يمكننا أن نعتبر هذه الورقة- وثيقة تحذير بالكرت الأحمر للفلسطينيين والأمة العربية على امتداداتها؛ فالسطو الصهيوني المسلح على فلسطين يتصاعد ويتغلغل في اختطاف التاريخ والجغرافيا والرواية، ففي ظل الانشغالات العربية والإقليمية والعالمية بالحروب والمعارك والصراعات البينية والإقليمية، وفي الوقت الذي تتابع فيه عين صهيونية الجبهة الجنوبية -مصر- وتطوراتها السياسية الداخلية، وتطورات جبهتها مع أثيوبيا وسد النهضة، وبينما تتابع العين الأخرى تطورات الجبهة الشمالية، وخاصة ما يجري في سورية ولبنان؛ لم تغفل المؤسسة الصهيونية مخططاتها التهويدية الخاصة بفلسطين، بل هي تعتبر الأحوال العربية الراهنة؛ فرصة نادرة وذهبية -كما أعلن نتنياهو ومن قبله من زعماء الكيان على مدار الساعة- للانقضاض على ما تبقى من الملفات الفلسطينية؛ فأخذت سلطات الاحتلال الصهيوني تصعد من حربها التهويدية الجارفة على المكان والزمان الفلسطينيين، بل إنها انتقلت إلى مستوى استراتيجي جديد أشد خطورة وأعمق تغلغلًا وتعمقًا في تهويد واختطاف التاريخ والتراث والمقدسات في فلسطين. فلقد كان المستشار القانوني السابق للحكومة الإسرائيلية يهودا فاينشتاين أعلن مثلًا: “أن الحرم القدس ي الشريف جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل، ولذا ينطبق عليه القانون الإسرائيلي، ولا سيما قانون الآثار وقانون التنظيم والبناء” -الثلاثاء 17/7/2012-، ما يمنح الاحتلال من وجهة نظرهم؛ مطلق الحرية والتصرف في كامل مساحة الحرم القدسي الشريف، بما يلائم مخططاتهم التهويدية من عمليات هدم، وتدمير، وتغيير للمعالم، على طريق تحقيق هدفهم المنشود بإقامة الهيكل المزعوم، على أنقاض المسجد الأقصى المبارك؛ سعيًا لاستكمال مشروع “اختلاق إسرائيل”، واستكمال “الرواية الصهيونية” المزيفة.
التغلغل في اختطاف التاريخ والتراث
في ظل هذا القرار الصهيوني الخطير، وبالتوازي معه؛ كان المؤتمر العربي السادس للأسماء الجغرافية، الذي نظمه المركز الجغرافي الملكي الأردني في عمان قد اختتم أعماله، وخرج المشاركون في المؤتمر بتوصيات تنطوي على أهمية إستراتيجية توثيقية عليا في هذه المحطة المصيرية في تاريخ الصراع مع المشروع الصهيوني، وكان من أهم التوصيات؛ تلك التي تدعو إلى تشكيل لجنة خاصة من الخبراء العرب المختصين، وتكليفها بجمع الوثائق والخرائط القديمة، وتوثيق الأسماء الجغرافية العربية، وتثبيت أسماء المواقع الفلسطينية التي تتعرض للانتهاكات الصهيونية، كما أوصى المؤتمر بتوفير الدعم لهذه اللجنة. وقال المشاركون أن التوصية جاءت نتيجة لما قام ويقوم به الكيان الصهيوني حتى الآن، من تهويد وتغيير وتحريف وإزالة للأسماء العربية على أرض فلسطين المحتلة، وفي المناطق المحتلة الأخرى، وحفاظًا على الإرث الثقافي والتاريخي العربي، الذي يتعرض لأبشع عمليات الإزالة والطمس”.
وفي التهويد والتجريف وعمليات الإزالة والطمس للأسماء العربية في فلسطين فحدث…!
فمساحة عمل وتحركات البلدوزرات الصهيونية، لا تترك شبرًا فلسطينيًا إلا وتعمل فيه تجريفًا وتدميرًا وتخريبًا وتهويدًا؛ فما يجري هناك في فلسطين المحتلة عام 48، من الجليل إلى المثلث فالنقب؛ امتدادًا لكل الأماكن الفلسطينية المحتلة عام 67، من الخليل والقدس حتى نابلس، حتى نهر الأردن، هي حروب صهيونية مفتوحة على كافة الجبهات، هدفها الاستراتيجي؛ تهديم مقومات المشهد العربي بكافة مضامينه التاريخية والحضارية والتراثية والدينية، واستبداله بمشهد صهيوني كامل؛ مغلف بنصوص توراتية ومقولات سياسية مزيفة؛ ينتهي إلى استكمال اختلاق رواية وهوية وحضارة صهيونية مزيفة، على أنقاض روايتنا وهويتنا وحضارتنا.
