- · حلقة 5 الأخيرة: هل عرض الاقتصاديون حلولاً؟
نعم، عُرض الكثير والقَيِّم، ولكن متى؟ أي غالباً بعد أن استفحلت الأزمة من جهة، ومن جهة ثانية فالسلطة التي أنتجت الأزمة ليست الطرف الذي يمكن تقديم مقترحات الحلول لها ولا حتى المقترحات المرنة ، هذا ناهيك عن أن الحلول الجذرية المطروحة تحتاج وقتاً بمعنى السنين بينما الجياع حاليا في الشوارع! اي ان هذه المقترحات تشترط نظاماً مختلفاً تماماً لا يأتي بالصدفة بل بالإقتلاع، إنما هل ذلك ممكناً اليوم؟ ، وبغير هذا فهي كمقترحات ليست أكثر من تمرين رياضي جيد.
مما ورد في مقترحات إقتصاديين لبنانيين:
“…في مثل هذا الوضع فقط، يمكن الحديث عن إصلاح اقتصادي ومالي جدّي في لبنان. يتطلب الأمر مراجعة في الخيارات وفي السياسات وفي البنية السياسية… الخيار البنيوي هو التحوّل من اقتصاد ريعي إلى إنتاجي والتوجّه شرقاً في التعامل والمشاركة والتشبيك الاقتصادي عربياً وإقليمياً ودولياً. التشبيك العربي يهدف إلى تكوين كتلة عربية تستطيع التشبيك الندّي مع كل من الجمهورية الإسلامية في إيران وتركيا من جهة، ومع أثيوبيا وجنوب أفريقيا من جهة أخرى. أما دولياً، فمستقبل لبنان كمستقبل الكتلة العربية، هو في الطريق الواحد والحزام الواحد في الكتلة الأوراسية الصاعدة. والتحوّل من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي يقطع
علاقة موزّع الريع بالقاعدة من جهة ويفرض قسراً ثقافة المسائلة والمحاسبة. عندئذ يمكن التكلّم عن إصلاح في البنية السياسية. هكذا يصبح الانتهاء من ثقافة الريع شرطاً ضرورياً للإصلاح السياسي وللخروج من ثقافة الزبائنية المرتبطة بالنظام الطائفي. عند ذلك الحين يمكن التكلّم عن المواطنة بدلاً من الرعوية داخل الطوائف والمذاهب”.
هذه المقترحات تشترط سلطة غير الموجودة في لبنان، وسلطات عربية مختلفة تماماً. فلو كان حراك 17 تشرين جذرياً خارج نطاق الأنجزة والفاشية والأمركة، اي لو قلب كامل بنية النظام ومؤسساته لكان تقديم هذه المقترحات طبيعياً. قد يقول البعض لو أن الطرف الآخر، أي ذو العمامة فرز جماهير حزبه عن الأنجزة والأمركة والفاشية إلى شارع آخر، لكان الحرك قد اقترب من إسقاط النظام.
ربما، ولكن هذا الفريق لم يكن مع إسقاط النظام ربما لحسابات من طراز حصول فوضى وغياب بنية تنظيمية تؤمن بهذه الحلول وقوية لحمل هذا المشروع ناهيك عن ملائمة الفترة الزمنية. وقد لا يكون تقصير من هذا الفريق بقدر ما هو عدم اعتماده باكراً لموديل التنمية بالحماية الشعبية إلى جانب تحرير معظم المحتل من لبنان، ودوره النضالي الفريد.
يشترط موديل التنمية بالحماية الشعبية:
· حركة سياسية
· وجماهير تدعمها
وهما متوفران في الفريق المذكور.
لكن قرر هذا الفريق الوقوف جانباً وعدم دفع الحراك إلى مواقع جذرية ربما لم يحن أوانها.
صحيح أن انسحاب هذا الفريق من الشارع أكسب الطرف الآخر، الثورة المضادة زخما شعبياً حيث طالب الفريق الآخر “بحكومة مؤقتة بصلاحيات تشريعية”، لكن تناقضاته وعدم جذريته ومشبوهية قيادييه أكدت أنه لم يُنتج سوى حالة بين إجهاض وجنين معاق اي بضعة مقاعد في البرلمان وهو ما اتضح حيث دخل البرلمان اي تحت سقف المؤسسة إياها.
