من الظلم التاريخي والضلال المُدمر أنْ….، فؤاد البطاينة

“التطبيع ليس خيارا سيادياً لنظام، ففيه هلاك للوجود العربي كله.. فلسطين بقيت محتلة فملف احتلالها مرتبط باستعمار واخضاع الوطن العربي، فالحياة لفلسطين حياة للعرب، وبموتها سيموت كل العرب، ولمن يهمه الأمر، إن احتلال الأردن حاجة مصيرية وتحد وجودي لإسرائيل”

مُفارقة في دنيا العرب هي فارقة، يجب التوقف عندها والبحث في سببها لكونه المسؤول عن صمت الشعوب وفوضى النخب وخطأ أجنداتها في مواجهة أنظمتها وبالتالي التسبب في ما يحل بأمتنا وأوطاننا واستدامته وتعميقه، وهذه المفارقة الفارقة هي أن الشعوب العربية التي تقع في مقدمة شعوب العالم علماُ وثقافة وفكراً وسلوكاً أخلاقيا وقيمياً، تحكمها أنظمة حكامُها يحتاجون لألف مؤخرة لتصطف خلفها عِلما وثقافة وفكرا وقيماً وأخلاقاً، وارتباطها بالوطن وشعب الوطن معدوم، هذه المعادلة المختلة تفتك بالجميع بلا توقف. فما الذي يقف وراءها؟.

لدينا جزئية سياسية معينة وخطيرة تتطلب وجود قناعة بها ليتشكل الوعي عليها بالذات، وما لم يتشكل ستبقى شعوبنا تدور في حلقة مفرغة وبعيدة عن جوهر مشكلتها، فالوعي بكثير من الحالات مرتبط بالقناعة. والجزئية هذه تدور حول السؤال، هل حصلت الدول العربية فعلاً على استقلالها السياسي وبأن حكامها من نتاج هذا الإستقلال؟ فالشعوب عندما تكون في حالة اللا استقلال تكون في حالة “اللا دولة وطنية واللا حاكم وطني” وتسقط كل الأجندات الشعبية التي لا مكان ولا زمن لها في مستعمرات. وتبقى أجندة واحدة هي أجندة الأستقلال. ولكن إذا اقتنعت أو اعتقدت شعوبنا ونخبنا أو دُجنت على أنها تعيش في دول مستقلة بحكام دستوريين من جلدتهم بينما الواقع غير ذلك فإنهم سيبقون يتعاملون مع مع حكامهم والواقع السياسي لدولتهم بأدوات وأجندات فاسدة قوامها إصلاح النظم والحكام وهي المهمة الفاقدة لأرضيتها والتي تعمق الحالة القائمة؟

واستطراداً أقول بأن المرحلة التي تلت الحرب الكونية الأولى كانت بالنسبة للدول المنتصرة مرحلة استعمار مباشر ومعلن، وجاءت بعصبة الأمم لخدمة الهدف بالنصوص المعلنة. وكان هذا المسمار الأول في نعشها تبعه فشلها بتحقيق الأمن الجماعي. فقامت الحرب الكونية الثانية وتمخض عنها ميثاق الأمم المتحدة الذي كتبته الدول الاستعمارية المنتصرة أيضاً. وضمنته مبادئ إنسانية وسياسية سامية رحبت بها الشعوب واعترت جزءا أساسياً من القانون الدولي. واللعبة في أنها سيّدت نفسها قيّماً وحكما وصاحب قرار على الميثاق ومبادئه وأعطت نفسها اختصاصات فوقية وأفرغته من مضمونه. واستطاعت بهذه المزايا مع احتفاظها بالقوة الغاشمة أن تستأنف أيدولوجيتها الإستعمارية بطريقة قانونية ضمن الميثاق، وبأقل كلفة. ومهما كان سلوكهم ملتبساً فالميثاق يغطيه، فهم المفسرون له والمُفتون بالقانون.. وعليه لا أعتقد بأن هناك اليوم دولة مستقلة سوى تلك التي تتمتع بقوة الردع الكافي مع إرادة الاستقلال وقدرة الصمود الاقتصادي.

وإن استقلال مستعمرات العالم في حضن الأمم المتحدة سواء بنضال شعوبها أو لعدم الحاجة لاستعمارها قد أبقاها جميعاً تحت السطوة الأستعمارية، وكلها تدفع الضريبة لمستعمر ما بشكل أو أخر حين الإقتضاء، إلّا فلسطين بقيت محتلة فملف احتلالها ولد في العصبة واستكمل في الأمم المتحدة والقضية فيها خاسرة لأن احتلالها مرتبط باستعمار واخضاع الوطن العربي. فانفردت الأقطار العربية من ذات التأثير الجغرافي والمالي والسكاني وذات الجوار لفلسطين المحتلة باستقلال شكلي على الورق وباستعمار عميق مستوطن بالوكالة العربية والمستعربة.

