من تاريخ النضال الطبقي والإجتماعي في الولايات المتحدة، الطاهر المعز

  • ·     28 آب/أغسطس 1963 – مسيرة في واشنطن من أجل الوظائف والحريات
  • نضالات الطبقة العاملة بالولايات المتحدة: هل هي “عَوْدَة الوَعْي” الطّبقي؟

(1)

من تاريخ النضال الطبقي والإجتماعي بالولايات المتحدة

28 آب/أغسطس 1963 – مسيرة في واشنطن من أجل الوظائف والحريات

قدم الرئيس الأمريكي جون فيتزجيرالد كينيدي إلى الكونغرس في 19 تموز/يونيو 1963، مشروع قانون بشأن الحقوق المدنية، متجاهلاً المطالبات الاقتصادية، وأثار هذا الرفض المقنع للمطالب الاجتماعية والاقتصادية غضب العمال السود، فبَادَرَ النقابي الأسود “آسا فيليب راندولف” (1889 – 1979) لاقتراح تنظيم مسيرة بعنوان “مسيرة من أجل التوظيف والحرية”، وتم إقرارها في 2 تموز/يوليو 1963، من قبل ائتلاف من منظمات السود، يمثله القادة الرئيسيون للحركة: النقابي راندولف (صاحب بادرة هذه المسيرة) وروي ويلكنز وجيمس فارمر وجون لويس ويتني يونغ ( – Urban League – العصبة الحضرية) ومارتن لوثر كينغ، وتم اختيار الشيوعي السابق بايارد روستين (1910-1987) مُنسِّقًا.

شكّلت هذه المسيرة أحد الأحداث الحاسمة في نضال الأمريكيين السود من أجل الحرية والمساواة، بعد قرن من قرار “تحرير العبيد” الذي أصدره أبراهام لنكولن سنة 1865، وجاءت فكرة المظاهرة في العاصمة الفيدرالية من النقابي آسا فيليب راندولف، الذي سبق له أن هدد الرئيس روزفلت، خلال الحرب العالمية الثانية، سنة 1941، بمظاهرة ضد استبعاد السود من الصناعة العسكرية، واضطر روزفلت إلى إعلان نهاية استبعاد العمال السود من صناعة الأسلحة.

جرت المسيرة في واشنطن في 28 آب/أغسطس 1963 بدعم من العديد من الفنانين مثل مارلون براندو وبول نيومان وجوزفين بيكر وجوان بايز وبوب ديلان وماريان أندرسون، فيما  بذل مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) ووسائل الإعلام جهودًا كبيرة لتشويه وتخريب المشروع، بدعوى أنها مبادرة لإثارة الشغب وممارسة العُنف، وانطلقت المسيرة، بمشاركة 250 ألف شخص (بحسب مجلة نيوزويك) وأكثر من 300 ألف شخص (بحسب المنظمين)، 20% منهم من البيض، ثم توجّهَ الجميع نحو نصب “أبراهام لنكولن” لسماع خطاب كل زعيم، وألقى “لوثر كينغ” خطابه الشهير بقوله “لدي حلم” ( I have a dream )، وحظيت المسيرة والخطب بتغطية واسعة من قبل وسائل الإعلام الأمريكية والدولية، وتمت قراءة خطاب جيمس فارمر، الذي كان مسجونًا في لويزيانا، من قبل فلويد ماكيسيك، وكانت جوزفين بيكر المرأة الوحيدة التي ألقت خطابًا، أما في الجانب الفني، في نهاية التظاهرة، فقد شاركت عدة فرق موسيقية (الثلاثي بيتر، بول أنسد ماري – أوديتا – مطربو الحرية …) والمغنون ماهاليا جاكسون وماريان أندرسون وبوب ديلان وجوان بايز …

عند إطلاق المُبادرة، أجرى النقابي الأسود “آسا فيليب راندولف” مفاوضات صعبة مع القادة السود، مثل مارتن لوثر كينغ، وكذلك مع قادة المنظمات العمالية الوطنية الذين رفضوا دعم مطالب العمال السود، باستثناء والتر ريوتر، زعيم اتحاد عمال السيارات، فيما أعربت النقابات العمالية المحلية وبعض الكنائس عن دعمها للعمال والمواطنين السود.

