هوامش من الحملة الإنتخابية الفرنسية، الطاهر المعز

  • العلمانية الفرنسية وعُقْدَة الإسلام
  • التضليل الإعلامي خلال الحملة الإنتخابية الفرنسية: نموذج قضية الشعب الفلسطيني

● ● ●

(1)

العلمانية الفرنسية وعُقْدَة الإسلام

لم تكن فرنسا الحالية (ولا اللغة الفرنسية) موجودة خلال سلسلة العدوانات العسكرية التي سُمِّيَت “الحروب الصليبية” ضد المسلمين والعرب (مسلمين ومسيحيين)، لكن أولئك الذين حكموا أراضي فرنسا الحالية شاركوا بنشاط في “الحروب الصليبية”، منذ عام 1095.

في غرب إفريقيا، حيث انتشر الإسلام (السينغال وغينيا…) أقامت السفن الحربية الفرنسية”، منذ بداية القرن السادس عشر شركات بحرية وبُؤَر استعمارية، استولت على أراضي وثروات المناطق الساحلية، وشاركت في مطاردة واصطياد السكّان السود المَحَلِّيِّين (مسلمين أو غير مسلمين) وفي تجارة الرقيق (في أسواق غرب فرنسا الحالية، مثل “بوردو” و “نانت” وغيرها)، منذ العام 1510، وفي تصدير “العبيد” إلى أمريكا…

وقّعت الإمبراطورية العثمانية معاهدة استسلام سنة 1536، ما مكّن فرنسا من توسيع سيطرتها على العديد من الأراضي التي تحتلها تركيا، حتى أن المارشال هوبير ليوتي تخيل نفسه “مشير”، أو “لواء الإسلام”.

كانت الثورة الفرنسية (1789) “تقَدُّمِيّة” في عصرها، ولكن للتّقدّمية آنذاك حُدُودُها، فلم تضع سلطة الثورة حدًّا للإستعمار، بل عززته في المستعمرات التي تسمى حاليًا “مقاطعات وأقاليم ما وراء البحار”، خصوصًا بعد الرّدّة والإنتكاسات العديدة للثورة الفرنسية. أما الجزائر فقد استعمرتها فرنسا سنة 1830، واستعمرت كل شمال إفريقيا وغرب إفريقيا والعديد من الأراضي الأفريقية الأخرى في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بل انتقمت السّلطات الإستعمارية الفرنسية من قادة “كمونة باريس” التي سُحقت بالتعاون مع “العدو” البرُوسِي الألماني، فأرسلتهم إلى المُستعمرات، خاصة الجزائر وكالدونيا. بعد الحرب العالمية الأولى، تقاسمت القوى المُنتصرة، بريطانيا العظمى وفرنسا، المستعمرات الألمانية وما تبقى من الإمبراطورية العثمانية، وبذلك وسّعت فرنسا وجودها في “بلاد الإسلام”، واحتلّت وقَسّمت سوريا، وريثة الدّولة الأموية، ومنحت جزءًا ثمينًا منها إلى تركيا (لواء إسكندرون) فيما احتلّت بريطانيا العراق، وريثة الدّولة العباسية، ومنحت جزءًا منها (الأحواز) إلى إيران…

في سوريا ولبنان – اللتين كانتا تشكلان بلدًا واحدًا قبل الاحتلال الفرنسي من 1918 إلى 1946 – فرض الإحتلال الفرنسي ذِكْرَ الدِّين في بطاقات الهوية، وفَرَضت فرنسا “الطائفية السياسية” في لبنان ، حيث يتم توزيع جميع المناصب والسلطات والمسؤوليات العامة على أُسُس الانتماء الديني والطّائفي وليس بحسب الخبرة والكفاءة.

