ثمة خطابان لا يختلفان كثيرا عن بعضهما إزاء المسيحيين العرب، الأول تكفيري إجرامي ولد على يد أقلام الاستخبارات البريطانية والأمريكية، والثاني يقدم نفسه بمنطق التسامح رغم أن السكان الأصليين في الشرق العربي قبل الفتح كانوا مسيحيين في غالبيتهم الساحقة، وقد غاب عن الخطابين أن المسيحية العربية هي أصل الشرق وامتداد لحضاراته الكبرى التي يجري طمسها، سواء من العالم الرأسمالي وأسلافه المتوحشين أو من قبل اليهودية العالمية، حيث انتشرت المسيحية النسطورية واليعقوبية والاريوسية في الشام (الغساسنة) والعراق (مناذرة الحيرة) وشبه الجزيرة العربية وخاصة في مكة والأحساء، وكانوا يعودون في غالبيتهم إلى قبائل يمنية مثل لخم وجفنة حتى أن مندوبين من البتراء شاركوا في مجمع نيقية كما امتدت المسيحية إلى بلاد فارس التي اقتربت من التمسح عبر المانوية قبل الردة الزقطاعية ومقتل ماني الذي حاول المزج بين المسيحية والزرادشتية.
كما عرفت المدارس المسيحية جدل اللاهوت الناجم عن تأثيرات ارسطو وافلاطون وافلوطين وخاصة في الاسكندرية وانطاكيه والرها وغيرها.
وقد لايعرف البعض أثر المسيحية مرتين، الأولى في بلورة والحفاظ على اللغة العربية و المقدمات التي سبقت الإسلام وذلك من خلال السريانية (الارامية المسيحية) التي لعبت مع الانباط دورا كبيرا في بلورة اللغة العربية (لغة القرآن)، أما المرة الثانية فكانت تحت الاحتلال العثماني وخاصة أواخر القرن التاسع عشر عندما كانت المسيحية العربية من أوائل التيارات التي أحضرت المطابع وأعادت الاعتبار للغة العربية.
و قد لا يعرف البعض أيضا أن دمشق حاضرة الخلافة الأموية، ظلت ذات أغلبية مسيحية حتى وقت متأخر وأن قبائل تغلب وكنده وغيرها من القبائل المسيحية كانت جزءا من جيوش الفتح الإسلامي، بل أن اسطنبول عاصمة الامبراطورية العثمانية ظلت ذات غالبية مسيحية (يونانية وارمنية وايطالية وبلقانية) حتى الحرب العالمية الأولى 1914، وفق اتفاق وقعه محمد الفاتح مع تجار جنوه والبندقية الكاثوليك الذين ساعدوه في فتح القسطنطينية الأرثوذكسية (اسطنبول لاحقا) مقابل سيطرة هؤلاء التجار عل طريق الحرير بين الصين وأوروبا.
وسبق أن كتبنا أن المشروع العثماني نفسه تأسس على اتفاق بين بيزنطة الأرثوذكسية وقبائل قايي التركية التي استقدمها ملوك بيزنطة لحمايتهم من الحملات الصليبية الغربية وكانت هذه القبائل قد استقرت في الجزيرة السورية العراقية التي كانوا قد سكنوا فيها بقرار من بغداد العباسية.
إلى ذلك، وفي مناخات وزرهاصات النهضة العربية التي لم تكتمل في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لعب المسيحيون العرب دورا كبيرا في هذه النهضة سواء من حيث بث ثقافة اليقظة والاستقلال أو الترجمة وزحياء الأدب العربي وإدخال المطابع إلى الكنائس التي قدمت أول طباعة عربية للقرآن الكريم.
ومما يذكره محمد كرد علي، مؤسس المجمع العربي في دمشق لإحياء اللغة العربية التي طمسها الاحتلال والإقطاع العثماني، أن المدارس المسيحية كانت تعنى باللغة العربية (لغة القرآن الكريم) أكثر من المدارس الحكومية العثمانية وكان يحث الأهالي على إرسال أولادهم إلى هذه المدارس لتعلم اللغة العربية.
وفيما يخص حواضر وبلدات عديدة في بلاد الشام، فقد ظل الحضور المسيحي العربي فاعلا وقويا فيها إلى ما قبل الهجرات البدوية والفلاحية، الداخلية والخارجية، ومنها مدن أردنية وبلدات مثل الكرك ومادبا وعجلون والحصن.
وكما انخرط المسيحيون العرب بالكفاح القومي ضد الاحتلال العثماني الإقطاعي، وانخرطوا أكثر في حركة التحرر العربية ضد الاستعمار الأوروبي الاستعماري وكانوا سباقين في التحذير من الخطر الصهيوني ومنهم نجيب عازوري في كتابه، يقظة الأمة العربية، ونجيب نصار في جريدة الكرمل الفلسطينية وخليل السكاكيني المسيحي المقدسي وكان العديد من رموز التيارات الفكرية والأحزاب السياسية التي انخرطت في هذا الكفاح، كانوا من هذه البيئة، مثل: المطران كبوجي، جول جمال ، الأب مانويل مسلم والأب عطالله حنا، سليم خياطة ورئيف خوري اللذان نظما مؤتمر زحلة اليساري الذي ربط بين العروبة والتقدم ومواجهة الصهيونية والرجعية، ومثل د. قسطنطين زريق و د. جورج حبش و د. وديع حداد وانطون سعادة و د. سمير امين وأنور عبد الملك و ناجي علوش والياس مرقص ود. أنيس الصايغ ود. اميل توما وكمال ناصر ويوسف سلمان (فهد) وقبلهم رواد التنوير الأوائل مثل فرح انطون وشميّل والبستاني وأديب اسحق ومن الأردن أسماء مثل: غالب هلسا و د. هشام غصيب و د. همام غصيب ود. يعقوب زيادين وفؤاد نصار وعبد الله نعواس وجلال النحاس وخليل قنصل وعيسى مدانات وشربل هلسه وتيريز هلسه التي أصابت نتنياهو في عملية مطار اللد وغيرهم ومثلهم عشرات الشهداء في المعراك مع العدو الصهيوني.
ومن قبل ومن بعد، ظواهر فنية وثقافية مثل: فيروز والرحابنة ، زكي ناصيف، فيلمون وهبي، ميشل طراد، جبران خليل، حنا مينه، جوزيف حرب وغيرهم.
من صفحة الكاتب على الفيس بوك
_________
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.