تظل هذه المسيرة واحدة من أكبر التظاهرات السياسية في الولايات المتحدة، وكانت مثل هذه التظاهرات تُؤَشِّرُ إلى ارتفاع معنويات المواطنين السّود الذين عانوا قُرونًا من العُبُودية والإستغلال والإضطهاد، ولا يزالون عُرْضةً للعنصرية والإقصاء والإغتيال، وكانت مسيرة 28 آب/أغطس 1963 إحدى حَلَقات نضال الأفروأمريكيين، فقد سبقتها عدة دعوات للمقاطعة ومظاهرات كما حدث في برمنغهام، المدينة التي تعتبر الأكثر تمييزًا في البلاد، أما فيليب راندولف (رمز الحركة النقابية السوداء) فقد تمكّن من الحصول على أحد المكاسب، عند تهديده روزفلت، سنة 1941، وتأجلت المسيرة التي هَدَّدَ بها، لتنطلق بعد 22 سنة، من أجل حقوق السود.

تعرضت هذه المسيرة لانتقادات شديدة على وجه الخصوص من قبل مالكولم إكس ومانينغ مارابل، اللّذَيْن يعتبرانها بمثابة تعبئة تهدف استعراض القوة، دون الرغبة في حصول تعبئة وتغيير في وضع السكان السود، وأثارت هذه المسيرة العديد من الإنتقادات والتنافس بين قادة المنظمات السوداء، وأعرب لوثر كينغ و “المعتدلون” عن مخاوفهم من “التطرف”، لا سيما من جانب حركة الطلاب السّود (لجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية – SNCC) بقيادة الخطيب الشاب جون لويس.

مكّنت التغطية الإعلامية من إبْراز نضال الأمريكيين الأفارقة من أجل المساواة، ما أدّى إلى إقرار قانون الحقوق المدنية للعام 1964 الذي يَحْظر التمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين أو الجنس، وفي العام 1965، اعتمد الكونغرس “قانون حقوق التصويت” الذي يحظر التمييز العنصري في التصويت، وبذلك استغرق تطبيق تدابير 1865 قرنًا كاملا، ولا يزال السّود في أسفل درجات السُّلّم الإجتماعي. 

اشتد الفصل العنصري في الولايات المتحدة، خلال النصف الأول من القرن العشرين، رغم التّحَرُّري القانوني أو الشّكلي للمواطنين السُّود، من أحفاد العبيد، الذين يُشكّلون حوالي 12,5% من العدد الإجمالي لسكان الولايات المتحدة، ولكنهم محرومون من الحقوق المدنية، وكانوا ضحية الفصل العنصري في المؤسسات المفتوحة للعموم، كالفنادق والمطاعم أو الحدائق والملاعب الرياضية، وكذلك في المدارس، وفي وسائل النقل العام، ويُؤَدِّي الحرمان من الحقوق إلى التمييز في العمل وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي، وهو المَيْز الأشد قسوة، بل لا يزال المواطنون السود يعانون من عنف الجماعات الأشد يمينية، ومنها المليشيات المُسلّحة، والمنظمات أو الأفراد العنصريين الإرهابيين، وكذلك العنف المؤسسي، بواسطة أجهزة الشرطة والقضاء من خلال الشرطة وجهاز القضاء، وهي نفس الممارسات والأسباب التي أدّت في العام 1964 إلى اندلاع احتجاجات في أحياء ومعازل السود بالمدن الصناعية الكبرى، حيث يسود البؤس والاكتظاظ السكاني ونقص التغذية، في شيكاغو وكليفلاند وفيلادلفيا وهارلم وغيرها، وانطلقت أعمال شغب، ذات صبْغَة عنصرية، تَلَتْها احتجاجات، بين سَنَتَيْ 1965 و 1968، في حي واتس، وهو أحد معازل السّود في لوس أنجلوس وفي ديترويت ونيوارك ونيوجيرسي والعديد من المدن الأخرى، أسفرت عن المئات من القتلى، وفي العام 1965 أيضًا تم اغتيال “مالكولم إكس”، وكانت حركة الحقوق المدنية في الستينيات من القرن الماضي واحدة من أعظم نقاط التحول في التاريخ الأمريكي، وتفرّعت عنها العديد من الحركات والمجموعات الأكثر جذْرِية، مثل الفهود السّود، لكن جهاز الدّولة الأمريكية، الذي يُمثّل أقوى قُوة رأسمالية في العالم، تمكّنَ من قَمْعِ هذه الحركات، ولم يستسلم المواطنون السّود والفُقراء، بل انطلقت حركة إضرابات واسعة خلال النصف الثاني من سنة 2021، وكذلك خلال السنة الحالية (2022)، وزاد عدد الإحتجاجات على عُنف الشرطة، أي عنف الدّولة والسُّلُطات المحلّية…  