 لقد كان هناك توافق دولي غربي مُبكر على حيوية الوطن العربي للفكرة الاستعمارية وعلى خطر استقلال دوله ووحدة شعوبه. فكان استهدافها مُستمرا في أعقاب الحربين. وكان القدر أن يكون احتلال فلسطين بذريعة صهيونية كقاعدة ومنطلق لاستعمار الوطن العربي. ومع أن هذا التحالف لن يبقى متماسكاً في المحصلة لاختلاف الأهداف أو المصالح النهائية بين الصهيونية اليهودية والغرب، إلّا أننا كعرب سنبقى بالمنطق العلمي نُشكل للصهيونية اليهودية خطراً وجودياً عليها ما دامت راغبة بالإستمرار في احتلال فلسطين. فنحن حقيقة نخوض معها حرباً وجودية ليصبح أي تطبيع أو سلام يقيمه عربي معها انتحار له أولاً، ثم ثقب يثقبه في السفينة العربية لانتحار جماعي، فالتطبيع ليس شأناً خاصاً ولا سيادياً بل تآمر على الوجود العربي كله.

أمريكا وريثة الاستعمار البريطاني لم تكن يوما بحاجة للجاسوسية في مستعمراتها العربية المعروفة ومنها بلدي الأردن،. أمّا اليوم فقد انضمت إسرائيل لأمريكا في تجاوز مرحلة الجاسوسية في مُعظم الدول العربية لوصولهما لمركز القرار فيها وتوجيهه. وهذا الوصول قام وما زال على اختيار الحكام الوكلاء لتلك المستعمرات برتبة مندوب سامي وبناء منظومة من هؤلاء. وما كان لهذا أن يحدث ويتنامى في ظل الميثاق لولا حكام وكلاء في البيئة القطرية يتم تجنيدهم وإيصالهم ودعمهم بكل أسباب القوة الإستعمارية. واقتصر دور الجاسوسية في الأقطار العربية على اختراق الشعوب والمجتمعات المحلية بواسطة مؤسسات غير حكوميه تمولها وترشيها وتوجهها، وبواسطة شخصيات محلية اجتماعية أو سياسية أو إعلامية تلمعها، بغية تغيير قناعات الناس السياسية والثقافية والتاريخية، وحقنهم بثقافات ومفاهيم أخرى تخدم المهمات الإستعمارية.

ومن الظلم التاريخي أن تسمى هذه الدول بالمستقلة، ومن الضلال المُدمر ان تتعامل شعوبنا مع حكامها كأصحاب قرار وطني مهما بدا منهم عمل ما كأنه مشرف. وكل يوم يمر من دون أن يُدرك الشعب العربي هذه الحقيقة ويتصرف بموجبها فسيتمدد هذا الإستعمار ويتعمق بدون جيوش ولا حروب ولا مقاومة. وكل عربي لا يؤمن بأن الهجمة لاستعمارية على الوطن العربي وإخضاعه أمر مرتبط ببقاء احتلال فلسطين عليه توسيع مداركه، وكل أردني لا يدرك بأن احتلال الأردن والسيطرة على أراضيه وعمقه الجغرافي وقراره السياسي مطلب وجودي لإسرائيل قاصر سياسياً.

ولذلك فإن الأردنيين اليوم معنيون باستيعاب ما وراء الحدث كي يستوعبوا خطورة مراميه ويضعوا أيديهم على الجرح. فاستعمار الأردن الجاري لا يُمكن أن يكون مجرد استعمار إقتصادي أو إخضاعي. إنه استعمار إحتلالي. وعليهم أن ينسوا تماماً تلك المرحلة التي قطعها الملك حسين، فقد تبخرت لحظة وفاته. ونحن اليوم نعيش حقبة أشبه بتلك التي عاشتها فلسطين إبان الغزو الصهيوني في العقود الأولى من القرن الماضي ولكن بوتيرة عالية وأفعال أعمق وأوسع تحت غطاء أننا دولة مستقلة وفيها حاكم منا ونظام ومؤسسات. وما يُكتشف وينشر غيض من فيض وسيتحمل كل أردني مسؤولية فقدان وطن ودولة وهوية. بينما ستتحمل النخب وزر تشتتها وسلوكها الثغائي وأجنداتها التي لا تتفق مع المرحلة، وستتحمل كل شخصية كانت أو ما زالت في الصف الأول للنظام وزر خيانات الأمس وصمت اليوم. والسؤال السهل، هل يوجد لبعضها قنوات خاصة بهم مع جهات امريكية او” إسرائيلية”، بمعزل عن قناة مركز القرار مع تلك الجهات، وهل هي بعلمه إن وجدت أم دون علمه؟ وهل هم مفروضون على النظام أم هم خياره الحر.

كاتب وباحث عربي

:::::

“رأي اليوم”

_________

“كنعان”  غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.