وغير العربية، وأصبحت الإمارات محطة عُبُور للمرتزقة من كل الجنسيات، منهم الصهاينة، منذ 2009، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز” (11 أيار/مايو 2021) التي أشارت أن المسؤولية القانونية لانتهاكات حقوق الإنسان تقع على عاتق الأشخاص الذين يرتكبون الجرائم، ولا تتحمل الدول أو الشركات المُشغّلة للمرتزقة أية مسؤولية…
كان إعلان “الإصلاح الضّريبي” وزيادة ضريبة القيمة المُضافة (ضريبة الإستهلاك) وتوسيع قاعدة الضرائب، لتشمل شرائح فقيرة، القطرة التي أفاضت كأس الغضب الشعبي ضد السياسات اليمينية والنيوليبرالية التي يُمثلها الرئيس “المُحافظ” جدًّا “إيفان دوكي”، فعمّت المُظاهرات البلاد، بداية من يوم 28 نيسان/ابريل 2021، وجابهت قوات القمع (الجيش والشرطة) المُحتجِّين بالرصاص الحي، واضطر الرئيس في الثاني من أيار/مايو 2021، إلى إعلان سحْب “إصلاحاته”، لكن تواصلت الإحتجاجات ضد الوضع الإقتصادي والإجتماعي، وضد عُنف الجيش والشرطة والمليشيات اليمينية المتطرفة، وضد مُصادرة أراضي صغار المزارعين، والسّكّان الأصليين، وفي الرابع من أيار/مايو 2021، أدانت العديد من المنظمات الدّولية والأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي، “الإستخدام المُفرط للقوة” الذي تمارسه القوات الحكومية، والذي أودى (عند ذلك التاريخ) بحياة ما لا يقل عن عشرين متظاهر، وإصابة حوالي تسعمائة بجراح، بحسب بيانات الحكومة، ما أدّى بالولايات المتحدة (الدّاعم الرئيسي للنظام) للدّعوة إلى “ضبط النّفس”، واعتَبَر الفاتيكان (الذي يدعم اليمين “المسيحي” الحاكم) عمليات إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين “جريمة ضد الإنسانية” (موقع إذاعة الفاتيكان، بتاريخ 12 آب/أغسطس 2021)، وأدّى عنف الجيش والشرطة إلى قتْل واحد ستين متظاهر، وجرح أكثر من 2400، حتى منتصف تموز/يوليو 2021، بحسب البيانات الحكومية…
بعد مُضِي حوالي ثلاثة أشهر، قدّم الرئيس “إيفان دوكي” نسخة جديدة من “الإصلاح الضريبي”، لا تختلف في الجوهر عن النسخة السابقة، ما أثار غضب المواطنين الذين تظاهروا بالآلاف يوم 20 تموز/يوليو 2021، ضد الثراء الفاحش للبعض، ومن أجل حق الجميع في الصحة والتعليم، وعدم التّعرّض إلى عُنف أجهزة الدّولة ومليشات اليمين المتطرف، في ظل ارتفاع نسبة الفقر إلى 42% أو حوالي 21 مليون فقير من أصل خمسين مليون نسمة، بحسب صندوق النقد الدّولي…
لم تُسْفر المحادثات بين الحكومة وأحزاب المعارضة والنقابات ولجنة المُعَطّلين عن العمل، عن نتائج، رغم تعليق الإضراب العام، بعد 49 يومًا من إطلاقه، وشجع الدّعم الأمريكي نظام كولومبيا على تشديد القمع، رغم التراجع التكتيكي، حيث أعلن الرئيس الأمريكي، يوم 29 يونيو/حزيران 2021 (وتكررت تصريحات الدّعم بعد ذلك) دعم حليفه الكولومبي “في مواجهة الأعمال الإرهابية”، وفي مواجهة نظام فينزويلا الذي تمكّنت الولايات المتحدة من إضعافه، ولكنها لم تتمكّن من إسْقاطِهِ، وانقطعت العلاقات الدبلوماسية بين الجارتَيْن فنزويلا وكولومبيا، بعد وصول دوكي إلى السلطة في كولومبيا، سنة 2018، بدعم من الجيش الأمريكي (الذي يمتلك قواعد عسكرية على حدود فنزويلا) ومن وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية، بهدف الإطاحة بنظام فنزويلا…