بعد قرن من النقاش داخل فرنسا، كان قانون 1905 بمثابة حل وسط لتطبيق مَبْدَأ الفصل بين الكنيسة والدولة، المعروف باسم قانون العلمانية، واحتفظت الكنيسة الكاثوليكية بمعظم امتيازاتها: ملكية الأرض، والتعليم، وما يسمى بالأعمال الخيرية، وغيرها، وتكفلت الدّولة بالإنفاق، من المال العام، على صيانة المباني الدينية، التي شُيدت قبل عام 1905. أما الدّيانة اليهودية فقد شملها “مرسوم كريميو” ( Décret Crémieux ) في الرابع والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر 1870، الذي اعتَبَرَ المواطنين اليهود، وكذلك يهود المُستعمرات (دون غيرهم من أتباع الديانات الأخرى)، فرنسيين كاملي الحقوق، ما مكّن من تَمْيِيز يهود الجزائر وفصلهم، بل سَلْخِهِم عن بقية مواطني بلدِهِم، فتحوّلوا من مُستَعْمَرٍ إلى حليف موضوعي للمُسْتَعْمِرِ، وغادروا بلدَهُم الجزائر، ورحلو مع جيش الإستعمار الفرنسي، بعد هزيمته، سنة 1962، وعمومًا لم تُطبِّق فرنسا الإستعمارية قانون 1905 (العلمانية) في مقاطعات وأقاليم ما وراء البحار (دوم-توم) ، ولا في المستعمرات الأخرى، ففي الجزائر، التي قسّمتها السلطات الإستعمارية إلى ثلاث ولايات (مُحافظات) “فرنسية”، كان يتم تطبيق قانون الشعوب الأصلية ( Code de l’indigénat ) وفي غرب إفريقيا، كان يُطَبَّقُ قانون السّود ( Code Noir )، حيث تمت إدارة شؤون المسلمين ( الميراث والزّواج والشّعائر…) بالتعاون مع الشيوخ التقليديين والمُشرفين على الطريقة المُريدية والتيجانية وغيرها…

للقارئ حرِّيّة الإستخلاص والإستنتاج

(2)

التضليل الإعلامي خلال الحملة الإنتخابية الفرنسية

نموذج قضية الشعب الفلسطيني

يُهمل معظم مُرَشَّحِي الإنتخابات الفرنسية، الرئاسية ( 10 و 24 نيسان/ابريل 2022 ) والتّشريعية ( 12 و 19 حزيران/يونيو 2022 ) اهتمامات أغلبية المواطنين، أو مشاغل ثلاثة أرباع المواطنين، مثل الفَقْر والبطالة وارتفاع الأسعار (إيجار المسكن والوقود والغذاء…) وارتفاع تكلفة تعليم الأبناء والرعاية الصّحّيّة، وتتعرض الفقرات الموالية لرواسب الثقافة الإستعمارية، التي تتجلّى في وسائل الإعلام السّائدة، وفي خطاب المسؤولين السياسيين، ويُمثّل العداء للشعب الفلسطيني وللشعوب العربية والمُهاجرين وللثقافة العربية، ومن ضمنها الدّين الإسلامي، وكافّة الشُّعُوب الواقعة تحت الإستعمار والإضطهاد، نموذجًا يتمثّل وَجْهُهُ الثاني في تمجيد الصهيونية (كعقيدة وتَنْظِير للإستعمار الإستيطاني) والدّعم السياسي والإعلامي، شبه المُطْلَق، للكيان الصّهيوني، كتجسيد، أو كتطبيق لهذه العقيدة الإستعمارية الإستيطانية، وتتجاوز هذه الظاهرة حدود فرنسا، لتعُمّ أوروبا، ولتُصبح “بروكسل”، عاصمة بلجيكا، ومقر المُفوضية الأوروبية، عاصمة اللُّوبي الصّهيوني، بدعم من سياسيين (أثرياء) ومليارديرات أمريكيين، من الجناح الأكثر يمينية بالحزب الجمهوري الأمريكي، بحسب تحقيق نشرته صحيفة “لوموند” الفرنسية، يوم السّابع من آذار/مارس 2019، بعنوان: “مليارديرات أمريكيون يمولون، بهدوء، حملات التّضليل في أوروبا”، من خلال دَعْم وتمويل شركات مُتَخصِّصَة تُشرف على إطلاق حملات، وإنشاء مواقع دعاية يمينية متطرّفة وصهيونية، واختصت هذه المواقع في التّضْلِيل وإعادة صياغة وتقديم المعلومات، وأحيانا تحريفها، لتُوافِقَ أهداف الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني، كما استقر السياسي الملياردير “ستيفن (ستيف) بانون”، المستشار السابق للرئيس “دونالد ترامب”، بأوروبا، منذ سنة 2018، لإرشاد وتوجيه دعاية اليمين المتطرف، بدعم من أثرياء أمريكيين وأوروبيين…