(2)

نضالات الطبقة العاملة بالولايات المتحدة

هل هي “عَوْدَة الوَعْي” الطّبقي؟

انخفضت، منذ عقد السّبْعِينيات من القرن العشرين، حِصّة العمل وزادت حصّة رأس المال، من ثَمْرَة الإنتاج، بدعم من جهاز الدّولة، وزادت معها الضغوطات على العُمّال ونقاباتهم، من خلال التّسريح​​ وخفض قيمة الرّواتب، وتدهور ظروف العمل.

تمكّنت الرأسمالية الأمريكية من إرهاب العُمّال – في بلاد اشتهرت بنضالات العُمّال خلال القرن التاسع عشر- عندما تولّى ورونالد ريغن رئاسة الولايات المتحدة، وأصدَر مرسومًا يقضي بطرد مراقبي حركة الملاحة الجوّية المُضربين، سنة 1982، وإعادة جُزْءٍ منهم بعقود فردية تصحبها التزامات شخصية صارمة، لتصبح العلاقة فَرْدِيّة بين العامل ورب العمل، بدل العلاقة الجماعية التي تمثلها النقابات، بين مجموع العمال ورب العمل، وكانت من نتيجة تلك الفترة زيادة أرباح رأس المال، وتدهور ظروف العمل، وانخفاض القيمة الحقيقية للرواتب، طيلة ما لا يقل عن ثلاثة عُقُود، في مجمل الدّول الرأسمالية المتقدّمة، في ظل تغْيِيب النقابات ودورها في التفاوض الجَمْعِي، فلم تواكب عقود العمل الجماعية (الإتفاقيات المُشتركة) تطورات الأسعار وإيجارات المسكن ونفقات الصحة والتعليم، بينما ارتفعت إيرادات الرأسماليين إلى مستويات غير مسبوقة، وخَلَقَ منطق إضفاء الطابع الفردي على العلاقة بين العامل وصاحب العمل، مُنافسَة بين العاملين والمُعَطَّلِين عن العمل، وتحويل القطاعات المُلَوِّثَة والتي تتطلب عددًا كبيرًا من العُمّال إلى البلدان الفقيرة، حيث المواد الأولية (كالقطن) والرواتب منخفضة جدًّا…

تعود آخر موجة إضرابات واسعة بقطاع الصناعات بالولايات المتحدة إلى سنة 1986، قبل انطلاق موجة 2021، وإضراب مجموعة “جون دير”، بعدما سلط وباء كوفيد 19 الضوء على نتائج الإغلاق القسري للاقتصاد واستبدال اقتصاد السوق بضخ المال العام، للمرة الثانية، خلال عقد واحد، مع تعريض العُمّال للخطر أثناء انتشار الفيروس، ليصل مستوى أرباح رأس المال، بالشركات غير المالية الأمريكية، خلال النّصف الأول من العام 2021، إلى مستوى قياسي، غير مسبوق، طيلة أكثر من سبعة عُقُود، وذلك بفضل الدّعم الحكومي من المال العام، ولئن كان مطلب زيادة الرواتب يتصدّر قائمة مطالب العُمّال المُضربين، فإن شُروط التّقاعد والتّأمين الصّحِّي، وإعادة التوازن بين سلطة رأس المال والعُمّال، كمجموعة وليس كأفراد، كان أساسيا في القطاع الصناعي، حيث استمر إضراب عشرة آلاف عامل بشركة تصنيع الآلات الفلاحية “جون دير”، لفترة خمسة أسابيع، ودام إضراب عُمّال مجموعة “كلّوغز” ثمانية أسابيع، ولم يُفْلِح أرباب العمل في إقناع العُمّال بأن زيادة الرواتب (وخفض حصة رأس المال، مقابل زيادة حصة العَمَل من الأرباح) سوف تُؤَدِّي “إلى ارتفاع نسبة التضخم وإلى تسريح العمال وإغلاق المصانع والإفلاس…”، وشكّلت هذه المَوْجَة من الإضرابات تَحَدِّيًا للمنطق الرأسمالي النّيوليبرالي، الذي ساد طيلة أربعة عُقُود…

