مَدْخَل:
لم تَنْتَةِ الحرب الباردة بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، بل تحوّلت تدريجيًّا إلى “حرب فاترة”، خاصة بعد 11 أيلول 2001، فتعزّز وتَوَسَّعَ حلف شمال الأطلسي، بدل حَلِّهِ وإنهاء وُجُوده، واتّسَعت رُقعة الحرب العدوانية الأمريكية إلى كافة القارات، من أمريكا الجنوبية إلى آسيا، مرورًا بأوروبا وإفريقيا، ولم يتردّد قادة الولايات المتحدة في فَتْحِ جَبْهَتَيْن كبيرَتَيْن، ضد روسيا والصّين، على حُدُودِهما، وفي نفس الوقت، ما سَرّع وتيرَةَ التّقارب بين الصين وروسيا، في كافة المجالات، في الإقتصاد والتّجارة والإستثمار في الطاقة والبُنية التّحتية والمواصلات، فضلاً عن التعاون العسكري والمناورات المُشتَرَكَة، والتحالف الإقليمي والتّشاور السياسي…
شكّل الإحتلال الأمريكي/الأطلسي لأفغانستان تدشينًا لحقبة جديدة من الهيمنة الأمريكية، ومن الخُضُوع شبه المُطْلَق للدول الرأسمالية المتقدّمة، منها كندا وأوروبا وأستراليا واليابان، لقيادة وإشراف الولايات المتحدة، وحاولت فرنسا “الخُروجَ عن الطّاعة”، سنة احتلال العراق (2003)، لكن قيادتها تراجعت بِسُرْعة، وأعلنت التّوبة.
كثّفت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) منذ العدوان على العراق، سنة 1991، وربما منذ الحرب العالمية الثانية، القصف عن بُعد، من البحر أو من الجَوّ، والتّقليل من أهمّيّة ودَوْر جيش المُشاة (جيش البَرّ)، وازدادت أهمية الإستخبارات، كما تكثّفَتْ مُشاركة الشركات الخاصّة المتعاقدة مع الجيش الأمريكي، فارتفع عدد المرتزقة العاملين بشركات مثل “بلاك ووتر” سابقًا (“أكاديمي” حاليًّا)، ثم كثف الجيش الأمريكي، منذ سنة 2014 (خلال فترة رئاسة باراك أوباما، الحائز على جائزة نوبل للسلام !!! )عمليات القصف والإغتيال بواسطة الطائرات الآلية المُسَيَّرَة، بدون طَيّار، وادّعت الولايات المتحدة إنها تخوض “حربًا نظيفة” في أفغانستان والعراق وسوريا وغيرها، لكن حقيقة الحروب العدوانية وقَذارَتُها ودَمَوِيّتُها، تَطْفُو على السّطح، لتَظْهَر عارية، من حين لآخر وتحتوي الفَقرات المُوالية على مُلَخّصٍ لما كشفته صحيفة “نيويورك تايمز” بخصوص الضحايا المَدَنِيِّين للعدوان والإحتلال الأمريكي بأفغانستان والعراق وسوريا، خلال خمس سنوات، بين سَنَتَيْ 2014 و 2018، وفق وثائق وزارة الحرب الأمريكية (شَهِدَ شاهِدٌ من أَهْلِها)…
الإفلات من المُحاسَبَة ومن العقوبات:
أعلن وزير الحرب الأمريكي بنفسه (لويد أوسْتِن)، يوم 13 كانون الأول/ديسمبر 2021، عدم مقاضاة الجنود المسؤولين عن قَتْل المدنيين بأفغانستان، خلال قَصْف وتدمير منزلٍ يوم 29 آب/أغسطس 2021، وانهياره على من بداخله، من بينهم سبعة أطفال، وادّعى الجنود إنهم قصفوا موقِعًا لمجموعة إرهابية، وأعلن وزير الحرب أن القتلَ لم يكن متعمّدا بل حصل بالخطأ، فيما اعتبرت بعض المنظمات الإنسانية أن هذا القصف الوحشي يُشكّل رَدّا انتقاميًّا، مُصمّمًا ومُتعمَّدًا، على تفجيرٍ إرهابي، حصل قبل ثلاثة أيام، بمطار العاصمة “كابول”، الذي تُسيْطر عليه القوات الأمريكية، وراح ضحيته العديد من الأفغانيين الذين كانوا يُحاولون الخروج من البلاد، بعد عودة “طالبان” إلى السُّلْطة.