انتشر العداء لليهود في فترات عديدة من تاريخ فرنسا (وأوروبا)، لكن دَعْمَ الحركة الصّهيونية، والكيان الصّهيوني، منذ إنشائه، بقي ثابتًا، بل أطْلَقَ نابليون بونابرت، عند هزيمته على أبواب مدينة عَكّا الفلسطينية، فكرة تجميع اليهود في كيان يحتلّ أراضي الغيْر، بعيدًا عن أوروبا، في فلسطين مثلاً، وبعد إنشاء الكيان الصهيوني، زاد الدّعم الأوروبي والفرنسي للصهيونية كعقيدة، ولدولتها، ولا تنسى أجْيال العرب العدوان الثلاثي (البريطاني- الفرنسي- الصهيوني) على مصر سنة 1956، ولا تزويد الكيان الصهيوني بالتقنية النّوَوِية الفرنسية، بل كان رئيس البعثة العسكرية الصهيونية بفرنسا يحتل مكتبًا بوزارة الحرب الفرنسية، مُلاصِقًا لمكتب الوزير، من 1946 إلى 1958، وشاركت المخابرات الصهيونية باختطاف الزعيم التّقدّمي المغربي “المهدي بن بركة”، وسط باريس، سنة 1965، وتعاونت المخابرات العسكرية الفرنسية والصهيونية، لتصفية العديد من المناضلين الثوريين العرب بباريس، ومن بينهم: باسل الكبيسي ومحمد بوضياء ومحمود الهمشري ومحمود صالح وغيرهم من المناضلين الفلسطينيين والعرب…

منذ بداية القرن الواحد والعشرين، وتحديدًا منذ 2002، سنة اجتياح وتدمير مدينة ومُخيّم “جنين”، بفلسطين المحتلّة، لا يتورّع بعض الزعماء السياسيين والعديد من الإعلاميين الفرنسيين عن تحميل المهاجرين، ومن يُصنِّفُونهم “مُسلمين” أو “عرب”، مسؤولية الأزمات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية بالبلاد، وبالمُقابل يدعم هؤلاء (منهم فيليب فال ودومينيك شتراوس خان و نيكولا ساركوزيوبرنارد كوشنير وبيير للوش ومئير حبيب وأرنو كلارسفيلد وكريستين أوكرنت وآن سان كلير وإليزابيث بادنتير وآلان فلكنكراوت وبرنارد هنري ليفي، وألكسندر أدلر وأندريه غلوكسمان ورومان غوبيل وغيرهم) سياسة الكيان الصهيوني بشكل مُطْلَق، بدونأي نقد أو احتراز، وتصنيف أي “عتاب” خفيف ولَطيف للزعماء الصهاينة في خانة “مُعاداة السّامية”، وتخويف وتهديد من يجرؤ على الإشارة إلى حقوق الإنسان الفلسطيني، بقطع رزقه وطَرْدِهِ من العَمل، ونَفّذَ هؤلاء الصهاينة النافذون تهديهم، وتم طَرْد بعض مشاهير الصحافيين والباحثين، وإرهاق صُحُف وجمعيات ومناضلين أفراد بالقضايا ومصاريف التّقاضي المفروضة عليهم بالمحاكم، وأصبحت فرنسا ثاني أكبر مَعْقَل للمنظمات الصهيونية، بعد الولايات المتحدة، كما أصْبحت “بروكسل”، مقر المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي، معقلاً لجماعات الضّغط الصّهيونية الوازِنَة في صنع القرار بالإتحاد الأوروبي، حيث لا وَزْنَ للسلطة التّشريعية (البرلمان الأوروبي)، بينما تتحكم المُفَوّضِيّة (ممثلة الحُكومات) بجوهر القرارات، وتتركب من مُفَوِّضِين تأَرْجَحُوا بين العمل الحكومي والعمل بالشركات العابرة للقارّات (بالمصارف مثل “غولدمان ساكس” وقطاع صناعة السيارات، مثل مجموعة “فولكس فاغن” والمجموعات النّفطية، مثل “توتال” أو “بي بي”…)، ومعظمهم على علاقة وطيدة بتجّار الماس في بلجيكا، المنهوب من المُستعمرات السابقة كالكونغو، ما جعل منطقة “أنترلوب” البلجيكية تستحوذ على نصف إنتاج العالم من الماس، وأسّس صهاينة بلجيكا، بالتعاون مع “آيباك” الأمريكية و”كريف” الفرنسية، منظمة تُدعى “لجنة التنسيق للمنظمات اليهودية ببلجيكا”، وهي منظمة تُنسّق أعمالها ومواقفها مع سفارة الكيان الصهيوني، وتمكّنت المنظمات الصهيونية الأوروبية، وخصوصًا الفرنسية، بزعامة بعض أقطاب الحزب “الإشتراكي”، منهم برنارد كوشنير وزوجته كريستن أوكرنت ودومنيك شتراوس خان وبيار موسكوفيتشي وسيلفي كوفمان، من توجيه سياسات “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” الذي استعان ببعض صهاينة العرب، مثل السُّورِيّة “بسمة قضْماني” وبعض أفراد أُسْرَتِها المستقرة بأحد أغلى وأضْخم أحياء باريس (الدّائرة السادسة عشر، وما أدْرَاك)، لدعم اللوبي الصهيوني، الفرنسي والأوروبي، والتّأثير على لجنة الشؤون الخارجية لمجلس النواب الفرنسي، بالتّعاون مع البرلمانيين المؤيدين للصهيونية، لتحسين صورة الكيان الصهيوني لدى مالكي وصحافيي وسائل الإعلام، والفنانين (السينما والمسرح ) والرياضيين، والرّأي العام الفرنسي والأوروبي، بحسب الصحيفة الصهيونية “يدعوت أحرونوت” بتاريخ 19 كانون الأول/ديسمبر 2010، بمناسبة زيارة وفد برلماني من اليمين المتطرف الأوروبي إلى فلسطين المحتلة، وكذلك بتاريخ 10 تموز/يوليو 2018، ومنذ مطلع القرن الواحد والعشرين، برّر أعضاء اللوبي الصهيوني مشاركة فرنسا في أي عدوان أمريكي/أطلسي، بذريعة “الحرب على الإرهاب” (مع استغلال الفُرصة لوصْم المسلمين والعرب بمعاداة السّامية وبالإرهاب)، في أفغانستان والصومال والعراق وسوريا، ومالي، وكذلك في فلسطين التي استهدفتها الحركة الصهيونية، منذ القرن التاسع عشر.

