عُمال المنازل وإعادة الإنتاج الاجتماعي، منال الحباشي

في البداية كانت أنشطة إعادة الإنتاج الاجتماعي (أو العمل داخل الأسرة وخدمتها) هذه غير مُسلَّعة بل تؤديها في المنزل النساء. في حين بدأت المرأة في العصر الصناعي الرأسمالي تدخل في صفوف اليد العاملة المأجورة في جميع الدول بوتيرة تختلف من دولة إلى أخرى وتطور وجودها في سوق الشغل حيث أصبحت في أيامنا هذه منخرطة تماما في سوق العمل وبالتالي هجرت دورها التاريخي في إعادة الإنتاج الاجتماعي ولو بصورة نسبية وهو ما من شأنه الإخلال بالشروط غير الاقتصادية لوجود النظام الرأسمالي ، التي كانت تؤديها المرأة دون أجر،  لو لم يعهد لغيرها بهذه المهمة.    

في هذا الإطار برزت الحاجة إلى عمال يعهد لهم بالوظائف التقليدية للمرأة خاصة في ظل تراجع دور الدولة الاجتماعي منذ الثمانينات تقريبا  و تراجع دولة الرعاية الاجتماعية التي كانت تقدم تنازلات للشعب للحيلولة دون تبني الاشتراكية و ذلك بتوفيرها العمل و اتباع سياسات اجتماعية تسمح للمراة العاملة بعد التخلي عن دورها في الاسرة .و بانهيار القطب الاشتراكي الذي كان يحافظ علي التوازن في العالم ويدفع الدول الراسمالية لتقديم هذه التنازلات ، سارع انهياره ببروز ما يعرف بالنيوليبرالية التي لا تعترف  بالسياسات الاجتماعية  و لا تكترث لحالة الأسرة و لا توفر المرافق الضرورية للرعاية الاجتماعية إذ ذاك تخلت الدولة  عن ما اعتبرته النيوليبرالية عبء اجتماعي،  أي دورها في توفير الخدمات الاجتماعية،  لمؤسسات خاصة تبحث عن الربح ( دور الرعاية الاجتماعية المدارس و المعاهد الخاصة …).

نتيجة لكل ذلك نشأ التقسيم العالمي بين عمّال ذوي مسؤوليات أسرية في الشمال يحتاجون إلى خدمات أسرية و نساء مهاجرات من الجنوب  يمكنهن تقديم هذه الخدمات دون حماية و بأجور زهيدة و يعلِّلُ هذا الانخفاض في الأجر  بأن العمل المقدم  ليس بمستوى باقي الأعمال، وغير منتجٍ من منظورٍ رأسمالي، ومهينٍ وغير ماهر. و تتمثل مهمة العاملة المنزلية في الطبخ والتنظيف ورعاية الأطفال أو المسنين أو المعوقين أو حتى الحيوانات ، وهي مهام يصعب أن تكون محددة بوضوح في البداية لأن الاتفاق يكون شفاهي ويمكن أن تتغير كثيراً بمرور الزمن ، قد تبدو هذه المهام أحياناً بلا نهاية مما ينجر عنه عدة تجاوزات و استغلال للعاملات.

إذا تستعينُ النساء في بلدان الشمال بعاملات وأغلبهن من المهاجرات لأداء المهام داخل الأسرة، المتوقع قيامهن بها تقليديًا، بقدر انحسار وقتهن واستعدادهن للقيام بهذه المهام. وقد نما الطلب في السنوات الأخيرة على مقدمي الرعاية، وعمّال وعامِلات النظافة، ومرافقي الأطفال والمسنين، أو، عمومًا، “معيدات الإنتاج الاجتماعي” أو العاملات في رعاية الأسر، وهو ما أثر على الهجرة على المستوى العالمي مما أدى إلى” نسويّة الهجرة”.