أَوْردت صحيفة “نيويورك تايمز”، يوم السبت 18 كانون الأول/ديسمبر 2021، إن صحافييها تمكّنوا من الإطلاع على أكثر من ألْفٍ وثلاثِمائة تقرير صادر عن وزارة الحرب الأمريكية، وأفادتْ أن طاقمها الصحفي والإداري، حاول مرات عديدة الحصول على معلومات من وزارة الحرب الأمريكية بشأن عمليات الإغتيال، بواسطة الطّائرات الآلية (درُون) التي راح ضحيّتَها آلاف المدنيين في غارات أمريكية، بدون جَدْوى، قبل اللُّجُوء إلى القضاء، ونسبت الصّحيفة قتْلَ المدنِيِّين إلى “إخفاق الإستخبارات الأمريكية في العراق وأفغانستان وسوريا، ما أدّى إلى شن غارات عشوائية، وإلى قَتْل آلاف المَدَنِيِّين، دون أي عقوبات تأديبية على الإطلاق، بل في ظل غياب أي مُتابَعَة أو مُحاسَبَة، ما يُفَنِّدُ الدّعاية الرّسْمِية التي أشادت، خلال أكثر من عِقْدَيْن، ب”الضربات الدّقيقة” أو “الحرب النّظيفة !!! “، وما يُفنّد ادعاءات الرئيس “باراك أوباما” الذي وَعَدَ بالشفافية، لكنه أصْدَرَ أوامرَهُ لقادة الجيش، بتكثيف استخدام الإغتيال عن بُعد، بواسطة الطائرات الآلية لتجنّب وفاة الجنود الأمريكيين، وتحوّلت “شفافية” باراك أوباما المزعومة إلى تعتيم وإفلات من المُحاسبة والعقاب…
وجَدت الصّحيفة صعوبة في الحصول على الوثائق، واضطرت إلى رفع عدة دعاوى قضائية ضد “البنتاغون” (وزارة الحرب) والقيادة المركزية للجيش الأمريكي “سنْتْكُوم” للحصول على هذه الوثائق، ومُلخصها أن الجيش الأمريكي نَفّذَ، بين 2014 و 2018، أكثر من خمسين ألف غارة جوية (بمعدّل عشرة آلاف سنويّا) في أفغانستان وسوريا والعراق، واعترف الجيش الأمريكي بقَتْلِ 1417 مدنياً عراقيا وسوريا (فقط !!!) “بطريق الخطأ”، مع الإشارة أن احتلال الجيش الأمريكي لسوريا، لم يُعْلَنْ رسميًّا، ولم “تُشَرْعِنْهُ” الأمم المتحدة، إن كانت قراراتها “شرعية أصْلاً” (فهي خاضعة لموازين القوى)، ولم تتساءل الصحيفة عن مُسَوّغات هذا الإحتلال…
تظهر الوثائق أن الوفيات المدنية (القليلة بحسب وزارة الحرب الأمريكية) كانت في كثير من الأحيان بسبب مَيْل الضُّبّاط الأمريكيين إلى استخلاص استنتاجات تتفق مع ما يريدون، ولذا ، كانوا يُصنِّفُون الأشخاص الذين يركضون إلى موقع تم قصفه، بمن فيهم العاملون بمنظمات الإغاثة والإنقاذ، على أنهم مقاتلون من “أعداء” (للجيش الأمريكي)، كما أدّى هذا المنطق غير السَّليم إلى اعتبار راكبي الدراجات النارية “إرهابِيِّين”، وجبت تصفيتهم، وعلى أي حال، تدّعي وزارة الحرب الأمريكية أن حالات قَتْل المَدَنِيِّين كانت “نادرة” و”بطريق الخطأ”، أي “شاذّة”، و”الشّاذ يُحْفَظُ ولا يُقاس عَلَيْه”…
كتبت صحيفة “نيويورك تايمز” أنها تَوَخّت الحَذَر، وقضى صحافيوها عدة أَشْهُرٍ لِيتمكّنوا من تحليل الوثائق وللتّحَقُّق من الوقائع وللتّدقيق في المعلومات الرسمية حول أكثر من مائة موقع تعرض للقصف، وكانت العديد من الوقائع المذكورة معروفة من قَبْل، لكن التحقيق كشف أن عدد الضحايا المدنيين الذين اعترف بهم البنتاغون “أقل من الحقيقة بشكل واضح”، ولم يعترف الجيش الأمريكي سوى بمصداقية 216 تحقيقًا للصحيفة، من إجمالي 1311 حالة دَرَسَها الصحافيون، وعلى سبيل المثال رفضت وزارة الحرب الأمريكية الإعتراف باغتيال القُوات الخاصة (الأكثر تدريبًا في الجيش الأمريكي) 120 مزارعًا سُورِيًّا كانوا يعملون في الحقول، يوم 19 تموز/يوليو 2016.
