هناك علاقة بين الموقع الجغرافي والأهمية الإقتصادية والجيوسياسية لكل رقعة من العالم، أو العلاقة بين البنية التحتية (الاقتصادية والمادّيّة) والبنية الفوقية (السياسية والأيديولوجية)، وفي الواقع تُترجم هذه العلاقة بحماية الدول الرأسمالية المتقدمة (الإمبريالية) الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات العاملة في مجالات عديدة، ومنها المحروقات (الفحم والنفط والغاز)، التي تتميز بقدرة فائقة على التعتيم والتلاعب بوسائل الإعلام التي تمتلكها كُلِّيًّا أو جُزْئِيًّا، وإخفاء البيانات عن الجمهور، ولا تخبر المواطنين عن الجانب الاقتصادي للحرب، ولا عن أسباب ارتفاع أسعار المحروقات أو المنتجات الغذائية، وتكتفي بقول “إن روسيا هي المسؤولة”، وتتجنب السّلُطات الحاكمة تحميل المسؤولية للشركات متعددة الجنسيات، الأوروبية والأمريكية، التي تتحكم في الأسواق وتضارب بكل ما يباع ويشترى في الأسواق العالمية.
تعتبر منطقة “دونباس”، الواقعة في شرق أوكرانيا، على الحدود الروسية، منتجًا رئيسيًا للفحم المستخدم في إنتاج الكهرباءن كما تنتج أوكرانيا الحديد والمنغنيز والمعادن الأخرى المستخدمة في صناعة الصلب، والتي طورها الاتحاد السوفيتي، واستغلتها ألمانيا النازية التي احتلت أوكرانيا اعتبارًا من 22 يونيو 1941، بمساعدة الميليشيات الفاشية المحلية والمناهضة للشيوعية، ما مَكّن الجيش النازي من احتلال أوكرانيا ومواصلة الهجوم حتى “ستالينغراد” التي بقيت مُحاصَرَة، قرابة سنَتَيْن.
سارع اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في استغلال موارد التعدين والصلب، في المناطق غير المُحتلة شرقي الإتحاد السوفييتي، لتصنيع أسلحته ومدفعيه وطائراته، دون أي مساعدة من “الحلفاء” الأوروبيين أو الأمريكيين، إلى أن دَحَضَ الجيش النّازي المُعْتَدِي، من ستالينغراد حتى برلين، دون مساعدة خارجية، وبعد الانتصار، واصل الاتحاد السوفييتي تطوير الصناعة الثقيلة، وبعد انهيار الإتحاد السوفييتي وتقسيمه إلى 15 دولة، نظمت البيروقراطية الحكومية ( Nomenklatura ) الأوكرانية عمليات النهب والاستيلاء على الممتلكات العمومية والجماعية، فأصبحت مناجم الفحم مملوكةً لشركات خاصة، وهي تُوفِّرُ نحو 25% من إنتاج الكهرباء وتوفر الطاقة لجزء كبير من إنتاج المعادن في أوكرانيا، وتتميز السلطة السياسية بمستوى عالٍ من الفساد، بتشجيع من الحكومات الأوروبية لإنهاء إرث الاتحاد السوفيتي والقطع مع روسيا صناعيًا واقتصاديًا، وفقًا لـ “مركز الدراسات الشرقية” في وارسو- بولندا.
سيطر الأوليغارشيون من شرق أوكرانيا، الذين أصبحوا أثرياء بفعل النّهب، حتى عام 2004، على السلطة وكانوا يتميزون بالقُدِرة على الاستفادة من علاقات حسن الجوار التي أقاموها مع نظام الحُكْم بروسيا الذي عمل على احترام المصالح الإقتصادية والسياسية لهذه الفئة الحاكمة، لدى الجارة أوكرانيا، إلى أن أحدثت “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا تغييرًا في “قواعد اللُّعْبَة”، سنة 2004، ولكن ورغم الدعم “الغربي” القوي، ورغم وجود الشركات متعددة الجنسيات مثل شل وشيفرون، أدركت السلطات الأوكرانية عدم قُدْرَتِها على الإستغناء عن النفط والغاز الروسيين، أو عن الرسوم التي تحصل عليها من خطوط أنابيب الغاز الروسية التي تعبر الأراضي الأوكرانية باتجاه أوروبا الغربية.