 تونس دولة عبور لمعيدات الإنتاج الاجتماعي (أو العاملات داخل المنازل):

اصبحت تونس في السنوات الأخيرة دولة عبور للعاملات من دول إفريقيا جنوب الصحراء باتّجاه الدول الأوروبية، وقد تفشل محاولة العبور نحو أوروبا أو تتأجّل لعدة أشْهُر أو سنوات، فضلا عن وقوع المهاجرين والمهاجرات ضحية تَحيّل، ما يُيَسِّرُ عملية استغلال النساء للعمل في تونس في ظروف تعتبر أشبه بالعبودية، حيث يتم في حالات عديدة اتلاف أوراق هوية العاملات وإجبارهن على العمل دون توقف أو توفير ما يضمن حقوقهن  مقابل أجور زهيدة و في حالات كثيرة بدون اجر حيث يتم تسليم الأجر  للوسيط لمدة يتم تحديدها بينه و بين صاحب المنزل-العمل  لتغطية تكاليف السفرة. 

لا تقتصر التجاوزات على المهاجرات بل تشمل كذلك العاملات التونسيات حيث تعزز هذا العمل في مجتمعنا  منذ التسعينات تقريباً اثر تفكك العائلة التونسية الممتدة التي كانت حتى عند خروج المراة للعمل تعوضها الجدة، بسبب غياب القوانين والقواعد والهياكل أو الأُطُر التي تُنَظِّم هذا الصنف من الأعمال وحقوق وواجبات المُشَغِّلِين والعاملات، لذلك كان من الضّروري تنظيم قطاع العمل المنزلي ورعاية الأطفال والمُسِنِّين، على المستوى المحلي وإنشاء إطار يُنظّم العلاقات بين العاملين والوسطاء و المُستفيدين من الخدمات المنزلية سواء كانت مقدمة من العاملات التونسيات أو المهاجرات، فضلاً عن توقيع اتفاقيات بين البلدان المُصَدِّرَة للعمال المنزليين و البلدان المُسْتَوْرِدَة لهم نظرا لتفاقم ظاهرة استعمال تونس كدولة عبور من قبل المهاجرات إلي أوروبا أو الساعيات للبحث عن عمل داخل التراب التونسي هربا من الظروف الاقتصادية المتردية في بلدانهم .

 وفي هذا الإطار صدر القانون عدد 37 لسنة 2021 مؤرخ في 16 جويلية 2021 و دخل حيز التنفيذ في 30 جانفي 2022 المُتَعلّق بتنظيم العمل المنزلي و الذي يعتبر نقلة نوعية على المستوى القانوني في التعاطي مع هذا النشاط مُقارنةً بالإطار القانوني القديم المتمثل في القانون عدد 25 لسنة 1965.وينقسم هذا القانون إلى خمس أبواب ضبط الباب الأول الأحكام العامة بأن نص على أن هذا القانون ” يضبط شروط تشغيل عاملات وعمال المنازل وحقوق والتزامات كل من المؤجر والأجير. كما يحدد آليات المراقبة والتفقد والعقوبات المنطبقة في صورة مخالفة أحكامه” (الفصل 2) 

و عرف العامل المنزلي بأنه كل شخص طبيعي مهما كانت جنسيته يقوم بصفة مسترسلة واعتيادية بإنجاز أعمال مرتبطة بالمنزل أو بالأسرة تحت رقابة وإدارة مؤجر واحد أو عدة مؤجرين مقابل أجر كيفما كانت طريقة خلاصه ودوريتها.

وعرف العمل المنزلي بأنه كل نشاط يدوي أو خدماتي ينجز في الأسرة أو في عدة أسر أو لفائدة شخص أو أسرة أو عدة أسر.

و المؤجر بأنه كل شخص طبيعي يؤجر خدمات عاملة أو عامل لإنجاز عمل منزلي دون أن تكون له غايات ربحية.

وحدد الباب الثاني شروط العمل المنزلي حيث حظر تشغيل القصر (الفصل5 ) و الغي العمل العشوائي بحيث تكون عمليات التوسط مقتصرة على مكاتب التشغيل والعمل المستقل دون غيره ( الفصل 6).

وحظّر على كل مؤجر حجز وثائق هوية العاملة المنزلية أو العامل المنزلي لأي سبب كان (الفصل 8).

