“كنعان” تتابع نشر كتاب “هزائم منتصرة وانتصارات مهزومة: قراءة في الثورة والثورة المضادة”، لمؤلفه د. عادل سماره، الحلقة 18 والأخيرة

الطلبة والمرأة:

تنفرد كل من الثورة الثقافية وثورة 68 بدور مركزي للطلاب حيث استلهم الطلبة في ثورة 68 دور الطلبة في الثورة الثقافية. لكن هذه المبادرات الطلابية كونها ليست مبادرات طبقة من حيث المبدأ وليس لها موقعها في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية وتحديداً في نمط الإنتاج المهيمن فإن نضالها لم يتبلور في بنية حزبية من جهة ولم يعطها موقعاً على طاولة التسويات السياسية التي نتجت عن الثورتين من جهة ثانية.

في حالة انتفاضة 87 كان ايضا للحركة الطلابية دور كبير في الـتاسيس للانتفاضة حيث لعبت هذه الحركة دور محرك المقاومة الشعبيىة في الأرض المحتلة 1967  وبالطبع في الانتفاضة نفسها. ولكن ايلولة نضال الانتفاضة لصالح قيادة م.ت.ف التي استثمرت تلك الانتفاضة لصالح اتفاق أوسلو أدى إلى تفكك الحركة الطلابية كما الحركة العمالية حيث أصبحتا ملحقتين بالقيادة السياسية لسلطة الحكم الذاتي لتكون مثابة نقابات صفراء من جهة وموزعة بين الفصائل من جهة ثانية لتجد كتلة طلابية  وكتلة عمالية لكل فصيل فلسطيني على حدة، بينما لا تجد حركة عمالية أو طلابية حقيقية كما كان الحال قبيل اتفاق أوسلو!

لقد حاقت الهزيمة بالمرأة في هذه التجارب، وإن بدرجات متباينة. كانت المرأة في كميونة باريس مقاتلة بشكل طليعي وجريىء، لكن هزيمة الكميونة، حاقت بها كما حاقت بالرجال ايضا، ولم يختلف الأمر في  دورها ونتائج ذلك في الثورة الثقافية اي جرَّاء انتصار التيار التحريفي في الصين.

وفي حين شاركت المرأة في ثورة 68 في فرنسا بدور ملموس، إلا أن من مفاعيل هذه الثورة كان انتعاش الحركة النسوية في فرنسا وعلى صعيد عالمي. وهي الحركة التي بقيت في صعود سواء للنساء بشكل عام أو للنساء السود أو نساء العالم الثالث، لكن هذه الحركة فقدت زخمها الثوري  لاحقا مع نهايات القرن العشرين، سواء مع انتصار راس المال على العمل من جهة أو مع وقوع المركز، ومن ثم العالم في ازمة 2007-8 الاقتصادية المالية من جهة ثانية.

بدورها اشتركت المرأة الفلسطينية في انتفاضة  87 بشكل كلي، ولم تكن ابدا مقودة أو موجهة من الرجل تماما كما كانت الانتفاضة نفسها عفوية على صعيد الشعب نفسه وخاصة الطبقات الشعبية. لكن المرأة لم تحصل بعد الانتفاضة وتحت سلطة الحكم الذاتي على ما كان يجب ان يحق لها طبقاً لدورها في الانتفاضة والمقاومة. وقد يكون المؤشر على هذا أو الدليل اضطرار الكثير من النساء لارتداء الحجاب تعبيراً عن انتشار فكر وثقافة الدين السياسي في الأرض المحتلة. وإذا كانت المرأة قد تراجعت إلى المطبخ في حالة ثورات أخرى، الجزائر مثلا بعد التحرير، فإن المرأة الفلسطينية قد تراجعت دون تحرير الوطن ووجدت نفسها في مطبخ فارغ من الإنتاج المحلي.

