

العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، كما يجمع الخبراء المرموقون في العلاقات الدولية، هي الوتر الأخير والحاسم في عملية التحول من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب.
التعددية القطبية تبدو أحيانا فكرة بديهية، ولكن بمجرد أن نحاول أن نقدم تعريفا دقيقا لها، كل شيء يصبح أقل وضوحا. أعتقد أن كتابي”نظرية عالم متعدد الأقطاب” (2015) هو أكثر أهمية اليوم من أي وقت مضى. ولكن لأن الناس نسوا كيفية قراءة نصوص النظرية في مجلدات ضخمة، سأحاول شرح الأحكام الرئيسية بإختصار.
اللاعب الرئيسي في النظام العالمي متعدد الأقطاب ليست هي الدولة القومية (كما في نظرية الواقعية في العلاقات الدولية)، و ليست حكومة عالمية واحدة (حسب النظرية الليبرالية). انها دولة الحضارة – اللاعب الرئيسي.
وغالبا ما يطبق مصطلح “دولة الحضارة” على الصين سواء القديمة او الحديثة. في العصور القديمة، وضع الصينيون نظرية تيانشيا “Tianxia” (天下)، “السماوية”. وفقا لها تعتبر الصين مركز العالم، كونها مكانا للقاء السماء مع الأرض. وعلاوة على ذلك، فإن “السماوية الإمبراطورية” يمكن أن تكون دولة واحدة، أو أنها يمكن أن تتحلل إلى مكونات، ومن ثم إعادة تجميعها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الصين(ايام سلالة هان) نفسها ساهمت في تشكيل ثقافة الشعوب المجاورة حول الصين – في المقام الأول لكوريا وفيتنام ودول الهند الصينية و حتى اليابان.
الدولة القومية هي نتاج العصر الأوروبي الحديث، وفي بعض الحالات، مرحلة ما بعد الاستعمار. بالمقارنة دولة الحضارة لها جذور قديمة و… حدود متغيرة و غير ثابتة. دولة الحضارة تنبض بالحياة – تتوسع في بعض الأحيان، وأحيانا تضيق، ولكن دائما تبقى ظاهرة ثابتة. (وهنا يكمن أول شيء تحتاج لمعرفته حول العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا).
الصين الحديثة تتصرف في السياسة الدولية بدقة وفقا لمبدأ “Tianxia”. “طريق واحد، حزام واحد” – هي مثال ساطع على ممارسة النظرية على أرض الواقع. وشبكة الإنترنت الصينية تفلتر كل الافكار الهدامة قبل دخولها الصين. هكذا يتم بناء آليات الحماية الذاتية.
يمكن لدولة الحضارة أن تتفاعل مع العالم الخارجي، لكنها لا تقع أبدًا في مطب الاعتماد عليها وتحتفظ دائمًا بالاكتفاء الذاتي والاستقلالية.
إن دولة الحضارة هي دائمًا أكبر من مجرد دولة من الناحيتين المكانية والزمانية (التاريخية).
روسيا تنجذب على نحو متزايد في هذا الاتجاه بالذات. بعد بداية الحرب، لم تعد مجرد رغبة، ولكن حاجة ملحة. كما هو الحال بالنسبة للصين، ان روسيا لديها كل المقومات كي تطمح ان تكون حضارة. وقد وضعت هذه النظرية بالكامل من قبل الروس الاورواسيويين الذي استنبطوا مفهوم
– “العالم الروسي” او “القارة روسيا”. في الواقع، فإن مفهوم روسيا وأوراسيا هو مؤشر مباشر عن وضع روسيا الحضاري. وروسيا هي أكبر من مجرد دولة قومية (والتي هي الاتحاد الروسي). روسيا هي عالم منفصل.
كانت روسيا حضارة في عهد الإمبراطورية، وظلت كذلك في الحقبة السوفيتية. الأيديولوجيات والأنظمة تغيرت، ولكن ظلت الهوية نفسها.
النضال من أجل أوكرانيا ليس سوى النضال من أجل دولة الحضارة. وينطبق الشيء نفسه على دولة الوحدة بين روسيا وروسيا البيضاء والتكامل الاقتصادي في الفضاء الأوروبي الآسيوي السوفيتي السابق.
ان العالم متعدد الأقطاب يتألف من دول الحضارة. هذا العالم تشكله عوالم متنوعة تماما مثل الكون الذي يضم مجرات عدة. وهنا من المهم تحديد عدد دول الحضارة التي يمكن أن توجد من الناحية النظرية ؟
بطبيعة الحال، الهند تنتمي إلى هذا النوع النموذجي لدولة الحضارة، والتي اليوم لديها كل الإمكانات لتصبح لاعبا رئيسيا في السياسة الدولية.
ثم العالم الإسلامي – من إندونيسيا إلى المغرب. هنا، تقسيم إلى دويلات وجيوب عرقية و ثقافية مختلفة مما لا يسمح لنا بالحديث عن الوحدة السياسية. هناك حضارة إسلامية، ولكن السؤال: كيف نجمعها في دولة الحضارة؟ هناك إشكالية إلى حد ما. وعلاوة على ذلك، فإن تاريخ الإسلام يضم عدة أنواع من دولة الحضارة – من الخلافة (الخلفاء الراشدين، الأموية، العباسية، الخ) إلى المكونات الثلاثة لإمبراطورية جنكيز خان الذين اعتنقوا الإسلام (القبيلة الذهبية، دولة الخان والشاغاتية أولوس)، والدولة الفارسية من الصفويين، ودولة المغول العظمى وأخيرا، والإمبراطورية العثمانية. الحدود التي كانت يوما، ما زالت صالحة اليوم. ولكن عملية تجميعهم في هيكل واحد يتطلب وقتا وجهدا كبيرين.