هذا سياسياً، أما على المستوى التطبيقي، فإن التنمية بالحماية الشعبية تعني بدايةً الانتقال من الريع إلى الإنتاج حتى لو توفر نظام ثوري، فالانتقال زراعيا يحتاج فيما يخص المحاصيل إلى سنة والأشجار إلى ثلاثة على الأقل وصناعيا إلى أكثر. وفي هكذا وضع يكون السؤال:
تمام، وحلو، ولكن من اليوم وحتى تبدأ قطاعات الإنتاج في تقديم مخرجاتها، كيف نمولها وكيف نأكل!
قد يُقال، نقترض من الشرق. وهذا صحيح ولكن تبقى القروض قروضاً حتى لو بالشروط الصينية وليست الإمبريالية.
يقول البعض: “… أما السياسات المطلوبة، هي لدعم القطاعات الإنتاجية وإعادة هيكلة النظام المصرفي ليخدم هذه القطاعات. السياسات تتطلّب تخطيطاً مدروساً على المدى القصير والمتوسط والطويل”.
وهذا صحيح، ولكن المصارف ، كما يُشاع، فارغة ولم يبق، كما يُشاع، سوى أن تعلن الإفلاس!
من الناحية الفنية هناك الكثير من الاقتراحات الجيدة مثل: إعادة الاعتبار إلى وزارة التخطيط وإلى القطاع العام بعد ترشيده وترشيقه… إلغاء الوكالات الحصرية والاحتكارات التي تحظى بالحمايات السياسية من قطاع الدواء إلى المحروقات إلى استيراد المواد الأساسية وسواها من القطاعات الاحتكارية… إعادة هيكلة الدين العام لتخفيف كلفة خدمته على الموازنة العامة، أي إعادة النظر في آجال السندات وتحويلها إلى آجال طويلة المدى وخفض الفائدة وخفض رأس المال الأساسي للدين. والهدف الرئيسي لإعادة هيكلة الدين العام هو تحرير الموازنة العامة من خدمة الدين التي تستحوذ على غالبية وارادت الدولة. …تقليص عدد المصارف … خصوصاً أن النظام المصرفي لم يسهم إلّا بشكل هامشي في تنمية وتمويل القطاعات الإنتاجية بل اكتفى بتحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد ريعي يرتكز إلى سندات الخزينة
والمضاربات العقارية غير المنسجمة مع النموّ والحاجات السكّنية للبلاد”.
تداخل وانسجام ريعي كمبرادوري كمب/ريعية:
ليس هذا العنوان لمخالفة توصيفات الاقتصاديين اللبنانيين، لكن حصر التوصيف في ما حصل منذ بداية التسعينات في تحول الاقتصاد من الإنتاج، ولو المتواضع، إلى اقتصاد ريعي وتوفر عوامل تثبيت وسيطرة الريعية عليه هي نفسها حالة تشترط أو تولِّد بالضرورة طبقة راسمالية كمبرادورية تعشق المظاهر، تربح أكثر بالاستيراد، لا إنتماء وطني لديها، فهي ليست برجوازية إنتاجية قومية التوجه.
بكلام آخر، فإن ريعية الاقتصاد تتطابق مع ثقافة القيادات الطائفيىة/السياسية بما هي من ناحية ثقافية إقطاعية وإستهلاكية وتعشق نظرية الاعتراف أي ان يعترف لها السيد الإمبريالي بأن قامتها قريبة من قامته. هذه هي المظهرية التي تحدث عنها نيركسه، وركزت عليها مدرسة
التبعية الإقتصادية وخاصة سمير امين في بداياته وفرتادو…الخ فمن الطبيعي أن الحالة الريعية تستدعي ثقافة الاستهلاكية المظهرية مما يستدعي بالضرورة دور الكمبرادور مما يولد هذه الطبقة إن لم تكن موجودة مسبقاً.
هذا ما أسميه حالة “البرجوازيّة المركَّبة ريعية/كمبرادوريّة” .