 كما ضبط هذا القانون الأجر الأدنى إذ نص بأنه لا يمكن أن يقل عن الأجر الأدنى المعمول به في مختلف المهن. وضبط ساعات العمل وساعات الإضافية، بان نص على انه لا يمكن أن تتجاوز مدة العمل الفعلي في الأشغال المنزلية لدى مؤجر واحد ثمانية وأربعين ساعة في الأسبوع يتم توزيعها على أيام الأسبوع باتفاق الطرفين ووفقا لخصوصية النشاط المطلوب إنجازه. وأضاف انه لا يمكن أن تتجاوز مدة العمل الفعلي والسّاعات الإضافية 10 ساعات في اليوم .( الفصل 13).

 إضافة  لإقراره أيام عطل للعاملات  ورخص الراحلة الاستثنائية خالصة الأجر، وأوجب التنصيص على هذه الحقوق في العقد.

و حدد في الباب الثالث التزامات طرفي عقد العمل المنزلي، و يعتبر فرض عقد شغل نموذجي من ايجابيات هذا القانون ، خلاف لما كان سائد بحيث كان العقد شفاهي بحيث يصعب معه اثبات الأعمال المتفق عليها و واجبات و حقوق العملة .

وأضاف الباب الرابع آليات مراقبة تنفيذ هذا القانون والعقوبات المترتبة على مخالفة أحكامه، حيث عهد بمهمة مراقبة ظروف العمل المنزلي ورفع المخالفات المتعلقة بتطبيق هذا القانون لأعوان تفقدية الشغل ومراقبي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المختصين ترابيا، كل في حدود اختصاصه، و حدد العقوبات المنطبقة على المخالفين لهذا القانون.

 و تتمثل أهمية هذا القانون كذلك في إخضاع العلاقات الناشئة في إطار العلاقة الشغلية بين العامل و صاحب المنزل إلى مجلة الشغل و خضوع جميع النزاعات المترتبة عن تنفيذ العمل إلى مجلة الشغل في الفصل 28 الوارد ضمن الباب الخامس المعنون بأحكام مختلفة وختامية. 

إلا أنه و رغم ما حمله من مكاسب قانونية كضبط الحد الأقصى لساعات العمل ، الإقرار بالعطل  للعاملات في هذا النشاط و تحديد الاجر الادنى بقى عاجزا عن الإحاطة بالمسائل الأساسية التي  يطرحها هذا النشاط وهي أولا ضعف الآجر مقارنة بأهمية هذا العمل في محافظته على استمرار النظام الاجتماعي و الاقتصادي القائم  ، و من ناحية اخرى قصوره عن ضمان الحماية للمهاجرات فهن الأكثر عرضة للعمل  القَسْرِي (السُّخْرَة)  والرق والظروف الشبيهة بالرق والمعاملة التعسفية و تطرح هذه المسالة بدورها عدة نقاط استفهام حول تشعيل المهاجرين في تونس و مدى حماية القانون التونسي للعمال المهاجرين يمكن التطرق لها في مجال اخر. 

لذلك يجب معالجة مجال هذا النشاط من منظور النضال ضد هيمة التصور النيوليبرالي لدور الدولة الاجتماعي و انعكاساته على الادوار الاجتماعية داخل  الاسر التي اصبحت مهددة بالتفكك من جهة، ومعالجة المنظومة الشغلية و عدم الاقتصار علي سن قوانين من جهة اخرى.

 وجب على الدّولة تحمل التزاماتها بتوفير الظروف الملائمة لتعزيز دور المراة في المجتمع بالتوازي مع دعم الحقوق المكتسبة نتيجة عدة نضالات كاجازة الامومة دون الاخلال بالادوار الاجتماعية .ويكون ذلك من خلال اصلاح منظومة ساعات عمل المراة و إنشاء رياض للأطفال و فضاءات تشرف على تسييرها الدولة وفق برنامج علمى يُنظّم عملية استقبال الاطفال بعد الدراسة وملائمة ساعات دراسة الاطفال مع ساعات العمل، مع تحسين خدمات الرعاية الاجتماعية للمسنين، لأنها من المهمات التي لا تزال تتحملها النساء ….

_________

“كنعان”  غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.