ولذلك ليس صدفة أو يقظة صهيونية مفاجئة؛ أن يعلن نتنياهو في عهده عن شن حرب تراثية حضارية صريحة متصلة؛ من أجل تهويد وضم نحو 30 ألف معلم تراثي يهودي مزعوم؛ تمتد حسب العقيدة اليهودية من الحرم الإبراهيمي في خليل الرحمن وكل المواقع الأثرية، إلى مسجد بلال –قبة راحيل- في بيت لحم، إلى قبر يوسف في نابلس، وجبل عيبال في شمال المدينة، وجبل جرزيم “النار” جنوب المدينة، وموقع القطار في قرية سبَستيا، وصولًا إلى مغارات “قمران” في البحر الميت، مع التركيز دائمًا وأبدًا على المدينة المقدسة باعتبارها “مدينة الآباء والأجداد” لهم؛ فكل ذلك يأتي في سياق الاستراتيجيات والإيديولوجيات الصهيونية التي تسعى إلى تهويد واختطاف فلسطين وتزييف تاريخها.
وبالتزامن مع الإجراءات والاجتياحات على الأرض؛ حرصت المؤسسة الصهيونية على تزييف البعد الثقافي التربوي أيضًا؛ فانتقلت حملة التهويد والتزييف إلى التربية والتعليم، حيث أطلق وزراء التعليم الصهاينة تباعًا، حملات متتابعة تهدف إلى “تعميق الصهيونية للتراث اليهودي داخل المدارس في ”إسرائيل”، وتشتمل الخطط التي جري تعميمها على المدارس الإسرائيلية بما فيها المدارس العربية هناك، على مصطلحات تتحدث عن أهم وأبرز الأحداث المتعلقة بالصراع عبر حملات مركزة موجهة معسكرة صهيونيًا، بما يسوق ويكرس الرواية الصهيونية المزيفة، وقررت الحكومة الإسرائيلية إلزام كافة طلبة الجامعات والمعاهد العليا في “إسرائيل” بالانضمام إلى دورات تعليمية حول”تراث إسرائيل”، ثم قامت وزارة المعارف الإسرائيلية، بتنظيم جولات لآلاف الطلاب في المناطق التي يعتبرونها “جزءًا من تراث الشعب اليهودي”.
وفي المشهد، تتلاحق وتتكاثف الأحداث والتطورات والحملات الصهيونية، على نحو محموم لم يسبق أن شهدناه قبل ذلك، وكأن الكيان الصهيوني في سباق مع الزمن والأحداث والثورات العربية، يريد أن يجهز على الأرض والتاريخ والحضارة والتراث والمقدسات، وكل المعالم التي تحكي حكايات الوجود والحضور العربي في هذه البلاد-فلسطين-، قبل أن يشتد عود العرب، وقبل أن يتمكنوا من صياغة جملة عربية واحدة مفيدة في مواجهة تاريخية مع ذلك الكيان.
العبث بحقائق التاريخ والجغرافيا العربية
في الآونة الأخيرة؛ ارتفع منسوب الهجوم الصهيوني، إلى مستوى العبث كذلك بحقائق التاريخ والجغرافيا والمسميات العربية، ليطال اللغة وأسماء المعالم العربية التاريخية؛ فأعلن وزير المواصلات الصهيوني على سبيل المثال، عن حملة لتغيير الأسماء والمسميات العربية على امتداد فلسطين والقدس…!
وتأتي هذه الحملة التهويدية للغة والمسميات، كخطوة سياسية أيديولوجية تهويدية خطيرة؛ تهدف الى شطب الأسماء العربية للمكان الفلسطيني من الذاكرة، وإجبار العرب على التعامل مع أسماء صهيونية جديدة؛ تحل محل الأسماء العربية التاريخية، ما يضعنا أمام الحقيقة الكبيرة الساطعة، وهي أن الدولة الصهيونية؛ قامت وما تزال تواصل تدمير وشطب عروبة فلسطين تاريخًا وحضارةً وتراثًا، كما قامت، وما تزال تواصل تهجير الشعب الفلسطيني وتهويد أرضه ووطنه وتحويله إلى “وطن يهودي”..!
فلم يعد سرًا؛ أن تلك الدولة اقترفت أبشع أشكال التطهير العرقي، وقامت بتهديم المكان العربي، على امتداد مساحة فلسطين؛ فدمرت ومحت عام 48، نحو ستمائة قرية وبلدة فلسطينية على رؤوس أصحابها، في الوقت الذي واصلت فيه الحكومات الصهيونية المتعاقبة منذ ذلك الوقت، سياسات التطهير العرقي ذاتها كنهج وطريق وحيد لإلغاء الآخر العربي، ومحوه عن وجه الأرض الفلسطينية، والمثير في هذا السياق، هي تلك الوثائق التي يتم الكشف عنها تباعًا، والتي تعترف بأن أعمال الهدم والتدمير والتطهير، تمت كلها بقرارات من قبل القيادات العليا الصهيونية، عن سبق تخطيط وتبيت وإصرار؛ فكشفت صحيفة هآرتس العبرية، النقاب مثلًا، عن “أن ما حدث في -فلسطين- إنما هو تدمير جذري لمدن وقرى، وتدمير لحضارة كاملة، يحاضرها وبماضيها، ومن معالم للحياة خلال 3000 سنة”، وأكدت “أن الهدم كان يهدف إلى القضاء على بقايا الوجود العربي الذي أزعج القادة الإسرائيليين”.