المسألة القومية:

ولعل المسألة القومية من أكثر القضايا خلافا وجدالا بين مختلف التيارات الفكرية والنظرية، بل حتى بين القوميين أنفسهم نظراً لتعدد رؤاهم للمسألة القومية سواء من ناحية نظرية مجردة أو بناء على واقع الحال في مرحلة ما وبلد ما. أما بين الماركسيين فتختلف المواقف وتتناقض طبقاً لكل توجه عن الآخر. بعضها يقف من القومية موقف الرفض المطلق والاتهام المعمم بالفاشية وبعضها يرى انها مرحلة لا بد منها فيتعاطى معها في حدود، وبعضها يرى أن القومية بناء على نص البيان الشيوعي هي المدخل المؤسِّس كي تنتقل البروليتاريا إلى الاشتراكية ببناء بلد قومي قوي ومتطور، والبعض لا يختلف مع الموقف الأخير لكنه يركز على دور القومية التحرري في البلدان الخاضعة للاستعمار أو التابعة بما أن التبعية هي إحد ى الأشكال المتجددة والمموهة للاستعمار العسكري والجغرافي والاقتصادي والثقافي. بناء على هذا التناقضات يستنتج كثيرون بأن الماركسية ، ماركسية ماركس، لم تُنتج نظرية متكاملة في القومية. هذا مع أن البحث عن ماركسية انجزت تنظيرا متكاملا في كل شيء هو بحث عن إكسير الحياة أو كما في التراث العربي “جفر الإمام علي”. لا يوجد في الماركسية تراث  كتاب نهائي يمكنك حفظه ليكون دليلك  التام في كل زمن وضمن مختلف التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية ، كتاب بوجوده على عقلك أن ينام بدلأ أن تكون الماركسية دليل عمل وحافز تطوير وابتكار تقدم الأسس النظرية الفلسفية المدعومة علميا، وتحفز على التجديد والإضافات.

للإضاءة على الارتباك في التعاطي مع المسألة القومية نورد هنا موقفين ” ماركسيين” مضادين للقومية كل من زاويته. والموقفان في حد ذاتهما يعانيان من خلل كبير يُخرجهما من نطاق الفهم الجدلي التاريخي للماركسية أحدهما من العالم الثالث والآخر من المركز:

“… تشير سبيفاك إلى انه من الممكن من خلال تحليلات التكوينات الخطابية حول مجالات بعينها، كما في عمل  لاتا ماني عن “الساتي” بيان ان هذه المقولات كافة، سواء  أكانت صادرة عن المستعمِر أم المستعمَر، غالبا ما تدور حول المصطلحات  التي وضعها المستعمِر(  ). ويعني عكس التقابل الذي من هذا النوع البقاء  عالقاً داخل المصطلحات نفسها المتنازع عليها.فعلى سبيل المثال تستمد المقاومة القومية فكرة الأمة وتقرير المصير القومي من الثقافة الغربية التي تقاومها. فالنزعة القومية نتاج الإمبريالية، وهي كما تشير سبيفاك غالباً ما لا يكون نجاحها إلا بتغيير الظروف  الجيوبوليتيكية  من الإمبريالية الإقليمية  إلى الكولونيالية الجديدة (في العوالم 245) يعني هذا، كما يقول راناجيت جوها في مقدمته لسلسلة  “دراسات تابعة”، أنه حتى  التواريخ ما بعد الكولونيالية سوف تميل دائما إلى تجاهل دور المقاومة التابعة ونماذجها التي لا تكون منتظمة طبقا لهذه المعتقدات السائدة بعينها، لكي تظل ثقافة النزعة القومية النخبوية  مشاركة في واقع الأمر مع المستعمِر. وتصف سبيفاك هذا التقييد للمعرفة داخل بروتوكولات النماذج الإرشادية القائمة بأنه من تاثير أشكال بعينها من العقلانية الغربية.[1]

