بعد 28 يوماً من الجدل والضغوط الأميريكيّة، ونقاشات عصيبة استهلكت سحابة اليوم الأول من قمة للقادة الأوربيين في بروكسيل، تمكنت أوروبا من التوافق سياسياً على حل وسط بين دول الاتحاد الأوربي يضمن فرض عقوبات واسعة على تجارة تصدير النفط الروسيّ للقارة. ويحاول الأمريكيون عبر هذه المناورة الجديدة التي ستكلّف المواطنين الأوروبيين مزيداً من تضخم الأسعار تقليص مصدر رئيسي لتمويل ما تسميه بالآلة الحربيّة الروسيّة. لكن بطل الليلة الماضية كان بلا منازع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي تصادف أنه بلغ من العمر 59 عاما اليوم، وسيعود إلى بودابست منتصراً، بعد أن نجح في تأمين مصالح بلاده من خلال الحصول على استثناء من الالتزام بالاتفاق الجديد
خضع القادة الأوروبيّون للضغوطات الأمريكيّة وتوافقوا بعد مداولات عصيبة لهم استمرت في وقت متأخر من مساء اليوم الأوّل لقمتهم في العاصمة البلجيكية بروكسيل (الاثنين) على قرار سياسي من حيث المبدأ بفرض حزمة سادسة من العقوبات على روسيا استهدفت هذه المرّة بشكل أساسيّ واردات النفط الروسية إلى القارة. وسيتعيّن على المجلس الأوروبي (البرلمان المشترك لدول الاتحاد الأوروبي) الآن أن يوافق رسمياً على هذه الحزمة الجديدة التي تأخر إقرارها ل28 يوماً منذ طرحها بداية هذا الشهر، وهي إجراءات تشمل إعداد النصوص القانونيّة قبل عرضها على النواب الأوربيين لإقرارها ربما في وقت لاحق من هذا الأسبوع بحسب مصادر في بروكسيل.
وتشمل الحزمة إلى حظر النفط عقوبات أخرى، بما في ذلك فصل سبيربنك، أكبر بنك استهلاكي في روسيا، عن نظام سويفت الدولي للدفع، وستمنع ثلاث محطات بث روسية مملوكة للدولة من استخدام موجات الأثير الخاصة بالاتحاد الأوروبيّ، وتحظر أيضا التأمين وإعادة التأمين على السفن الروسية من قبل الشركات المسجلة في الاتحاد الأوروبي، كما عقوبات شخصية بحق البطريرك كيريل، رأس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والحليف المقرب من بوتين، الذي منح تبريكاً مقدسا للعمليّة العسكريّة الروسيّة، فضلا عن قادة عسكريين يتهمهم الغرب بالمسؤوليّة عن جرائم حرب مزعومة تدعي بروكسيل أن قوات روسيّة اقترفتها في أوكرانيا.
وبحسب تصريحات شارل ميشيل، رئيس المجلس الأوروبي فإن هذه العقوبات ستطال سريعاً أكثر من ثلثي واردات النفط الروسيّ إلى دول الاتحاد، وسيدخل أغلبها حيّز التنفيذ قبل نهاية العام الحالي.
وتأتي هذه الخطوة الجديدة كجزء أساسي من استراتيجيّة أمريكيّة لتنفيذ أوسع حصار اقتصادي ضد روسيا لقيام الأخيرة بعملية عسكريّة في أوكرانيا بدأت في 24 فبراير / شباط الماضي، ولا تزال مستمرة حتى اللحظة دون إشارات على نهاية قريبة لها. وترى واشنطن أن حرمان روسيا من سوقها التقليدي لتصدير النفط نحو القارة الأوروبيّة سيقلّص أحد أهم موارد تمويل ما تسميه ب”الآلة الحربيّة الروسيّة”.
على أن الصيغة التي تم تبنيها في النهاية من قبل القادة الأوروبيين لفرض هذه الجولة من العقوبات والوقت الذي استغرقوه لذلك عكس في الواقع انقسامات شديدة بين تيارات متعارضة داخل الاتحاد لا سيما بشأن التكاليف الاضافيّة التي ستترتب على المواطنين الاوروبيين حال تنفيذها. واضطر القادة إلى قبول استثناءات كثيرة للعديد من الأعضاء قبل التوافق على تسوية بدت كقطعة قماش كثيرة الثقوب.
وستسمح التسوية كما أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لصادرات روسيا من النفط بالاستمرار بالتدفق عبر خطوط الأنابيب إلى الاتحاد الأوروبي حتى إشعار آخر، فيما سيتم حظر الشحنات المنقولة بحراً بحلول نهاية العام الجاري. وكتبت فون دير لاين على تويتر أن اتفاق القادة “سيخفض فعليا نحو 90٪ من واردات النفط من روسيا إلى الاتحاد الأوروبي مع نهاية العام”. ومن الجليّ أن الرئيسة ذات الهوى الأمريكي المعروف واجهت تحدياً كبيراً ودفعت بشدة نحو التوصل لأي اتفاق ولو بالحد الأدنى لأن الفشل كان سيطيح بحياتها المهنيّة كما مستقبل زميلها شارل ميشيل.