احتدمت الأزمة المعيشية، خلال فترة انتشار فيروس كوفيد 19، وارتفعت نسبة التّضخم ودُيُون الأُسَر الأمريكية، سنة 2021، مقابل ارتفاع أرباح الشركات والمصارف والأثرياء والرأسماليين الأمريكيين، فاطلقت بعض فئات الطّبقة العاملة الأمريكية، خلال سنة 2021، رغم ضُعف الحركة العُمّالية والنّقابية، موجة من الإضرابات في شركة المُحَرّكات “جون دير”، و”كيلوغز” و”نابيسكو” و”كايزر بيرمننت” واستيوهاد “هوليوود”، ومناجم الفحم والرعاية الصحية (المُمرضين) والمُدرّسين وعمال الصلب والنقل وعمال الصرف الصحي، وغيرهم، في مناطق عديدة من الولايات المتحدة…

في صف الرأسمالِيِّين، يمتلك 1% من الأثرياء قرابة 40% من حجم الثروة الخاصة بالبلاد، وتمتلك 10% من الأُسَر نحو 80% من الثروة، كما ارتفعت ثروة الأثرياء بسرعة كبيرة، أثناء فترة انتشار الوباء، ورغم الركود الإقتصادي، الناتج عن انتشار الوباء، ارتفعت ثروات أصحاب المليارات إلى نحو خمسة تريليونات دولارا، بنسبة 70%، وهي زيادة تُعادل قيمتها 2,1 تريليون دولار، في الفترة ذاتها التي شهدت تجميد الرواتب، وإفقار العمّال وعائلاتهم، ما زاد من غضب العُمّال، وما شجّعهم على المقاومة والإحتجاج من خلال شَنِّ الإضرابات، وفاق عدد المُضربين مائة ألف عامل، بعد تسريح حوالي أربعة ملايين، بذريعة الأزمة، وأهمَلت وسائل الإعلام الحديث عن دوافع احتجاجات وإضرابات العُمّال الفُقراء في أثرى وأقوى دولة في العالم، ووَرَدَ في إحدى نشرات الأمم المتحدة (تشرين الأول/اكتوبر 2021 ) إن أربعين مليون مُهدّدون بالطّرد من منازلهم، وهم يُعانون من التّوتّر المُستمر

ديمقراطية على الطريقة الأمريكية = حظْر العمل النقابي؟  

يشتكي أرباب العمل في قطاعات معينة (البناء والتجزئة والفنادق والمطاعم وغيرها من الخدمات) ، في جميع دول العالم ، من أنهم لا يستطيعون تعيين عمال. من المنطقي والطبيعي تمامًا ألا يرغب العمال في العمل بجد للحصول على أجور فقيرة.

في الولايات المتحدة ، كشفت دراسة نُشرت في نيسان/أبريل 2022، أن ما يقرب من 70% من العاملين في أكبر شركات الخدمات في الولايات المتحدة – بما في ذلك Dunkin و Burger King و General Dollar و Wallmart وغيرها – يتقاضون أجورًا أقل من 15 دولارًا عن ساعة عمل، بينما ترتفع رواتب المديرين والمهندسين بشكل غير مسبوق.