فالراسمالية الريعية تعيش على غير إنتاجها أي على موارد بلا جهد كالبلدان النفطية أو لا تعيش على إنتاج محلي عموماً كالاعتماد على تحويلات من الخارج سواء لعمال منها في الخارج أو منحا خارجية تربط اقتصادها بالأجنبي او بيع خدمات سياحية. بينما الكمبرادورية تعيش اساسا على وكالاتها للمنتوجات الأجنبية، أي أن الريعية متلقية المال المتأتي من
خارجٍ ما والكمبرادور أنبوبة تصريفه وإعادته إلى الخارج مجددا ولكن مصدر الواردات وغالباً ليس هو مصدر الريع ويتم ذلك عبر استيراد منتجات أرخص وربما أفضل من المنتجات المحلية فيتم قمع قطاعات الإنتاج المحلية. هذا الركيبة التي نسميها (كمبريعية ).
المهم أن التلقي والطرد للخارج يحتاج التحالف مع البنية المصرفية مما يخلق سلطة سياسية/مصرفية/ وراسمالية كمبرادورية تحديداً.
ولتوضيح مكرر تقريباً، في البداية تحصل الأزمة، كما حال لبنان، حينما تتباطىء التحويلات من الخارج فيبدأ البلد بالاقتراض والخضوع للمديونية بهدف إبقاء مستوى المعيشة المصطنع على حاله لعل وعسى “الله يفرجها” وهنا يظهر دور اكمبرادور الخطير معتمدا على ثقافة الاستهلاك.
وقد حصل في لبنان أن وقع في أزمة كوفيد 19 وهبطت اسعار النفط وهبطت السياحة سواء بسبب كوفيد أو بقرار من حكام الخليج المحكومين أمريكيا وصهيونيا للضغط على لبنان، ولذا تقلصت التحويلات ثم أُتخذ قرار نسف المرفأ، فقامت الأولغارشية السيا/مصرفية بقيادة حاكم المصرف بتهريب العملات الصعبة للخارج وتلقفتها مومس المال الدولية اي سويسرا .
وانتقل المشهد إلى طور أسوأ حيث إلتفَّت المصارف والسلطة السويسرية على شكاوى ومطالبات لبنان باستعادة الأموال التي جرى تحويلها على عجل في الأعوام الثلاثة الأخيرة، كما لم تقم فرنسا باعتقال حاكم مصرف لبنان الذي وُجدت في حقائبة 95 ألف دولار (للأسف في مقال سابق أخطأت في مقدار المبلغ) وكل هذا بحجة أكذوبة السرية المصرفية!
وتكتمل التراجيديا حين نسمع اليوم، بعد الانتخابات، كثيرا من ساسة لبنان يطالبون ب “رعاية فرنسية” فاي استدعاء مقيت للاستعمار!.هذا ناهيك عن التوجه لرضا صندوق النقد الدولي.
لعل لبنان بخليط سلطاته الكمبريعية وهيمنة الثقافة الطائفية أي تلويث وعي الطبقات الشعبية بثقافة الخضوع الطائفي “كمقدس” هو نموذج لتجويف الوعي الوطني والطبقي والقومي والأممي معاً باعتبار هذا التجويف أفضل الطرق كي يتمكن تحالف السلطة من تجريف الثروة بل نهبها وحتى تقشيط اصحاب الودائع ودائعهم علانية.
وربما نظرا لتجويف الوعي هذا، لم ترتق الاحتجاجات الشعبية إلى ابعد من الصراخ في الشارع دون توجيه حتى الصراخ نفسه إلى القيادات بعينها كمسببات للأزمة. فجماعة الأنجزة مشحونين محشوِّين يتحركون ببطاريات امريكية صهيونية ضد سلاح ذي العمامة، وشيوعيي الناتو ضد سوريا، وجماعة الفاشية يقدسون زعماء الطوائف.
وعليه، فإن جماعة هذا الحراك ومن يمثلونهم في البرلمان ليسوا مؤهلين اليوم من حيث مواقفهم وخلفياتهم ومحركيهم لتبني برنامج جذري علاوة على انهم ليسوا متجانسين تماماً، ولكن كونهم أفراداً لم يأتي معظمهم من خلفيات منظمة فقد يسهل شرائهم أو ترويعهم لصالح مشروع خطرٍ ما.