لم يقدم لا يونغ ولا سبيفاك تفسيرا للزعم بأن “النزعة” القومية أو نزعة المقاومة القومية وفكرة الأمة وتقرير المصير القومي مستمدة من الغرب أو نتاج الإمبريالية سواء كان مقصدهما بأنها نتاج تابع للإمبريالية أو نتاج نضال ضد الإمبريالية. وفي أي من التفسيرين، فإن هذا التفسير هو نتاج الفكر المركزاني الأوروبي الذي يرى تاريخ أوروبا هو تاريخ بقية العالم.  فالقومية هي انتماء جمعي في مرحلة تاريخية معينة، بغض النظر عن دخول مجتمع ما لهذه المرحلة قبل آخر مع ضرورة التنبه إلى أن للثورة الصناعية دورها الحاسم في التبلور القومي في البلدان التي بدأت راسمالية استعمارية ومن ثم أمبريالية. وحين تكون القومية حالة نضال ضد الاستعمار فهي ليست من توليد الاستعمار بل هي رد القوة الكامنة، اي المقاوِمة، ضد التحدي. اي هي موجودة بنيويا وإنسانياً مما يجعل تحديها للمستعمِر امر طبيعي وليس إيلاجا امبرياليا في الأمم المستعمَرة.

لعل الموقف الأشد سلبية أو عداء للقومية هو موقف الحركات التروتسكية والتي تزعم بانها “الفرقة” الماركسية “الناجية” وحدها!. فقد ورد في نوفمبر 2018 في ديباجة مؤتمر “المادية التاريخية” الذي كما يبدو بإشراف هذا الاتجاه ما يلي:

“… لا مناص من صعود اليمين المتطرف، القوميون، الشعبويون والفاشيون على امتداد الكوكب.فمن ترامب أميركا إلى سياسات الجناح اليميني القومي في أوروبا ومغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، ومن تآكل الديمقراطية الاجتماعية في معقلها الإسكندينافي : بزوغ شعبية القوميين السلطويين في الشرق الأوسط، من تعمُّق الأوتوقراطية في تركيا إلى التأثير العدواني الذي يصعب مواجهته في إسرائيل، ومن دور القوة الإمبريالية المعولمة على يد البُنى والمؤسسات المالية على طول عالم الجنوب، إلى انتقام جناح اليمين القومي في الهند وروسيا –إلى التوسع السريع  والتداخل بين هذه الظاهرة يشي بأن شيئا ما درامياً يشق طريقه. وعليه، حتى الآن، فإن  تحليلا دقيقاً وردود فعل سياسية من اليسار لا تزال تلهث وراء القوة الماحقة للرجعية المعاصرة[2]“.

يبين هذا الجزء من ديباجة المؤتمر المذكور النزعة المركزانية الغربية عامة المتأصلة لدى هذا التيار. لن نناقش هنا وضع كل هذه الاتجاهات في بوتقة واحدة، وخاصة تقديم الكيان الصهيوني كما لو كان بلداً طبيعيا وبأن مشكلته فقط في  عدوانيته. ما نود الإشارة إليه أن هذا الطرح يطمس دور القومية التقدمي والثوري ضد الاستعمار والإمبريالية ويطرح القومية كفكر وموقف يميني متقاطع مع الفاشية!

عانت كميونة باريس من خلل في التعاطي مع المسألة القومية كما بيننا في البحث. كان ذلك التعاطي موضوعيا ومبرراً لأن فرنسا كانت محتلة من ألمانيا. فهي حالة صراع قومي بجلاء  وهذا بالمفهوم الماركسي يوجب النضال القومي بمعزل عن مدى اطلاع الكميونيين على الماركسية في حينه.

لكن مشكلة الكميونيين كانت في أنهم لم يدركوا أن البرجوازية  قومية طبقاً لمصالحها فتغاضت الكميونة عن البرجوازية المستخذية للعدو بل تحالفها معه. وهذا يعني وجوب التمييز بدقة بين قومية الطبقات الشعبية وقومية البرجوازية.