الإنتخابات كمُتَنفّس لجمهور الغاضبين:
وردت في التقرير نصف السّنوي لصندوق النقد الدّولي (بداية تموز/يوليو 2021) بيانات متشائمة بخصوص اقتصاد أمريكا الجنوبية، رغم التفاؤل بتحسّن الوضع سنة 2022، وأصدرت منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية توقعات “متفائلة، لكنها حَذِرَة، لأن التّعافي قد يكون بطيئا، وقد يستغرق فترة أطول من المتوقع للعودة إلى مستوى سنة 2019” (التي لم تكن جيدة)، لكن يُمكن إلهاء جماهير الغاضبين من الفُقراء بالمهرجانات الخطابية ضمن الحملات الإنتخابية، وتوزيع بعض الفتات على بضعة آلاف من الفُقراء وتوزيع الوُعود على الملايين…
تُشكّل الإنتخابات مُتنفّسًا للجماهير الغاضبة وغير الراضية عن الوضع، فيما تُشكل أخفّ الأضرار للأثرياء والفئات الحاكمة، ففي حال فوز رئيس من اليسار، يتحمّل مسؤولية إصلاح الخراب الذي خلفته سنوات أو عُقود من الليبرالية (كما في تشيلي أو بيرو)، ويكون مُقيّدًا بالدّستور، وبجهاز الإعلام وبمنظومة التعليم الخاص وبالمؤسسة الدّينية، ما يُعسِّرُ مهمة تجاوز النظام الرأسمالي، عبر الإنتخابات، لو تَوَفّرت إرادة تجاوزه، بدلَ إصلاحه، ولذلك لم يُفْضِ حُكْم اليسار في أورغواي أو البرازيل أو هندوراس أو غيرها إلى تغيير في طبيعة النّظام، وكان أقصى ما فعله حزب العُمّال في البرازيل، أكبر اقتصاد بأمريكا الجنوبية، ارتقاء بعض الآلاف من الفُقراء إلى صفوف البرجوازية الصّغيرة، وتحويل بضعة ملايين إلى مُستهلِكِين، عبر المُساعدات الحكومية وإعادة توزيع جزء صغير من الثروة، بواسطة الإنفاق الحكومي على البنية التحتية والتعليم والصحة والسّكن…
جرت وتجري انتخابات في عدد من بلدان أمريكا الجنوبية، سنة 2021، في ذروة انتشار وباء “كوفيد 19″، وفشل الأنظمة القائمة في توفير الحد الأدنى للوقاية، نظرًا لانتشار الفَقْر ولتخريب المنظومة الصّحية، طيلة عُقُود، وتزامن انتشار الوباء مع الإنتفاضات الشعبية التي انطلقت في الرّبع الأخير من سنة 2019 وتواصلت في بعض البلدان حتى بعد منتصف سنة 2021 (في تشيلي، على سبيل المثال) ولذلك شكّلت الإنتخابات مُتنفّسًا، لكنها اتّسمت بالعنف الشديد، ففي “بيرو” قُتِلَ أثناء الحملة الإنتخابية ما لا يقل عن 16 مواطن، وفي المكسيك قُتل تسعون مواطنا، وفي تشيلي يتواصل القمع، قبل انتخابات يوم 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 التي قد تُفضي إلى وضع حدّ للتوافق الطّبقي السّاري من 1990، وإرساء توافق جديد، قد يميل قليلاً نحو اليسار، بمفهومه الفَضْفَاض، فيما يُنهي “دانيال أورتيغا” سنته الثالثة عشر من الحكم المتواصل بنيكاراغوا، في ظل حملة أمريكية ضد الحكومات التقدمية بفنزويلا وبوليفيا، ومحاولات لعرقلة تنفيذ برنامج رئيس المكسيك “لوبيز أوبرادور”، منذ سنة 2018.