كان التكامل، بل الإندماج بين الإمبريالية الفرنسية (والبريطانية) والصهيونية ظاهرًا، منذ تأسيس الحركة الصهيونية، أما الظاهرة الجديدة فتتمثل بالتحالف بين اليمين المتطرف (الذي كان يُعلن معاداة السّاميّة)، وبتواطؤ الإعلام الفرنسي والأوروبي مع هذا التحالف الذي يُعلن كراهيته وعداءه للعرب (الشعوب وليس الحُكّام) وللمسلمين، وفي مقدّمتهم الشعب الفلسطيني، وابتكر هذا التحالف بين الصهيونية واليمين الأوروبي المتطرف “خطَرَ أَسْلَمَة أوروبا” وابتكر في فرنسا عبارة ( Islamo-Gauchiste )، أي التحالف المزعوم بين الإسلاميين واليساريين، ليصف بها كل من يدافع عن حقوق المُهاجرين واللاجئين وأبناء المهاجرين الذين تُضايقهم وتقمعهم قوى الأمن، وتمارس السّلطات السياسية العُنصرية المكشوفة ضدهم في مجالات العمل والسّكن والتّعليم وما إلى ذلك، وهو شعار “وِقائي”، لتقسيم الفئات التي تُعاني من الإستغلال والإضطهاد، ولنسْفِ أُسُسِ أي تحالف مُحتمَل بين هذه الفئات التي وَقَع إقصاؤها وتهميشها…