بينما كان موقف الماوية من القومية مساهمة هامة في دحر الإمبريالية والبرجوازية الكمبرادورية في الصين نفسها. إلا أن تقصير الماوية كان في استطاعة الاتجاه اليميني في الحزب الشيوعي الصيني تقديم راس المال على فك الارتباط مما أدى إلى انفتاح على السوق العالمية لتتحول الصين إلى الأكثر حرصا على “حرية التجارة” مما وضعها في موقع المُستغِل والمستغَل الراسمالي وأوصل البعض إلى اعتبارها دولة إمبريالية. وهذا يبين الفارق بين الصين التي اعتبرت الاستقلال القومي متماهياً مع الشيوعية وبين الصين الحالية التي تستغل أمماً أخرى راسمالياً.

كانت ثورة أيار 68 وطنية يسارية، لكنها نظراً للقصورات التي وردت في البحث وفي هذا الباب عجزت عن مواجهة البرجوازية القومية التي تمكنت في النهاية من ادعاء هيبة فرنسا ومن ثم كسب المعركة وخاصة انتخابياً.

لعل تجربة الانتفاضة 87 هي الحالة التراجيدية في المسألة القومية. فالانتفاضة حراك جمعي وطني وقومي معاً بما هي مبادرة شعبية لم يفجرها أي طرف بل الناس. ولم يكن في كونها وطنية قومية شائبة تشوبها حيث العدو موجود وواضح وحتى حاضراً. لكن القيادة الفلسطيينية لِ م.ت.ف قد تمكنت من تفريغ الانتفاضة من مضمونها الوطني القومي وحولتها بتطويع موقف الطبقات الشعبية لصالح البرجوازية بشرائحها :الكمبرادور، والتعاقد من الباطن، والبيروقراطية والطفيلية. لذا، انتهت هذه الانتفاضة من حراك شعبي كعلامة فارقة في مشروع التحرير الوطني إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني على ثلاثة أرباع الوطن ووضع بقية الوطن في موضع معلَّق بين الاحتلال والاستقلال!

قد نختم هذا الباب بالمقتطف الطويل التالي ل آلان باديو:


اسباب الهزيمة والمناخ المجافي:

يتم في التحليل العلمي/الثوري تجليس نتائج كل حدث ضمن شرطه التاريخي الذي يجعل تفسير هذه النتيجة أو تلك، ذلك المآل أو ذاك ممكناً ليغدو مثابة درس.

كان الحزب، كما اشرنا أعلاه ربما القاسم المشترك بين هزائم التجارب الثورية الإنسانية الأربع الأولى في هذا الكتاب، وذلك سواء في حالات غياب الحزب، ضعفه بمعنى عدم ارتفاعه لمستوى قيادة الحدث، مجرد وجوده أو كونه في السلطة.

يذكر باديو بأن اسباب هزيمة 68:  غياب الحزب الماركسي-اللينيني حال دون قيادة البروليتاريا للثورة،  بينما اضطر ماو في أيلول 1967 للإستنجاد بالجيش وهذا دليل انه ادرك الفشل، وبالطبع كان الحزب تحت قيادة طرائقيوا الراسمالية. وفي انتفاضة 87 قفزت الفصائل لقيادة الانتفاضة لتسلمها لقمة سائغة للقيادة اليمينة كي يغرق النضال الفلسطيني في لُجُّة التطبيع مع عدوه بل أصبح فلسطينيون هم في صدارة دُعاة التطبيع.

كان من بين أسباب الهزيمة تخاذل اليسار واستخدام البرجوازية له كما حصل في فرنسا . في هذا يقول باديو  دعنا نعتبر ان “اليسار هو منظومة الشخصانية السياسية البرلمانية التي تعلن تصرح بانها وحدها المؤهلة لحمل النتائج العامة لحركة سياسية منفردة. …انهم وحدهم القادرين على  توفير “حركات اجتماعية”  وهكذا نعتبر اعلان 19 آذار 1871 بالدقة اعلان طلاق مع اليسار”..