وعليه، إذا كان استرداد المال المنهوب غير ممكن قط أو يحتاج إلى وقت طويل، وإذا كان قرض صندوق النقد الدولي ، وهو إسعاف مؤقت، سيضع على كاهل الطبقات الشعبية لاحقا أعباء ضريبية جديدة أي تأميم الديون القديمة والجديدة! وبالطبع سيشترط الصندوق بيع أملاك الدولة…الخ.
فما العمل؟
يمكننا تقسيم ذلك إلى مستويين زمانيين:
المستوى الأول/المباشر:
· تجديد الحراك الشعبي بقيادة فريق ا.ل.م.ق ا.و.م.ة لمحاصرة منازل
رجال المصارف ومنهم حاكم مصرف لبنان، بما هم مهربو اموالهم وودائع الناس،
واحتلال شركاتهم وأملاكهم كي يُعيدوا بشكل فوري ما نهبوه لتحقيق سيولة
مالية، أو تُعرض أملاكهم للبيع وليست موجودات الدولة.
· رفض دفع الديون ولو مؤقتاً مع إعادة جدولتها وتدقيق مقاديرها، وهذا يمكن مطالبة أية سلطة به حتى الحالية.
· احتلال مصالح الدول التي رفضت مطالبة لبنان بالأموال التي جرى تهريبها إليها.
· مقاطعة منتجات مختلف الدول المعادية سواء العداء الحربي أو الاستغلال الاقتصادي أو الثقافي، وهذا يشترط:
· تبني سياسة الاستهلاك الواعي أي غير الترفي
· الضغط على السلطة لتقم مباشرة بتدفيع اصحاب الثروات الكبيرة ضرائب مباشرة لتوفير سريع لسيولة مالية .
· الضغط للتوجه شرقا من أجل مشاريع سريعة التنفيذ سواء الاستيراد من إيران أو قيام روسيا بإقامة مصفاة بترول في وقت قصير، والاقتراض المحدود من الصين حين الضرورة.
قد يعتقد البعض أن هذه الاقتراحات بل التحركات سوف تقود إلى اشتباك قوى. ولكن ربما لا، فهي إذا ما تم عرضها بشكل واضح ستعري اللصوص أمام المخدوعين بهم.
المستوى الثاني: التنمية بالحماية الشعبية، وهذا موديل لا تتحقق أسرع مخرجاته قبل سنة. وهو ما كان على فريق ذو العمامة أن يتبناه منذ عقود.
ولا معنى لاحتجاج البعض بأنه هذا سيخلق إشكالات اجتماعية، بل بالعكس، فطالما هناك ملكية خاصة، فمن حق الطبقات الشعبية الذهاب إلى التعاونيات وحتى ملكية عامة للطبقة أو للحزب بحيث تخلق تبلور قانون قيمة وطني خارج السوق ولا يتبادل معه دون قيود.
إن اقتصاد الحماية الشعبية هو خروج من شباك السوق سواء المحلية أو العالمية والعمل بغير منطقهما. وهذا في الحالة اللبنانية يتطلب:
· الانسحاب إلى الداخل استهلاكا وإنتاجا لتقوية السوق المحلية بمعنى مقاطعة منتجات الأعداء والمنتجات التي لها بدائل محلية أو يمكن سريعا توفير تلك البدائل.
· التنمية بالحماية الشعبية بمعنى وجود قوى شعبية طبقية تقوم بالمقاطعة وتطوير تبادل أو سوق محلية بقانون قيمة محلي تقطع مع السوق العالمية قدر الإمكان وتشكل بهذا ضغطا على السلطة كي تخرج من السوق الدولية. وبالطبع يكون الأمر اسهل إذا تبنت السلطة استراتيجية التنمية بالحماية الشعبية ولكن غالبا تكون الدولة بيد طبقة انخراطية في السوق
العالمية مما جعلها ضد التنمية بالحماية الشعبية إلا إذا أجبرت على ذلك من تحت.
· فك الارتباط وهي اللحظة التي تتمكن الطبقات الشعبية بالحماية الشعبية من فرض استراتيجيتها على السلطة أو قرار السلطة الخضوع وتبني البديل اي الحمايةالشعبية فتتبنى فك الارتباط.
_________
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.