خلاصة:
لا يُصْدِرُ الجيش الأمريكي تقارير مُفصّلة عن ضحايا غاراته، وخاصة إذا كانوا من المدنِيِّين والنّساء والأطفال، ولكن قادة الجيش اضطرُّوا أحيانًا إلى الإعتراف بما يُسمّونها “أضرارًا جانبية”، وإلى اقتراح تعويضات مالية طفيفة، في عدد محدود من الحالات… أما صحيفة “نيويورك تايمز”، ومنظمات حقوق البشر والمنظمات الإنسانية فلا تطرح بعض الأسئلة البديهية: لماذا يتواجد الجيش والسّلاح الأمريكي والأطلسي على حُدُود روسيا والصّين وفي كافة مناطق العالم، وما الدّعي لاحتلال البلدان التي ذكرها تقرير “نيويورك تايمز”، والإعتداء على سُكّانها، ونسبت الصحيفة حصول الغارات “العشوائية” وقَتْل المدنيين إلى إخفاق الإستخبارات في جَمْع المعلومات، أي إنها نَسَبَتْ حصول المجازر إلى أسباب تكاد تكون “فَنِّيّة”، فهل يَكْمُنُ الحل في تعزيز ميزانية وتقنيات وتدريبات الإستخبارات العسكرية الأمريكية لتكون الحرب أقَلَّ قَذَارَةً، أم إن أصل الدّاء يكمن في الدّور الذي تقوم به الإمبريالية الأمريكية كقوة مُهيمنة في العالم؟
يُشكّل الإنفاق الأمريكي الضّخم على التّسلُّح خَطَرًا على أمن الإنسانية، كما يُشكّل وُجُود حلف شمال الأطلسي تهديدًا للسّلم في العالم. لقد نَصّبَ قادةُ الإمبريالية الأمريكية أنفُسَهُم سُلْطَةً تحكم العالم، وفق ما تقتضيه مصالح مُجَمّع الصناعات العسكرية، والشركات العابرة للقارات ذات المَنْشأ الأمريكي، ويُشكّل الدّفاع عن هذه المصالح، الدّافع الحقيقي للتّحرُّش بدُول بعيدة عن القارة الأمريكية، مثل الصين وروسيا، أو إيران وكوريا الشمالية وغيرها…
عندما يُقتَلُ أمريكي واحد، خصوصًا إذا كان دبلوماسيا أو ثَرِيًّا أو جاسُوسًا (غير مُعْلَن) تُطلق وسائل الإعلام العالمية، وجيوش حلف شمال الأطلسي حالة الطّوارئ، أما عندما يُقْتَلُ آلاف الفلسطينيين والعرب والإفريقيين والآسيويين ومن سكان جنوب أمريكا وبحر الكاريبي، بالسلاح الأمريكي، وبواسطة جُيُوش مُعْتَدِية ومُحْتلّة، فيُعْتَبَرُ ذلك “دفاعًا شَرْعِيًّا عن النّفس”، وأحيانًا يكون ذلك من باب الخطأ، أو بسبب “خَلَلٍ فَنِّي طارئ”…
إن عمليات القصف المُكثف وارتكاب المجازر ضد مواطني البُلدان المُعْتَدَى عليها، ليست نتيجة أخطاء استخباراتية، كما كتبت صحيفة “نيويورك تايمز”، بل هي من طبيعة الحُرُوب العدوانية، وتُشكل أحد مظاهر ازدراء حياة سُكان ومواطني آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، الذين تلاحِقُهم الطائرات والصواريخ الأمريكية والأطلسية في بلادهم، فتقْتُلَهُم في البيت أو في المَزْرَعَة أو في المدرسة وفي المُستشفى…
يُشكّل إضعافُ الإمبريالية الأمريكية ضرورةً لأمن وسلامة العالم، ولا يعني ذلك الإصطفافَ وراء قُوّةٍ أُخْرى، بل يعني رفض منطق القوة العسكرية الأمريكية، ورفض العُدْوان على البلدان والشعوب، وإطلاق خطط الدّفاع عن الشُّعُوب المُضْطَهَدَة، وعن الطبقات الكادِحة والفُقراء في العالم، مهما كان جنسهم ولون بُشرتهم…
_________
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.