تمكّن التحالف الصهيوني-اليميني من اكتساح وسائل الإعلام، بما فيها شبكات وقنوات القطاع العام وأهم الصّحف المحسوبة على اليسار، في زمن سيادة العقيدة والبرامج النيوليبرالية، وأصبح رهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) قاسمًا مشتركًا بين معظم والحركات الأحزاب السياسية، وانتشر العداء لمن صُنِّفُوا “مسلمين” (بمن فيهم عرب وأفارقة غير مسلمين) بين العديد من أوساط البرجوازية الصغيرة، وفئات أخرى من المجتمع الفرنسي، ليُصبح الخطاب المُعادي للمهاجرين وأبنائهم (الفرنسيين) وللعرب والمسلمين، أمرًا “عاديًّا” يتكرّرُ يوميًّا على لسان السّياسِيِّين وفي وسائل الإعلام، بالتّوازي مع زيادة التّأييد لليمين المتطرف (الفرنسي والأوروبي)، الذي أصبح قادرًا على اكتساح السّلطة، بعد اتساع رُقعة انتشار أفكاره، ومع زيادة التّأييد للكيان الصهيوني، بحسب دراسة أكاديمية، لثلاثة باحثين من بريطانيا وجنوب إفريقيا وإيرلندا، من مجموعة “تحقيقات مرصد المصلحة العامة” ( Spinwatch ) نشرتها جامعة “باث” البريطانية (حزيران/يونيو 2018)، وأشارت الدراسة كذلك إلى التمويل العَلَنِي من أثرياء أمريكا وأوروبا، لبناء المستوطنات الصهيونية بفلسطين والإستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين (مسلمين وغير مسلمين)، خاصة بالقدس، وهم نفس الأثرياء الذين يدعمون ويُموّلون الحملات الإعلامية والسياسية المُعادية للشعب الفلسطيني ولأبناء المُهاجرين في أوروبا، وفي فرنسا على وجه الخصوص، ويُساهمون في تشويه الأشخاص والمنظمات التي تدافع عن حُقُوق الشعب الفلسطيني (ولا يتجاوز أقصاها الدّفاع عن تقسيم فلسطين ومنح معظم الأراضي إلى الصهاينة، أو دَعْم اتفاقيات “أوسلو”، والمُطالَبَة بتطبيق بعض بُنُودِها)، كما يُساهمون (خُفيةً، أو بشيء من التّكتُّم ) في تمويل الحملات الإنتخابية لمرشحي اليمين واليمين المتطرف، عبر وسائل الإعلام، وعبر صفحات “الرّأي الحر”، التي تدّعي الصّحف أنها لا تُعبّر بالضّرورة عن اتجاه هيئة التحرير، ويمثل “ستيف بانون” الذي أنشأ شركة استشارات، مقرّها “بروكسل” نموذجًا للدّعم المالي والسياسي، العَلَنِي للتعاون بين اليمين المتطرف الأوروبي والكيان الصهيوني، ودعم الإتجاهات والحملات المُعادية للعرب وللمسلمين وللمهاجرين وأبنائهم، ويُساعد “ستيف بانون” في مهمته، شخصيات مشهورة من الولايات المتحدة وأوروبا، مثل “بول وولفوفيتز (أحد أقطاب احتلال العراق ورئيس سابق للبنك العالمي) ودومنيك شتراوس خان (وزير فرنسي سابق ورئيس سابق لصندوق النّقد الدّولي) وبرنارد مادوف (ملياردير ومؤسس سوق “ناسداك” المالية بالولايات المتحدة) وهاروي وينشتاين (من أقطاب “هوليود”)، الذين تورّط جميعهم في فضائح ذات صبغة أخلاقية، وتمكّن جميعهم من الإفلات من العقاب الذي يناسب جرائمهم…