كان انقلاب 2014 (ميدان 2) عبارة عن خطة ألمانية أمريكية تهدف إلى تنصيب بوروشنكو والجماعات الفاشية في السلطة، للسيطرة على الموقع الجغرافي الاستراتيجي لأوكرانيا وعلى اقتصادها، وعلى مناطقها الشاسعة من “الأراضي السوداء” الخصبة (التي تنتج الحبوب وعباد الشمس) وعلى صناعتها الموروثة من الحقبة السوفيتية، لكن تَمَرُّدَ “دونباس” والانفصال الفعلي لجزء من مقاطعتي دونيتسك ولوهانسك قوض جزئيًا هذه الخطة الألمانية الأمريكية، إذْ يتركز 75% من إنتاج الفحم الأوكراني في الجمهوريتين الانفصاليتين، ما اضطرّ شركات الطاقة “شل” و”شيفرون” إلى التّخلِّي، سنة 2015، عن استغلال الهيدروكربونات في شرق أوكرانيا، فهي تدرك مدى عمق الأزمة واستحالة الاستثمار والعمل في مثل هذا المناخ من انعدام الأمن.
استقر هانتر بايدن، نجل جوزيف بايدن (نائب رئيس الولايات المتحدة آنذاك) في أوكرانيا، على رأس شركة ( Burisma )، وهي شركة غاز ونفط، تهدف رسميًا إلى تصنيع المحروقات ومُشتقّاتها، و”مساعدة أوكرانيا على التحرر من المُوَرِّد الروسي”، وفي واشنطن، استقبل الكونغرس الأمريكي الرئيس الأوكراني “بوروشنكو”، مُمثّل الأوليغارشية وحليف الميليشيات الفاشية، لكنه أثبت أنه غير قادر على إنهاء انفصال دونباس بالقوة، فقامت واشنطن بخلْعِهِ، عبرب “انقلاب إعلامي” وقررت استبدال بوروشنكو بزيلينسكي، الناشط الصهيوني الذي مول ملياردير صهيوني حملته الانتخابية، ويخضع زيلينسكي بالكامل لتوجيهات الولايات المتحدة.
بمجرد وصول جوزيف بايدن إلى البيت الأبيض ، طبق زيلينسكي سياسة واشنطن الجديدة بقيادة بايدن وبلينكين وسوليفان ونولاند، منظمي “ميدان 2” ( 2014) مع وكالة المخابرات المركزية والموساد، وأسفر انقلاب “ميدان 2” بين عامي 2014 و 2021، عن مُغادرة عشرة أو اثني عشر مليون أوكراني، أي أكثر من 20% من إجمالي السكان، على أمل الحصول على ظروف معيشية أفضل ، في أوروبا والولايات المتحدة وروسيا، فأصبحت أوكرانيا ضعيفة اقتصاديا وديموغرافيا، وواصلت ولا تزال استهلاك الغاز الروسي، وشرائه “بأسعار مناسبة” من الدول المجاورة التي تحكمها أنظمة عميلة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
أوكرانيا هي مركز صراع عالمي، تم تقديمه سنة 2018 كجزء من العقيدة الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة التي أعلنت الحرب ضد الصين وروسيا، باعتبارهما خصوم يجب القضاء عليهما وإقصاؤهما من الأسواق العالمية، كما يمكن تسمية الحرب في أوكرانيا، التي عملت الولايات المتحدة على إشعالها، بـ “حرب الغاز” لأن الولايات المتحدة مُصدرة للغاز الصخري، ذي الثمن المرتفع وذي النّوعية الرّديئة، مُقارنة بالغاز الطبيعي الروسي، إلى أوروبا وآسيا، ولذلك يمكن التّأكيد أن الطاقة (النفط والغاز)، مفتاح كل نشاط إنتاجي، تحتل مكانة مركزية في هذه الحرب.
_________
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.