أمريكا اللاتينية وأفريقيا هي في نفس الموقف – الحضارات الكبيرة لا تزال منقسمة إلى حد ما. ولكن العالم متعدد الأقطاب بطريقة أو بأخرى سوف يدفع عمليات التكامل في جميع هذه المناطق.
الآن الشيء الأكثر أهمية: ما يجب القيام به مع الغرب؟ نظرية العالم متعدد الأقطاب غائبة عن نظريات العلاقات الدولية في الغرب الحديث.
اليوم، النموذج المهيمن هناك هو الليبرالية، التي تنفي عموما أي سيادة وأي إستقلال، كما تشطب الحضارة والدين والجماعات والثقافات العرقية، وتستعيض عنها قسرا بالأيديولوجية الليبرالية، ومفهوم “حقوق الإنسان”، و النزعة الفردية ( السياسة الجنسية والتحول الجنسي) والمادية والتقدم التقني وقيمته الأعلى (الذكاء الاصطناعي). ان الهدف النهائي للليبرالية هو إلغاء الدول القومية وإقامة “الحكومة العالمية” على أساس المعايير والقواعد الغربية.
ويتبع هذا الخط بايدن والحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، فضلا عن معظم الحكام الأوروبيين. هذه هي العولمة، التي ترفض رفضا قاطعا دولة الحضارة وأي تلميح للتعددية القطبية. ولذلك، فإن الغرب مستعد للحرب مع روسيا والصين. بمعنى من المعاني، هذه الحرب تجري بالفعل الآن – في أوكرانيا وفي المحيط الهادئ (مشكلة تايوان)، ولكن بالاعتماد حتى الآن على الفاعلين “الوكلاء “.
وهناك مدرسة اخرى مؤثرة في الغرب – الواقعية في العلاقات الدولية. هنا، تعتبر الدولة القومية عنصر ضروري للنظام العالمي، ولكن السيادة من حق أولئك فقط الذين تمكنوا من تحقيق مستوى عال من التنمية الاقتصادية، والعسكرية والاستراتيجية والتكنولوجية – دائما تقريبا على حساب الآخرين. إذا كان الليبراليون يرون المستقبل في خلق حكومة عالمية، فان الواقعيين يرون المستقبل في تحالف من الدول الغربية الرائدة التي تضع القواعد العالمية حسب مصالحهم. ومرة أخرى، سواء من حيث النظرية او الممارسة، يرفض هؤلاء دولة الحضارة والعالم متعدد الأقطاب بشكل قاطع.
وهذا يقود إلى المواجهة الأساسية على مستوى النظرية. ان عدم وجود التفاهم المتبادل هنا سيؤدي إلى عواقب أكثر جذرية على مستوى الصدام المباشر.
في عيون أنصار التعددية القطبية، فان الغرب هو أيضا دولة الحضارة، أو حتى اثنتين – أمريكا الشمالية وأوروبا. لكن المفكرين الغربيين لا يتفقون مع هذا: أنهم لا يملكون الإطار النظري لهذا – وهم يعرفون إما الليبرالية أو الواقعية، وليس التعددية القطبية.
ومع ذلك، هناك استثناءات بين المنظرين الغربيين، مثل صموئيل هنتنغتون أو فابيو بيتيتو. أنهما، على عكس الغالبية العظمى، يعترفون بالتعددية القطبية وظهور لاعبين جدد في شكل الحضارات. وهذا أمر مشجع، لأنه من خلال مثل هذه الأفكار يصبح من الممكن بناء جسر من أنصار التعددية القطبية (روسيا، الصين، الخ) إلى الغرب. على الأقل، هذا الجسر سيجعل من المفاوضات أمرا ممكنا. ولكن حتى الان، يرفض الغرب بشكل قاطع تعدد الأقطاب و مفهوم دولة الحضارة. التخاطب يتم فقط على مستوى صراع القوة الغاشمة – من الأعمال العدائية للحصار الاقتصادي والإعلامي وحرب العقوبات .. الخ.
واخيرا، من أجل انتصار روسيا في هذه الحرب والدفاع عن نفسها، يجب على روسيا نفسها أولا ان تفهم بشكل واضح معنى التعددية القطبية. نحن نقاتل بالفعل من اجل ذلك، ولكن ما زلنا لا نفهم تماما “ماذا تعني”. هناك حاجة ملحة إلى حل مؤسسات الفكر والرأي الليبرالية التي أنشات خلال فترة غورباتشوف-يلتسين وإنشاء أخرى جديدة – متعددة الأقطاب. ومن الضروري أيضا إعادة بناء النموذج التعليمي في حد ذاته – في المقام الأول في جامعة موسكو الحكومية، جامعة الصداقة، ومعهد موريس توريز، والأكاديمية الدبلوماسية والجامعات المتخصصة. وأخيرا، لا بد من التحول حقا إلى مدرسة الفكر الأوروآسيوية بشكل موسع وشامل. هذه المدرسة التي أثبتت أهميتها القصوى في حياتنا المعاصرة، ولكن يحارب ضدها في السر والعلن الأطلسيون والعملاء الأجانب الذين توغلوا عميقا في المجتمع الروسي.
* ألكسندر دوغين (مواليد 1962) هو فيلسوف روسي بارز، كاتب وناشر . دكتوراه في العلوم السياسية. أستاذ في جامعة موسكو الحكومية. زعيم حركة أوراسيا الدولية.
يلقب بمنظر الكرملين، و عقل بوتين!
_________
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.