تتصاعد حركة الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده على نحو مضطرد تشي بإرهاصات نهضة هوية نضالية متجددة، وهي حركة مقاوِمة بطبيعتها الفطرية. كانت البدايات بالعمليات الفردية التي شهدناها خلال السنوات الماضية بالسكاكين والحجارة وقنابل المولوتوف وعمليات الدهس، مع بعض العمليات القليلة التي جرت بأسلحة نارية متواضعة ومعظمها كان صناعة محلية.
لكن الملاحظ أن هذه العمليات ورغم استشهاد غالبية منفذيها، أشعلت شرارة ما لدى الشباب، وأبقت جذوة النضال متقدة في مرحلة كاد فيها الكثيرون يفقدون الأمل بحدوث نهضة كفاحية في الوقت الحالي. ثم تطورت حركة الشعب الفلسطيني وأخذت أبعاداً أخرى عندما بدأ يلمس تعاظم خطر التهويد في مدينة القدس والمسجد الأقصى، وتركز النضال والاهتمام هناك، لأسباب متعددة منها رمزية المدينة وقدسيتها، ومحاولة العدو الاستفراد بها وبسكانها في ظل التخاذل العربي والإسلامي والتنسيق الأمني وتراجع الوضع الفلسطيني السياسي وفساد الجزء الأكبر منه. لكن اليأس من النصرة من الخارج كان هو بالتحديد ما أشعل الأمل في نفوس شباب القدس بأن يعتمدوا على أنفسهم وعلى شعبهم وينهضوا للدفاع عن مدينتهم ومقدساتها دون انتظار لأحد، أياً كان.
جاء شهر رمضان عام 2021 ليسجل أحداثاً مفصلية في تاريخ فلسطين والمقاومة. فقد أصبح خطر التهويد مباشراً أكثر من ذي قبل مع تعرض أهالي حي الشيخ جراح لخطر الطرد والتشريد الجماعي، مع اشتداد الحملة الصهيونية لمصادرة منازل الحي والاستيطان فيها، وهو ما أدرك سكانه ومعهم كل أهل القدس أنه إن نجح، سيمتد ليهدد أحياء وقرى أخرى في مدينة القدس تباعاً. فكان قرار الصمود والمواجهة البطولية الذي اتخذه سكان حي الشيخ جراح وساندهم فيه كل أبناء القدس وفلسطين من بحرها لنهرها، وتحديداً فلسطينيو الداخل المحتل عام 48. وبعد معارك عديدة في شوارع ومنازل الحي بين سكانه والمتضامنين معهم من جهة، والمستوطنين وشرطة الاحتلال من جهة أخرى على مدى أسابيع طويلة، جاء شهر رمضان المبارك يحمل معه تهديد المستوطنين باقتحام المسجد الأقصى ومحاولة فرض السيادة الصهيونية عليه عبر ما يسمى بمسيرة الأعلام، ليشكل نقطة تحول جديدة مع بروز الدعوات بين فلسطينيي القدس والداخل والضفة لمن يستطيع من أهلها ليهبوا لحماية ونصرة المسجد الأقصى. هنا تدخلت المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة ورفعت السقف بتهديدها بدخول المعركة إن لم يتراجع كيان الاحتلال عن اقتحام الأقصى ومسيرة الأعلام الكبرى التي كان مخططاً لها. ونفذت المقاومة تهديدها كما نعلم جميعاً وكانت معركة سيف القدس وما نتج عنها من موازين قوى جديدة غيرت الكثير في مجرى الصراع.
ما بعد سيف القدس حصلت إرهاصات نهضة نضالية تبشر بظهور هوية وطنية فلسطينية مقاومة بين الجيل الجديد من الشباب قوامها الوحدة الوطنية على قاعدة المقاومة الشاملة للاحتلال في كافة أرجاء فلسطين المحتلة من إيلات إلى الناقورة ومن البحر إلى النهر، دون فصل أو انفصام جغرافي أو فكري أو سياسي. هذا التلاقي جاء نتيجة التلاقح المباشر بين أهلنا في الداخل والقدس والضفة على مدى السنوات الماضية في معارك القدس المختلفة واضرابات الأسرى وحروب غزة وغيرها من الأحداث الجامعة.
إن الشعب العربي الفلسطيني بحاجة لتجديد هويته الوطنية وإعادة بنائها بشكل مقاوم على أسس علمية وثقافية وسياسية وتربوية راسخة بعد أن تعرضت الهوية الوطنية للكثير من التشويه المنظم والمخطط له في سنوات أوسلو البائسة. فقد عمل الاحتلال بشتى الطرق وبمشاركة جهات فلسطينية مختلفة على نشر الجهل والتعصب والتخلف وتعزيز القيم الفردية والاستهلاكية بين أفراد الشعب وإشغاله عن قضاياه الوطنية بما فيها الحرية والاستقلال وتقرير المصير. وكانت هذه الحملات مكثفة ونجحت في إحداث خروق كبيرة في بنية المجتمع الفلسطيني. وما نراه من التفاف جماهير الشعب وشبابه تحديداً حول نهج المقاومة يؤكد وجود صحوة فكرية أساساَ ووطنية تتيح إعادة ترميم وصياغة الهوية الوطنية، بما يؤكد ويعزز ثوابت شعبنا ويعيد لفكرة التحرر الوطني والكفاح المسلح مكانتها وألقها. هوية تؤكد مكانة وأهمية العلم في المواجهة مع العدو، فصراعنا صراع عقول وإرادات لن ننجح فيه ونحن نتسرب من التعليم ونتمسك بالعصبيات العشائرية والحزبية ونعليها على الوطن. هذه الهوية الوطنية المتجددة ينبغي أن تنبذ وتحارب كل إفرازات مرحلة أوسلو الفكرية والثقافية والسلوكية، وتعيد تثبيت قيم المجتمع الفلسطيني الأصيلة في التكاتف والتضامن والتماسك المجتمعي ونبذ أي سلوكيات منحرفة ودخيلة تسهل الخيانة والتخاذل وتشجع المصالح الفردية والانتهازية والفساد بكافة أشكاله الأخلاقية والمالية والسياسية.
المهمة ليست سهلة لكنها ممكنة الآن وتحتاج إلى جهود فكرية وإعلامية وشبابية وتربوية وتعليمية مركزة من قبل جميع المخلصين لفلسطين والثوابت الوطنية للشعب الفلسطيني.
إن البناء على الإنجازات التي تحققت منذ معركة سيف القدس إلى الوقت الحالي يتطلب العمل بشكل جاد وممنهج على صياغة الهوية الوطنية الفلسطينية وتنظيفها من الشوائب التي علقت بها، وبدون ذلك ستبقى إنجازات الشعب والمقاومة عرضة للزوال، عرضة لأن تكون مؤقتة ومرحلية تعصف بها رياح العدو في أي لحظة.
* رئيس الرابطة الثقافية الوطنية الفلسطينية
_________
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.