وتشمل الحزمة إعفاءات لاسترضاء هنغاريا التي عارض رئيسها فيكتور أوربان فرض حظر على استيراد النفط من روسيا وغيرها من البلدان القلقة بشأن التأثير السلبي المتوقع على اقتصاداتها ورفاه مواطنيها. وحصلت جمهوريّة التشيك على تأجيل لمدة 18 شهراً بغرض منحها الوقت لإيجاد بدائل. وبحسب تصريحات لمسؤول في مكتب الرئيسي الفرنسي إيمناويل ماكرون فإن بروكسيل ستعمل على حلول لاستكمال إغلاق الفرع الجنوبي من خط الأنابيب الروسي الذي يخدم دول وسط القارة – التي لا موانىء لها: هنغاريا وسلوفاكيا والتشيك – في أقرب وقت ممكن”. وسيتضمن ذلك فيما عُلم مد خط أنابيب بديل من كرواتيا نحو هنغاريا بحيث يمكن لبودابست الاستغناء عن الحاجة للنفط الروسيّ مستقبلاً.
ويمكن لألمانيا وبولندا الاستفادة من الإعفاءات لواردات النفط الروسيّ عبر الفرع الشمالي، لكن الهيمنة الأمريكيّة على صنع القرار في البلدين هائلة لدرجة أنهما قد يلتزما بعدم الاستفادة من تلك الإعفاءات رغم التكلفة العالية لعملية استبدال الموردين بمصدرين من الشرق الأوسط وأفريقيا.
وتشكّل واردات النفط الروسيّ ما لا يقلّ عن ربع كل ما تستورده أوروبا من النّفط والذي ما زال يشكّل عنصراً أساسياً في عجلة الانتاج والنقل والحياة اليوميّة عبر القارّة، كما أن العديد من الدّول – مثل هنغاريا مثلاً – تحصل عليه بأسعار تفضيليّة قد يستحيل عمليّاً الحصول على مثلها من مكان آخر في وقت ما زالت فيه أغلب الاقتصادات الأوروبيّة الأصغر تترنح من آثار عقد من التقشف ومترتبات جائحة كوفيد 19.
وبأخذ الاتفاق الأوروبي بصورته الكليّة، فإنّه يبدو أقرب إلى الهزيمة منه إلى الانتصار. فموسكو التي تصدّر لأوروبا حوالي نصفها مجمل انتاجها النفطي (47 بالمائة) ستكون حتماً أقلّ تأثراً بهذه الحزمة السادسة من العقوبات مقارنة بجيرانها الأوروبيين، إذ تمكن الروس بالفعل من إيجاد أسواق بديلة في آسيا، وتضاعف سعر النفط خلال الاشهر الثلاثة الماضية بما قد يعوّض تقلّص حجم الكميّات المصدرة إلى حد كبير، في الوقت الذي سيضطر فيه الأوروبيّون إلى التفاوض مع موردين جدداً قد لا يمتلكون القدرة أو الرغبة على إمدادهم فوريّاً بحجم مضاعف منتظم من الانتاج، كما ومن المحتّم أن قيمة فاتورة المشتريات ستزيد بشكل ملموس، وسيأكل التضخم من أرباح الشركات ودخول المواطنين على حدّ سواء مما قد يؤدي بالكثير من المؤسسات التجاريّة والصناعيّة الكثيفة الاعتماد على النفط إلى حافة الإفلاس خلال وقت قياسيّ، ناهيك عن خلق مناخ مؤات لاضطرابات سياسيّة واجتماعيّة. كذلك، لم تجرؤ بروكسيل إلى الآن على طرح مسألة مقاطعة الغاز الروسيّ رسميّاً، وأقفلت المفوضيّة سريعاً النقاش في هذه القمّة حول حزمة سابعة من العقوبات أراد الأمريكيون طرحها عبر ليتوانيا خشية تعميق الشقاق داخل الاتحاد الذي بالكاد لمم الأمور لإقرار الحزمة السادسة، وهذا كلّه يشير إلى تحديات لوجستيّة وسياسية هائلة تجعل من المقاطعة الأوروبيّة الشاملة لروسيا في ظل الشروط الموضوعيّة الحاليّة تفكيراً رغائبيّاً.
لكن المنتصر الوحيد في كل همروجة حظر النفط الروسيّ هذه كان بكل تأكيد رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان الذي نجح وحيداً بعرقلة التوصل إلى اتفاق شامل لحوالي الشهر، واضطر قادة الاتحاد الأوروبي في النهاية لتجنب الإحراج البائس وحفظ ماء الوجه إلى منحه استثناء تاماً من الحظر. واعترف مسؤولون أوروبيّون ودبلوماسيون تحدثوا للصحافة على هامش القمّة بأن أوربان الذي يتمتع بهيمنة شبه تامة على القرار في بلاده نجح في وضع مصالح الشعب الهنغاريّ فوق الجهود الأمريكيّة الراميّة إلى بناء جدار حديدي جديد حول روسيا. ونقل عن أحدهم قوله “إذا نظرت إلى قضية الشهر بأكمله، فنعم، إنّه أوربان. لقد حصل على الكثير – وأبقى الجميع رهائن عند إرادته”.
ولم يكتف أوربان بذلك فحسب، بل وعاد إلى بلاده ليحتفل بعيد ميلاده التاسع والخمسون وهو يحمل في جيبه ضمانات من بروكسيل بتوفير إمدادات بديلة طارئة لبودابست إذا تعطلت شحنات خطوط النفط الروسي المارة ببلاده لأيّة أسباب (ربما عسكريّة).
نشر هذا المقال بصفحة الدّوليات بجريدة الأخبار اللبنانيّة عدد 1 يونيو 2022
:::::
موقع “الثقافة المضادة”، 31 مايو 2022
https://counterculture1968.wordpress.com/
_________
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.