مدايات الصراع الدولي في اللحظة الراهنة، محمود فنون 

صرت أظن ” وإن بعض الظن إثم ” أن الصراع العالمي الذي تنفجر نواته في أوكرانيا قد قطع شأوا معينا  واتسع وآخذ في الاتساع وأنه لا عودة إلى ما كانت عليه الحال: 

روسيا لا تستطيع أن تتراجع وخاصة في هذا المستوى من الصراع المضبوط تقريبا من كلا طرفيه – روسيا وحلفها وأمريكا وحلفها . 

وفي سياق هذا الضبط تجري متغيرات مهمة وارهاصات لتغيرات عالية الأهمية . 

روسيا تحارب في عمليتها بطريقة القضم وتشتيت قوى الخصم وتتقدم في اقليم الدونباس للسيطرة عليه ، وهذا من أهم أهداف العملية العسكرية بالإضافة الى فرض حياد اوكرانيا وتطهيرها من النازية. 

ومن جهة ثانية تجري صياغة منظومة دولية جديدة لتكون على الاقل غير خاضعة لهيمنة المنظومة القديمة وسيطرة أمريكا بل وخرقا نوعيا لها وهي مجموعة أوراسيا والبريكس وشنغهاي والعديد من الدول الاخرى ومنها ايران وفنزويلا  وكوريا الشمالية وكوبا الى جانب الصين وروسيا والهند . 

 وهي مجموعات آخذة في التبلور من قبل  وتستهدف حماية نفسها واستخدام عملاتها الوطنية في التبادل التجاري. وهذا يساهم في صمود وتطور الاقتصاد الروسي وتوسع الفرص أمام حمايته من نتائج العقوبات الشديدة المفروضة عليه . وهذا يمكن روسيا من إيجاد أسواق هامة لنفطها وغازها وقمحها والكثير من منتجاتها الهامة التي كانت الاسواق الاوروبية تستوعبها وترتكز عليها . 

مع العلم أن توافق هذه المجموعات ليس بعيدا عن مجمل عملية الصراع وما تقوم به المنظومة القديمة من جهد مضاد لتفكيكها وإضعافها . 

ولا بد أن نأخذ بعين الإعتبار أن المرتكزات التي تشكل دوافعا لهذ الترتيب ليست أيدولوجية ولا بهدف الإنعتاق من النظام الرأسمالي بل هي دوافع قومية ومصالح اقتصادية  واسواق، و تتقاطع حول هدف الإفلات من هيمنة العالم القديم للتأسيس لعالم وعوالم جديدة ربما متعددة الأقطاب ، وفسح أوسع مجال للتنمية الذاتية والتطور عبر التعاون الهادف بين مكونات هذه المجموعة او المجموعات وحماية اسواقها . 

فأمريكا تعمل دوما عل حجز وحصر تطور ونمو البلدان الأخرى أو ابقاء نموها في إطار التكامل مع اقتصادها ومصالحها الإقتصادية .والسيطرة على اسواقها قدر ما تستطيع.وإذا لزم الأمر فإن أمريكا تستخدم الحماية الجمركية وقتما تشاء بالرغم من اتفاقات التجارة العالمية التي ساهمت أمريكا في تأسيسها . 

وبالطبع أمريكا تمارس كل ما لديها من ضغوط ،ورأينا بأم العين ما حصل في باكستان حينما حاول رئيس وزرائها الإفلات والذهاب إلى التراكيب الجديدة .وسمعنا ولا نزال نسمع التهديدات للصين وغيرها ، وما نراه من سياسة العصا والجزرة مع إيران وفنزويلا والجزائر وغيرها . 

ومن جانب آخر تسعى امريكا لترسيخ حلفها وتكتلاتها في المحيط الهندي وتستنجد باستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ، وتكرس تبعية الأنظمة الرجعية العربية وتحاول في أفريقيا وأمريكا اللاتينية . 

أي  أن مدايات الصراع عالمية بالرغم أن بررته المتفجرة لا تزال في أوكرانيا . 

إن الصراع القائم في وجه الدولار واليورو يأخذ مدايات جديدة ويزعج أمريكا إلى ابعد الحدود . فالدولار ليس مجرد عملة وطنية أو عالمية بل له حال خاص بانتشاره الواسع في كل اقتصادات العالم ومعادلة أهم البضائع باسمه وإلى جانب ذلك وهذا مهم جدا فالدولار عملة غير محددة الكمية حتى الآن ، بل أن الزيادة في حيازته واستخدامه كاحتياط في دول العالم يعتبر ضمانا محليا في لاقتصادياتها  ، ولأنه غير محدود الكمية فإن أمريكا تطبع منه الكميات التي تريد وتضخها في السوق العالمية وتشتري بها البضائع بينما المصدرون يقبلون ذلك بكل امتنان . إن مركز الدولار هذا سيتعرض للاذى كلما تمكنت المجموعات الدولية من طرح عملاتها الوطنية لتكون عملات التداول بدلا من وإلى جانب الدولار . 

وفي اوروبا يجري حراك واسع بسبب التكتل الصراعي القائم : فقد وجدت اوروبا نفسها مصطفة وراء أمريكا في خوض هذا الصراع . وإذا كانت بريطانيا وفرنسا والمانيا على مستوى هذا الصراع فإن انخراط الدول الصغرى ومهما كان دورها فإنه أقرب إلى الكومبارس وكنوع من المحافظة .فهي قد وجدت نفسها مستقرة على هذا النظام الدولي واليوم تراه معرضا للزعزعة فانساقت وهي تظن أن مصلحتها في بقاء كل شيء على حاله وهو في الحقيقة لم يبق على حاله .  

فهذه الدول تعاني من توريدات النفط والغاز والقمح والأسمدة وكثير من السلع كما أن السوق الروسي قد أغلق في وجه منتجاتها ،والحال قد يطول وهو سوف يطول حتى بعد توقف المدافع . 

ولذلك هرعت الكثير من دول أوروبا “بعد تمنعّ !” في قبول شراء النفط والغاز الروسيين بالروبل وتسعى لشراء القمح والاسمدة لضمان سلامة اقتصادها. 

وتصرح هذه الدول بقلقها من ارتفاع الأسعار ونقص السلع وارتفاع التضخم ونقص الغذاء بشكل خاص . 

ولفت انتباهي تصريح رئيس وزراء فرنسا عن سعي الحكومة لتأمين مستلزمات حياة المواطنين. 

هذا حال اوروبا وهي ترى بعينها أن أمريكا ستربح في مجالات عديدة وعلى رأسها مبيعات الأسلحة والطاقة .   

لقد كان الصراع موجودا قبل العملية الروسية ودفعته الحرب خطوات واسعة إلى الأمام في كل المجالات العسكرية والإقتصادية والمجتمعية والثقافية والروحية ووصل حتى الرياضة . 

أي أنه صراع واسع الحدود ويصل إلى حافة الحرب العالمية بكل مخاطرها ومضبوط تقريبا إلى ما دونها . ولذلك فهو خطير جدا والأحلاف تتبلور وتحضر نفسها والتهديدات قصوية تماما بما فيها التهديد باستخدام النووي . 

إن روسيا تدافع عن حالها الحاضر والذي لا يمكن الدفاع عنه بدون التغيير الواسع عالميا بما يدفع إلى بناء عالم جديد تستهدفه الكثير من الدول الهامة وعلى رأسها روسيا والصين . 

بينما يسعى الغرب إلى صناعىة ربيع روسي لا يبقي ولا يذر وهو لن يستطيع ذلك. 

_________

“كنعان”  غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.