في هندوراس (حوالي تسعة ملايين نسمة)، اتسم المناخ بالعنف، منذ إزاحة الإستخبارات الأمريكية الرئيس المنتخب “إيمانويل زيلايا”، سنة 2009، وتوثيق العلاقات مع الكيان الصهيوني (راجع الفقرة الخاصة بتغلغل الكيان الصهيوني في أمريكا الجنوبية)، واتسمت انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2017 بالعنف الحكومي، وبإعلان حالة الطوارئ وحظر التجول الليلي (من السادسة مساء إلى السادسة صباحًا)، إثر احتجاجات أنصار مُرشّح اليسار “سلفادور نصر الله” على التزييف المُحتمل للنتائج من قِبَل أنصار الرئيس “خوان أورلاندو هرنانديز”، ووصفت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان هذه الإجراءات بأنها “غير دستورية” واعتبرت إعلان حالة الطوارئ وقرارات وتصرفات الحكومة “إرهاب دولة ضدّ المدنيين الذين يحتجون على تزوير الإنتخابات”، وأصدرت بيانا يوم الخامس عشر من كانون الثاني/ديسمبر 2017، للتنديد بقرار الحكومة مَنْح الجيش والشّرطة صلاحيات واسعة، أدّت إلى قتل ما لا يقل عن 16 شخصًا وجرح ما لا يقل عن مائة، واعتقال حوالي 1700 مواطن ومواطنة، خلال الإضراب العام احتجاجًا على المُخالفات التي ارتكبتها لجنة الإنتخابات، باعتراف تقارير المراقبين التابعين لمنظمات محلية وأجنبية، منها مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في هندوراس الأحد، الذي اتهم السلطات “بعدم احترام حقوق الإنسان وعدم احترام أرواح الناس والسلامة البدنية”، خصوصًا بعد الإنقطاعات المتعددة للكهرباء وتوقّف أجهزة الحاسوب عن العمل، في مراكز فرز الأصوات، ما شكّل تعلّة للرئيس الذي قَرّر إشراف الرئاسة مباشرة على عمليات الفرز، وتزييف النتائج وسرقة الفَوز بمنصب الرئاسة…
دعمت الولايات المتحدة رئيس هندوراس “خوان أورلاندو هرنانديز”، المتهم بتزييف نتائج انتخابات 2017، قبل أن تتخلّى عنه لاحق، وتتهمه بالمتاجرة بالمخدّرات، خصوصًا بعد تنظيم تجمعات احتجاجية عديدة، قريبًا من موقع السفارة الأمريكية، ومهاجمتها أحيانًا (عندما يتمكن المحتجون من الإقتراب من السفارة)، مثلما حصل يوم الأول من حزيران/يونيو 2019، حيث أضرم محتجون النار في بوابة دخول السفارة الأميركية في العاصمة “تيغوسيغالبا”، خلال ثاني يوم من الاحتجاجات الضخمة ضد الرئيس خوان أورلاندو هيرنانديز، الذي أصْدَر مراسيم تهدف خصخصة القطاع العام والخدمات الأسياسية، بحسب وكالة رويترز وأ.ف.ب. (02/06/2019) وهتف المحتجون شعارات مناهضة للإمبريالية الأمريكية، بحسب وكالَتَيْ رويترز وأ.ف.ب. (02 حزيران/يونيو 2019)، وتكررت الإحتجاجات التي تربط مباشرة بين الرئيس والإمبريالية الأمريكية التي تدعمه، وبعد بضعة أشهر نشرت بعض الصّحف الأمريكية (من 02 إلى 04 كانون الأول/ديسمبر 2019) خبر ملف قضائي وتحريات يُجريها جهاز القضاء الأمريكي بشأن رئيس هندوراس “خوان أورلاندو هيرنانديز”، الذي كان حليفًا رئيسيًّا للإمبريالية الأمريكية في المنطقة، منذ سنة 2014 (خلال فترة رئاسة باراك أوباما، ودونالد ترامب)، وشقيقه النائب بكونغرس هندوراس، في إطار تحقيق يتعلق بتهريب مخدرات وأسلحة وغسيل أموال، وحماية عصابات المخدّرات والجريمة المُنَظَّمَة، لقاء رشاوى، وأصبح الإتهام رسميًّا وعَلَنيًّا في العاشر من آذار/مارس 2021، وتُظهر ملفات القضية أن إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية بدأت التحقيق في قضية هيرنانديز وآخرين بشأن تهريب المخدرات وغسيل الأموال، منذ سنة 2013، سنة انتخابه رئيسًا بعد أن ترأس البرلمان أو الكونغرس، وأصبح الملف بمثابة الورقة الإحتياطية، التي تُستخدم في حال تَضَرّر مصالح الولايات المتحدة، جراء دعمها للرئيس الفاسد، ما يُؤَكّد تخلّي الإمبريالية الأمريكية عن عُملائها، والتّخلّي عن حمايتها لهم، عندما تصبح الخسائر المحتلمة أعلى من الأرباح.