أما في ايار 68، فقد كانت نظرة اليمين ثاقبة في تحقيق كسر الثورة حيث فهم بومبيدو سريعا بأنه فقط الحزب الشيوعي الفرنسي  هو القادر على اعادة تثبيت النظام في المصانع . ان الكميونة هي المثال النادر على القطع مع اليسار  في صعيد كهذا. بينما في الصين كان يمين الحزب الشيوعي قد أدرك باكرا، قبل ماو، أن الحزب هو القلعة التي باحتلالها يمكنه خصي الثورة، ومن الحزب امتدت يد اليمين الى الجيش. بينما في الحالة الفلسطينية كانت قيادة م.ت.ف هي نفسها سلطة-وفصائل معا، كما كانت تلك القيادة قد التقطت باكراً دور المثقفين فحولتهم إلى أداة في يدها . لذا، وجدنا المثقفين الذين طالما تغنوا بغابة البنادق صار سهلا على القيادة تحويلهم بالمال إلى بيادق متخصصة في مديح رواد الفنادق.

للقيادة في الثورات دور حاسم حيث الحدث دراميا متسارعا مما يشترط وجود قيادة قادرة على اتخاذ القرار بما يستوعب الحدث ويوجهه.  كتب أحد مقاتلي الكميونة في منفاه حيث انتهى دوره بأنه  كان يصحو في بعض الليالي حيث تتردد في مسامعه أصوات نفس المجموعات من الناس الذين يمضون إلى حتفهم بالمجزرة بعد دقائق، وهم يصرخون فيه مرتعبين من خلف المتراس : “… اين الأوامر، أين الخطة؟ ((p.161. and Alian Badiou, The’orie du sujet, Seuil, 1982, pp. 14-15)

يا للهول! ما افظع هذا الكابوس!

يفتح هذا السؤال على مسألة هامة هي عفوية الثورة، حصولها كحدث لم يتم التخطيط له مسبقاً، وهذا ينطبق على مختلف الثورات طالما طابعها أو اساسها ليس انقلابياً. وهذا يجعل فرز قيادة مناسبة للثورة أمر أكثر صعوبة لكنه اكثر اصالة اي توليد قيادة من الميدان طبقا للحدث. وهذا ما حصل نسبيا في الكميونة لكنه لم يتمكن، كقيادة، من إدارة المعركة بجدارة، وربما يعود ذلك إلى عدم تناسب القوة مع الأعداء.

تختلف تجربة انتفاضة 87 حيث دفع الحدث بعض الفصائل لتوليد قيادة ميدانية مناسبة، لكن تربيتها على التبعية البيرقراطية أعادها إلى حظيرة القيادة السياسية اليمينية ل م.ت.ف.

ربما أكثر ما يجمع التجارب الأربع كون ميزان القوى السياسي/الطبقي العالمي لم يكن لصالحها جميعاً. وهذا يبيِّن أن الحدث لا ينتظرنا قط بمعنى أن يتم تأجيله أو لجمه ريثما نجهز لمواجهته وتطويعه مما يؤكد وجوب توفر القدرة على تلقي أو تلقُّف الحدث وتوجيهه او قيادته.

فرغم الهزيمة القومية لفرنسا وهي التي حفزت ثورة الكميونيين، إلا أن هذه الهزيمة القومية لم تحرك البرجوازية الفرنسية لمقاومة المحتل والدفاع عن الوطن والتحالف مع الكميونة، بل اختارت التواطؤ مع العدو القومي ضد الخصم الطبقي. أما في الصين الشعبية فقد كان ميزان القوى لصالح الجناح التحريفي في السلطة حيث الحزب والجيش بيد هذا الجناح. ولم تكن محاولة ماو تسي تونغ سوى التدارك المتأخر لإعادة قطار الثورة إلى سِكَّته، وهو الأمر الذي لم يحصل.