استغلّ اليمين الحاكم بفرنسا عملية تدنيس مقبرة يهودية، من قِبَل مجموعة من اليمين المتطرف، معادية لليهود وللمسلمين وللطبقة العاملة والفُقراء، بالتزامن مع عملية استفزازات أطْلَقَها أحد عُتاة الصهاينة الفرنسيين (آلان فينكلكروت الذي عَبّرَ عن امتعاضه من كثرة اللاعبين السُّود في فريق فرنسا، الذي فاز في مناسَبَتَيْن ببطولة العالم لكرة القدم ) لمتظاهرين من المُحتجّين على غلاء أسعار الوقود (السُّتُرات الصّفراء)، لإقرار قانون يعتَبِرُ مناهضة الإيديولوجيا الصهيونية بمثابة المُعاداة للسّامية، ويُجَرّم بالتالي مُعاداة الصهيونية (آذار/مارس 2019)، وبذلك أنْجَز الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” ( من أُسْرة ثرية، ومُدير سابق بمصرف روتشيلد) وَعْدًا كان قد أعلنَهُ، سنة 2018، في خطابه باللقاء السّنوي لأكبر مجموعة ضغط  صهيونية أوروبية (مجلس المؤسسات اليهودية بفرنسا – “كرِيف” الذي ابتهجَ رئيسه سنة 2002 لنتائج الإنتخابات الرئاسية، واعتَبَرَ بُلُوغ اليمين المتطرف الدور الثاني “درْسًا، أو رسالة للعرب”، وليس لليهود أو الصهاينة)، وبذلك تم تكميم أفواه أي معارض للإيديولوجية الصّهيونية، وللدّولة التي نشأت على أساسها بعد طرد الشعب الفلسطيني من وطنه، ليصبح الكيان الصهيوني الدّولة الوحيدة في العالم التي تَمْنَعُ قوانين فرنسا توجيه أي نَقْدٍ لها، ويُعتَبَرُ هذا القانون الفرنسي نُسخة تكاد تكون مُطابِقَة للأصل لبعض الوثائق الصهيونية، أو نقلاً يكاد يكون حَرْفِيًّا لما وَرَدَ في تَنْظِيرات اللّوبي الإستعماري الصهيوني، “مركز القُدس للشؤون العامة” في تعريفه الذي يسعى إلى تشويه سمعة المناضلين المتضامنين مع نضالات الشعب الفلسطيني، والذي ترجَمَهُ ونقَلَهُ صهاينة فرنسا في بيان يُدين “الأشكال الجديدة لمعاداة السامية”، وينضح البيان شتائمَ للعرب والمسلمين، وبذلك أصبَح القانون الفرنسي يُجرّم التّذْكير بمجازر الصهيونية، من دير ياسين (1948) وكفر قاسم (1956) إلى مجازر غزّة و”قانا” (ملجأ الأمم المتحدة بجنوب لبنان الذي قصفته الطائرات الصهيونية مَرّتَيْن، سنة 1996 وسنة 2006) ويعتبر القانون التذكير بإزالة الٌثرى وطَرْد الشعب الفلسطيني، جريمة “عُنْصُرِيّة”، باعتبار الكيان الصهيوني مُنَزّهًا، لأنه جزء من أوروبا الإستعمارية “المُتحضِّرَة” (وتاريخها المليء بالمجازر)، في مواجهة الشعوب العربية “المُتهمّجة”…

من جهتنا، يقتضي واجِبُنا التّذكير بأن فرنسا الإستعمارية اقتادت نحو 650 ألف مُجَنّد قَسْرِي، من المُستعمَرات، وهَجّر الإستعمار الفرنسي نحو 600 ألف عامل من مستعمراته بشمال وجنوب إفريقيا (معظمُهُم عرب ومسلمون ) خلال الحربَيْن العالمِيّتَيْن، بين 1914 و 1945، قُتل منهم ما لا يقل عن مائة ألف، دفاعًا عن فرنسا، فَضْلاً عن ضحايا حوادث العمل، وظروف العمل السّيّئَة، في مصانع السلاح والعتاد، أو أثناء عملية إعادة إعمار ما دَمّرته الحرب، أو لتعويض المُجَنّدين الفرنسيين، الذين كانوا يعملون بمصانع ومزارع البلاد، بينما كان قادة الجيش الفرنسي الرسمي، ورُموز الدّولة الفرنسية يُبالغون في التّعاون مع الإحتلال النّازي (الألماني)، ضدّ مواطني بلدهم، خلال الحرب العالمية الثانية، بل فاقوا الجيش الألماني المُحْتَلّ في اضطهاد المواطنين الشيوعيين واليهود، وفي إرسالهم إلى المُحتشدات.