وعلى نحو مكمل، نذكر بما جاء في تقرير للكاتبة الإسرائيلية تسفرير رينات نشر في هآرتس بعنوان: “أين اختفت القرى العربية؟”:
“إن المؤرخين الناقدين للحركة الصهيونية بصورة خاصة، مثل الدكتور ايلان بابيه، يؤكدون أن اختفاء القرى الفلسطينية من مواقعها، هو جزء من سياسة منهجية مبرمجة لطمس وجودها، من أجل بلورة تاريخ جديد يتلاءم مع الرواية الصهيونية، التي تدعي أن البلاد كانت فارغة، وإنها تحولت إلى أرض خضراء مزدهرة بسبب نشاطات الكيرن كييمت-الصندوق القومي اليهودي- وأمثالها”.
هكذا هي الحكاية إذن؛ بالمعطيات والحقائق والشهادات، وبالوثائق المفرج عنها من أرشيف الجيش الصهيوني، الذي عمل منذ قيام الدولة الصهيونية، على إزالة آثار القرى والبلدات العربية التي تم تهجير سكانها ومحوها من الوجود، وقام بتنفيذ حملات بأوامر صادرة في حينه، عن الجنرال موشيه ديّان، الذي حول فلسطين إلى صحراء مدمرة لطمس الوجود العربي هناك.
صراع بقاء “إما نحن واما هم”
هي إذن؛ حروب مفتوحة متصلة يشنها الكيان الصهيوني المختلق، على فلسطيننا، ويخضعها من بحرها إلى نهرها تحت مخالب التجريف والتهديم والاقتلاع والترحيل والتهويد، وهو في ذلك يوظف كل ما يمتلك من قدرات وجيوش وآليات وإدارات وقرارات ومخططات على الأرض، يضاف إليها كل ما يمتلك من علاقات ولوبيات وتأثيرات على المستوى الدولي والأمريكي خاصة، لغاية دعم وحماية حروبه الوجودية الشاملة، الجارية على قاعدة “إما نحن أو هم”، التي تبناها واعتمدها منذ ما قبل قيام كيانهم؛ الآباء المؤسسون وأقطاب دولتهم على مدى العقود الماضية، وإن كان هناك من يعارض منهم ذلك في سنوات ماضية؛ فالمؤشرات تتحدث اليوم عن شبه إجماع صهيوني على “إما نحن وإما هم”، والإجهاز على الملفات الفلسطينية بكاملها.
في فلسطين المحتلة 48؛ تداعت كافة القوى والفعاليات الوطنية العربية، للتصدي لهذا الهجوم الصهيوني الاستراتيجي التربوي الثقافي الاقتلاعي الجارف، الذي يستهدف الرواية والحقائق العربية برمتها، ونجحت في “وضع كراسة أطلقوا عليها اسم: هوية وانتماء؛ مشروع المصطلحات الأساسية للطلاب العرب”، وهي رد على مشروع المصطلحات الصهيونية، وتتسم المصطلحات العربية في هذا المشروع بالتاريخية وهدفها تكريس الهوية والانتماء للطلاب العرب.
وتتصاعد مظاهر التصدي العربي هناك على نحو فاعل وملفت، لدرجة أن الإجماع الصهيوني في المؤسسة الأمنية السياسية الأيديولوجية، يعتبر “أن عرب 48 يشكلون تهديدًا استراتيجيًا ووجوديًا لإسرائيل”، وهم يبيتون، بل ويتخذون كافة القرارات والإجراءات العنصرية الحصارية التضييقية التي من شأنها التخلص منهم بشتى الطرق والوسائل.
وفي القدس والضفة الغربية المحتلة؛ يسطر الفلسطينيون عبر هباتهم وانتفاضاتهم المتتابعة ملاحم صمود وتصد عز نظيرها، في ظل اختلالات القوى المرعبة، ويجمعون اليوم على مواصلة الكفاح والتصدي عبر كافة أشكال المقاومة المتاحة، وصولًا إلى الخلاص من الاحتلال.
نثق ثقة عالية بأن هوية الوطن المحتل؛ بتراثه وتاريخه ومقدساته وروايته أقوى وأبقى، ونعتقد أن كافة مخططات محو التاريخ العربي، لبناء رواية ومشهد صهيوني آخرين، تصطدم بإرادة البقاء والصمود الأسطوري الفلسطيني…!
يراهنون على أن الآباء يموتون والأبناء ينسون… ولكن لسان حال أهل فلسطين من الحائط للحائط يقول: إننا هاهنا باقون…
غير أن فلسطين تحتاج إلى كل ذلك، إلى حضور عربي عروبي حقيقي ومسؤولية عربية حقيقية، كما تحتاج إلى فعل عربي إسلامي مشترك مؤثر، في مواجهة تلك الحروب الصهيونية الاقتلاعية الوجودية، كما تحتاج إلى المزيد والمزيد من تفعيل الجبهة العالمية- الأممية المقاطعة والمناهضة للاحتلال والعنصرية الصهيونية.
:::::
https://hadfnews.ps/post/87590
_________
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.