لم يتغير الحد الأدنى الفيدرالي للأجور البالغ 7,25 دولارًا للساعة منذ العام 2009، وَوِفْقًا لمؤشر نمو الإنتاجية ، كان من المفترض أن يصل إلى 23 دولارًا للساعة سنة 2021، وأجرى معهد السياسة الاقتصادية وجامعة كاليفورنيا (سان فرنسيسكو) دراسة نُشرت سنة 2021 شملت أكثر من عشرين ألف عامل من سبعين شركة كبرى في قطاع الخدمات، من الشركات المربحة للغاية، لكن ما يقرب من 70% من العمال ، في المتوسط (أكثر من 90% في ماكدونالدز و 85% في برغر كينغ) يتقاضون أجورًا أقل من 15 دولارًا في الساعة.

وفقًا لتقرير صادر عن الائتلاف الوطني للإسكان منخفض الدخل، في العام 2021 ، يحتاج العامل متوسط الأجر الأدنى إلى العمل تسع وسبعين ساعة في الأسبوع، أو وظيفتين بدوام كامل ، لدفع إيجار شقة متواضعة في مدينة أمريكية متوسطة، ووفقا لهذا التقرير ، يتعين على العامل أن يكسب أكثر من 20,40 دولارًا للساعة، لمجابهة المصاريف الدّنيا، وفي المقابل يحصل المدراء في مجال الضيافة والتوصيل والبيع بالتجزئة (أمازون ، على سبيل المثال) والعديد من القطاعات الأخرى على رواتب تزيد بمقدار 351 مرة عن متوسط أجور الموظف في شركتهم سنة 2020، وقد أثارت سياسة الأجور المنخفضة هذه رد فعل غاضب من العمال الذين سئموا أجور الفقر وسوء ظروف العمل وانتهاكات قواعد الصحة والسلامة، فيما ترفض شركات مثل Amazon و Walmart و Target و McDonald’s و General Dollar و Starbucks و Apple مناقشة مسألة رَفْع الأجور المنخفضة ومعالجة نقص الموظفين وظروف العمل غير الآمنة، ولذلك يحاول الموظفون بناء نقابات للدفاع عن أنفسهم بشكل جماعي.

نجحت سلسلة البيع بالتجزئة “تارغت”، سنة 2011، في إحْباط محاولة إنشاء نقابة، وفي العاشر من أيار/مايو 2022 ، قدم العمال في العديد من متاجر سلسلة Target عريضة إلى المجلس الوطني لعلاقات العمل (NLRB) للمطالبة بإجراء انتخابات نقابية بعد أن رفضت الإدارة الاعتراف بالنقابة.

بالإضافة إلى مسألة الأُجُور، يتذمّر العمال من انتهاك الكرامة والحُقُوق، وفي سنة 2017، أضرب عمال شركة “تارغت” احتجاجا على ممارسات التحرش الجنسي، ما أدّى إلى طَرْدِ مُدِير، وفي العام 2020، أضرب العمال، بعد إصابة مائتي عامل بفيروس كوفيد -19 ورَفْضِ إدارة الشّركة توفير أقنعة واتخاذ إجراءات لحماية العمال …

ما حدث في Target هو مجرد مثال واحد، لأن العاملين في المطاعم أو البيع بالتجزئة (Dollar General أو Walmart) أو حتى الصناعة والشركات الأخرى ذات التقنية العالية (Apple) حاولوا إنشاء نقابات، وتعرّضوا للمضايقات والتهديدات…

ما الذي يفسر عودة النضالات؟ هناك قضية عودة الطّلب، بعد الحجر الصحي، ما زاد من الطّلب على العُمّال المُؤهّلين وينعكس ذلك في معدل استقالة العمال الذين يتركون وظائف بائسة إلى وظائف أخرى بأجور أفضل.

كان الوباء “القشة التي قصمت ظهر البعير” لكثير من هؤلاء العمال، الذين بدأوا يناقشون ليس فقط تدني الأجور، ولكن أيضًا ظروف العمل ، وقضايا الصحة والسلامة والتجاهل الصارخ لمطالب العاملين.