لم تكن البرجوازية الفرنسية عام 1968 في وضع ضعيف أمام ثورة الطلبة، بل كانت الثورة نفسها اعتراضا على تغوُّل السلطة البرجوازية ضد الجامعات والمناهج…الخ، اي كانت الثورة الطلابية مثابة دفاع. ومما زاد انحراف ميزان القوى أن الحزب الشيوعي والنقابات لم تقف مع الثورة مما أدى إلى تآكلها إلى درجة أيلولة الأمور إلى انتخابات كانت لصالح اليمين.

في الحالة الفلسطينية، كان حدث الانتفاضة على أهميته ووهجه في ظرف غير مؤاتٍ على مختلف الصعد. كانت قيادة م.ت.ف في المنفى الإختياري في تونس بانتظار أية فرصة للمساومة مع العدو، وكان الوضع الرسمي العربي في غاية الرجعية والضعف مما دفعه ليقف ضد الانتفاضة كي لا تتفشى في الوطن العربي فيكون ربيعا عربيا حقيقياً. أما على الصعيد العالمي فكان راس المال قد انتصر على العمل وبدأ المعسكر الاشتراكي في التفكك بينما كانت الريجانية والتاتشرية تفرضان سياسات اللبرالية الجديدة في بلديهما وعلى صعيد عالمي. لقد اصطفت هذه العوامل جميعاً لتكون مناخاً مجافيا للانتفاضة الفلسطينية مما جعل توليد اتفاق اوسلو  امراً ممكنا بما هو اعتراف قيادة م.ت.ف بالعدو على ثلاثة أرباع الوطن الفلسطيني وبقاء بقية الوطن تحت سيطرته العسكرية والاقتصادية.

وانتصارات مهزومة:

صحيح بل مثير للنقد والأسى معاً أن تتفكك منظومة الكتلة الإشتراكية في أوروبا بمثل تلك السهولة دون أن يقوم بعضها بشرف المقاومة لتسجيل سقوط مشرِّف على الأقل. ونقصد مقاومة ممن يُفترض أن الدولة هناك هي دولتهم، اي العمال. ونقدنا هذا لا يتجاهل طبيعة ميزان القوى بين راس المال والعمل، بين الاشتراكية والراسمالية وتحديداً بأن قوة الراسمالية تمكنها من الرد وضرب وحتى تقويض الاشتراكية بمعنى أن الثورة المضادة ، وإن هزمت في ميادين محددة، لم تفقد قدرتها بعد. وهذا يضع تفكك الكتلة الاشتراكية في نطاق الصراع التاريخي الطويل بين الرأسمالية والاشتراكية.

لكن، أن يقف ويتحرك العمال ضد نظام “اشتراكي” وصولا إلى هزيمته وتقويضه، فهذا أمر يشترط قراءة رصينة ونقدٍ لا يمالىء. صحيح أن الاشتراكية لا بد تنتصر، لكن هذا لا يعفي التجارب من الخلل القاتل الذي حاق بها.

وفي نفس السياق، فإن الموجة القومية الثانية أتت في نطاق سقوط الكتلة الاشتراكية حيث واصلت الثورة المضادة هجومها بتوليد دويلات جديدة من نفس رحم هزيمة الكتلة الاشتراكية، فيا لمفارقة العلاقة والترابط بين الانتصارات المؤقتة والمهزومة تاريخيا!

_________

“كنعان”  غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.


[1] روبرت يونغ،  أساطير بيضاء، ترجمة أحمد محمود، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، مصر 2003، ص 339

[2]  http://www.historicalmaterialism.org/conferences/fifteenth-annual-conference?fbclid=IwAR0ea8GTfF7Jpe0200qKwjtKUZlmSmB7-U3C-7O7hIapKHlASQNaTP4mN9g