إن العُنْصُرية ومعاداة اليهود أو الشُّعُوب المُضْطَهَدَة (بمسلميها ومسيحييها) هي “بضاعة” فرنسية (وإمبريالية) خالصة، مُتماهية مع احتقار القَوِي للضّعيف، ومع اعتبار الشعوب المُستَعْمَرَة والمُضْطَهَدَة، وكذلك العُمّال والفلاحين والفُقَراء (داخل فرنسا والدول الإمبريالية) عاجزين عن التّفكير وعن إصدار حُكْمٍ أو رأي مُخالف لرأي السّلطة التي نسفت مبادئ الثورة الفرنسية (البرجوازية) التي أعلنت قيام الجمهورية بمبادئها الثلاثة، الحُرّيّة والمُساواة والأُخوّة، وإعلانها بيانًا لحقوق الإنسان، سرعان ما وقع إتلافُهُ ورمْيُه في سلّة المُهْملات…

إن الدولة الفرنسية هي التي أقرّت قانون العُبُودية ( Code Noir )، وقانون الشعوب الأصلية، أي الواقعة تحت الإستعمار الفرنسي ( Code de l’indigénat ) ، وهي التي مارست الإعتقال التّعسُّفِي والتعذيب حتى الموت (بالجزائر على سبيل المثال) وأرسلت آلاف الشيوعيين واليهود الفرنسيين إلى مُحتشدات النّازية وتنكّرت لمن ساعدوا جيشها على محاربة جيش التحرير في فيتنام والجزائر، فحشَرتهم في محتشدات لا تليق بالكرامة البَشَرية، أما المواطنون العرب الواقعون تحت الإحتلال الفرنسي، فقد أخْفُوا جيرانهم وأصدقاءهم ومعارفهم من اليهود، أثناء الحرب العالمية الثانية، بالمُستعمَرات التي سيطرت عليها حكومنة “فيشي” الفرنسية العميلة للنازية، وتعتقل سلطات فرنسا الحالية (بلد إعلان حقوق الإنسان)، منذ 1984 المناضل الثّوري العربي اللبناني “جورج إبراهيم عبد الله”، الذي كان يمكن إطلاق سراحه سنة 1999، لو أعلَنَ التّنازل عن مبادئه وعن قناعاته، لكنه رَفَضَ هذه المساومة الرّخيصة، ولذلك تنتقم منه السلطات الفرنسية (بلونها “الإشتراكي” الباهت، أو اليميني المُعْلَن )، وتبقيه سجينا، استجابةً لرغبة الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني، أما اللُّصُوص، من قاتلي الشّبّان الفُقراء، ومن سارقي المال العام، ومن مُزَيِّفي الإنتخابات فأفلتوا من المتابعة القضائية ومن العقاب، ومن التّشهير…

إن الإرهابي الحقيقي هو من يصمم أو ينفذ مجازر ضد الشّعوب في فلسطين ومالي وأفغانستان وليبيا والصومال واليمن وسوريا وغيرها، لكن لا يجرأ أحد ممن أعلنوا ترشّحهم للإنتخابات الرئاسية الفرنسية لنقد الكيان الصهيوني أو للتنديد بانخراط الجيش الفرنسي في كافة الحُروب العدوانية ضد شُعوب العالم، من أفغانستان بآسيا، إلى مالي، بغرب إفريقيا…

من العسير تغيير وَضْع أي بلد بواسطة الإنتخابات، لأن من سَنّ القوانين الإنتخابية جَعلها على مَقاسِهِ، أي قوانين تعمل على تأبيد حُكم رأس المال، ومن يُمثّلونه، وهم يُشكّلون أقلّيةً عدديّةً لكنها تمتلك أدوات وأجهزة السلطة، ولذلك أقرّت هذه الأقَلّيّة قوانين لِتأبيد استغلال واضطهاد العمال والمزارعين والكادحين، وشعوب بُلدان “المُحيط”، الذين يُشكّلون أغلبيّة السّكّان داخل كل بلد، وعلى مستوى العالم، وهي أغلبية مُنْتِجَة للثروات، ولذلك فهي قادرة على تغيير الوضع في مَواقِعِ الإنتاج، وفي الشوارع وأحياء المُدُن وفي المَصانع، وكذلك في الأرياف، وفي المَزارِع، لكن هذا الشّكل من التّغْيِير يتطلّبُ أدوات نضالية وبرامج وحُلُول، وعَمَلاً تَوْعَوِيًّا ودعائيا وتنظيميا وتحريضيًّا ضخما، لا يزال الكادحون والمُضْطَهَدُون والفُقراء غَيْرُ جاهزِين لهذا التّغيير…    

_________

“كنعان”  غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.