لقد عززت فترة الوباء التضامن بين الزملاء ، في مواجهة المرض ، في ظروف متوترة جدّا،.وخلق ذلك الوضع مناخًا مواتيا لمناقشة مسألة التنظيم النقابي، وهي الخطوة الأولى فقط في الكفاح، ثم شجعت إضرابات عام 2021 العمال على تنظيم حملة للتنظيم والعمل الجماعي، وشكل العمال لجان تنظيم قبل تشكيل النقابات.

لا يزال عدد الشركات التي ينضم فيها العمال إلى النقابات منخفضًا، ولكن إذا نمت الموجة ، مع العديد من الإضرابات وبعض النجاحات، قد تُساعد على تصعيد النضالات وتجذير العمل النقابي الذي أصبح أكثر جُرْاَةً، بفضل وُجُود عُمّال شُبّان يرفضون المهانة، وصوّت عمال المستودعات في شركتين متعددَتَيْ الجنسيات “أمازون” و “ستاربوكس” في الأول من نيسان/أبريل 2022 لصالح إنشاء نقابات للمستودعات في نيويورك، كرد فعل على سياسة العنصرية ومناهضة النقابات، وتقسيم العمال حسب اللون (العِرْق) في هذه الشركات متعددة الجنسيات حيث يعامل صاحب العمل العمال مثل الروبوتات في مكان العمل، يريد تحريكهم في الإتجاه الذي يريده، وهو وضع لم يعد العديد من العاملين يتحملونه.

منذ كانون الأول/ديسمبر 2021، انضم أكثر من ألفي عامل بشركة “ستاربكس” إلى النقابة، وفي نيسان/أبريل 2022 ، حقق اتحاد عمال أمازون المستقل (ALU) انتصارًا هائلاً بتأسيس أول نقابة بمستودع هام لشركة أمازون، ما شكّل حافزًا لتكثيف الإحتجاجات والإضرابات والحث على تأسيس النقابات…

شجعت هذه الانتصارات الناشطين في الحركة العمالية الأمريكية على مواجهة إدارات الشركات المُعادية للعاملين وللعمل النقابي، على الصعيد المحلي (المدينة أو الولاية) وعلى الصعيد القومي، وحاول بعض مديري الشركات تفكيك النقابات من خلال توظيف أغلبية من العمال السود، قبل عملية التصويت مباشرة، وتأليبهم بذريعة أن النقابة ستكون بقيادة البيض حصريًّا… نجحت سياسة التّقسيم العرقي في بعض الحالات، لكنها فشلت في عدة حالات أخرى…

تاريخيا، نشأت بالولايات المتحدة، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حركة عُمّالية اشتراكية قوية، وتمكّنت الرأسمالية من تدمير هذه التقاليد النّضالية، خصُوصًا خلال “الحرب الباردة”، باستخدام أساليب التّشْويه والتّرْهيب، بالتّوازي مع تكثيف الإستغلال، وهو ما يحصُل كذلك، منذ انتشار وباء “كوفيد- 19″، مع شراء ذِمَم القيادات البيروقراطية النقابية، التي قامت بِطَرْد من يُشْتَبَهُ بشيوعيته أو اشتراكيته، وأدّى تخاذل القيادات النقابية وانتشار العقود الهشّة والدّوام الجُزْئي وتضخّم قطاع الخدمات إلى انخفاض نسبة العمال المُنتَسِبِين إلى النقابات من 35% من العمّال الأمريكيين خلال عقد الخمسينيات من القرن العشرين، إلى نحو 10% سنة 2018…

لا يُعَدُّ تأسيس نقابة عملاً ثوريًّا، في المُطْلَق، فهو عمل إصلاحي في جوهره، لكن في الولايات المتحدة، التي تدعي أنها أكبر ديمقراطية في العالم، يُعتبر تأسيس نقابة للأُجَراء “خُرُوجا عن الطّاعة”، ويستحق العقاب والطّرد من العمل، ومن واجب التّقدّميين في العالم مُساندة نضالات الطبقة العاملة بأمريكا، وفَضْح دكتاتورية رأس المال و”المكارثية” الجديدة…

 _________

“كنعان”  غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.