من المُقرّر إجراء الإنتخابات العامة في الثامن والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2021، وتشمل رئاسة الجمهورية ونواب الكونغرس ونواب برلمان أمريكا الوسطى وأعضاء مجالس البلديات، في مناخ اتّسم بالعُنف، حيث تمتلك هندوراس واحدًا من أعلى مُعدّلات قتل المدنيين ( الفقراء والنساء والنقابيين والمُعارضين) في العالم، وتنتشر عصابات المخدرات العنيفة التي جعلت من أراضي البلاد طريقًا لعبور المهاجرين إلى الولايات المتحدة وطريقا لتهريب مُخدّر الكوكايين نحو أمريكا الشمالية…
الكيان الصهيوني في أمريكا الجنوبية
اعتبرت منظمات وأحزاب اليسار بأمريكا الجنوبية نضال الشعب الفلسطيني ضد الإمبريالية والصهيونية دَعمًا لِنضالهم، وجزءًا منه، بينما اعتبر اليمين نفسه جُزْءًا من الإمبريالية ومن الصّهيونية، ولئن بقي دعم اليسار الحاكم فضفاضًا، لا يتجاوز تجميد أو قطع العلاقات إثر كل عدوان عسكري على قطاع غزة أو الضفة الغربية، ولا يتجاوز دعم “حلّ الدّولَتَيْن” (إحداهما قائمة وتحتل كامل فلسطين وجزءًا من أراضي بلدان عربية مُجاورة، والأخرى افتراضية) فإن التّعاون بين الكيان الصّهيوني واليمين الحاكم بأمريكا الجنوبية كان ولا يزال عَمَلِيًّا ومُمَنْهَجًا وناجعًا وواسعًا يَشْمَلُ التعاون السياسي والإقتصادي والعسكري والدّبلوماسي، ويشمل تعاونًا بين أجهزة القمع والتّجسّس، وعند الإطاحة بأي حكومة تقدّمية، يُعيد اليمين (في بوليفيا والبرازيل وإكوادور وغيرها) العلاقات مع الكيان الصهيوني، بسرعة فائقة، واستعان اليمين الذي أطاح بالرئيس “إيفو موراليس” (بوليفيا) بالجيش الصهيوني لقمع الإحتجاجات ضد قادة الإنقلاب المدعوم أمريكيا، ووصف وزير الخارجية الصهيوني الحكومة الإنقلابية بالصّديقة، وفي فنزويلا، أعلن غُلام أمريكا (خوان غوايدو) الذي نَصّبته أمريكا رئيسًا افتراضيا، أنه سوف يبذل جهده لإعادة العلاقات مع كيان الإحتلال الصهيوني. أما في البرازيل فإن الرئيس اليميني المتطرف “جاير بولسونارو” مهووس بالكيان الصهيوني وسَرّبَ عدوى هذا الهُيام لأبنائه، فيما يرفع أنصاره العلم الصهيوني في كافة تظاهراتهم.
انظمّت “هندوراس”، يوم 24 حزيران/يونيو 2021، إلى الولايات المتحدة ودُوَيْلة كوسوفو وغوتيمالا، لتصبح رابع دولة تنقل سفارتها إلى القُدْس، بإشراف الرئيس اليميني “خوان أورلاندو هرنانديز” الذي أعلن توقيع اتفاقيات مع العدو الصهيوني في قطاعات الزراعة والتكنولوجيا العسكرية والسياحة والصحة والمياه وغيرها، في حين ما انفكّت تتزايد حالات الوفاة بين الفُقراء، بفعل انتشار وباء “كوفيد 19” بهندوراس…
يدعم الكيان الصهيوني أيضًا الرئيس التشيلي “سيباستيان بينيرا”، في قمع الإحتجاجات الشّعبية، كما دعم الجنرال “أوغوستو بينوشيه”، بعد انقلاب 1973، ويبيع الكيان الأسلحة ومعدات القمع و”مكافحة الشغب” إلى تشيلي (ودول عديدة أخرى)، مع إرسال خُبَراء القمع لتدريب قوات الشرطة والجيش على استخدام المُعدّات لقمع انتفاضة شعب تشيلي، منذ تشرين الأول/اكتوبر 2019، وشرطة وجيش بلدان أخرى بأمريكا الجنوبية، ولئن شكّلت تشيلي نموذجًا للتعاون القمعي مع الكيان الصهيوني، فإن كولومبيا تُعتَبَر نموذَجًا للتعاون القمعي وتبادل الخبرات مع الصهاينة بإشراف أمريكي، ما ساعد اليمين المتطرف الحاكم بكولومبيا على تزوير نتائج الإنتخابات، سنة 2018، ضد الفدائي اليساري السابق “غوستافو بيترو”، مع تهديده بالإغتيال، وشراء الأصوات وتهديد كل من يُدْلِي بصوته لفائدة “بيترو”…
_________
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.