عند الحديث عن الوضع الاستراتيجي للكيان الصهيوني، يجب أن ندرك أن عدونا أصبح ضعيفاً ومشتتاَ ويعاني من أزمات داخلية متراكمة ويفتقد القيادة التاريخية أو الاستراتيجية الملهمة والموحدة لجموع المستوطنين. أما النزعة المتزايدة نحو اليمين والتطرف الديني فهي في إحدى تجلياتها ناتجة عن هذا الضعف، وعن رغبة تجمعات الصهاينة الاستيطانية في تعويض ذلك الاحساس بالضعف باللجوء إلى التطرف والتعصب الديني، وكلما ازداد ضعف الكيان الصهيوني، ازداد انزياح المستوطنين نحو اليمين الديني.
من ناحية أخرى فإن ما نراه في الفترة الأخيرة من تزايد الاعتداءات والاستفزازات الصهيونية على كافة الجبهات، في فلسطين بقدسها وغزتها، وفي إيران ولبنان وسوريا، رغم مخاطر تدحرجها إلى حرب إقليمية شاملة، ليس إلا محاولة من القيادة الصهيونية الهزيلة لتغطية ضعفها والظهور بمظهر القوي الذي لا يهاب شيئاً ولا يخشى أحداً، فكأن لسان حالهم يقول “علي وعلى أعدائي”.
لقد تراجعت روح الريادة الصهيونية والرغبة في التضحية من أجل العقيدة والفكرة، ولم تعد حياة الاستيطان والزراعة وغيرها من المبادئ التي قام عليها الكيان والحركة الصهيونية تغري الشباب اليهودي المقيم في فلسطين. ولم تعد الخدمة في جيش الاحتلال تمثل أعلى درجات الشرف والفخر، بل يتزايد عدد المتهربين منها عاماً بعد عام. ولم تعد جماعة المستوطنين والمحتلين تنظر لجيشها على أنه البقرة المقدسة والوصي على المشروع الصهيوني، فالثقة بالجيش تتراجع حسب استطلاعات الرأي، وهذا له مدلولات كبيرة وكثيرة في كيان يقوم على الحرب والاعتداء والاحتلال ويعتمد بقاءه على قوته العسكرية.
كما أن العقيدة العسكرية الصهيونية تزعزعت أيضاً وتكاد أن تزول تماماً، تلك العقيدة التي اعتمدت منذ نشأة الكيان عام 1948م على مبادئ أهمها الحرب السريعة الخاطفة ونقل أو خوض المعارك في أراضي العدو (العرب) والنأي بالجبهة الداخلية عن أي تداعيات في الحرب. هذا كله زال، وأصبحت المعارك طويلة نسبياً، وتخاض في الجبهة الداخلية للعدو، عبر القصف المكثف لمراكزه العسكرية والاستراتيجية وتجمعاته الاستيطانية الكبرى في تل أبيب وغيرها من مدن الكيان الرئيسية. وتقف مؤسسات الجيش والأجهزة الأمنية عاجزة عن تدارك هذا الوضع أو استحداث عقيدة عسكرية جديدة تواكب المستجدات.
في مقابل كل ذلك، نرى أن المقاومة الفلسطينية تزداد قوة وصلابة عاماً بعد عام، وبعد كل مواجهة أو اشتباك. فهي تستخلص العبر والدروس، وتطور أدائها وسلاحها لتفاجئ العدو في كل مواجهة جديدة بأشكال وإمكانيات لم يكن يتوقعها أو يدركها. هذا في غزة. أما في باقي فلسطين المحتلة فالشعب أصبح أكثر اشتباكاً مع قوات الاحتلال بكافة الوسائل المتاحة له، من السكاكين والسيارات، إلى البنادق والرشاشات، والمظاهرات الشعبية والاعتصامات، والإضراب عن الطعام، ومحاولات الهروب من السجن وكسر إرادة السجان.
ولعل ما يخيف العدو على المدى الطويل هو ما يراه من زخم وقوة تتراكم لدى القوى المعادية له في دول المنطقة، من إيران إلى سوريا فلبنان واليمن والعراق. فهذه القوى والجماعات والدول تراكم القوة وتطورها، وبوصلتها فلسطين والقدس. بل إنها أخذت قرارها بعد معركة سيف القدس في صيف 2021 بالتكامل والتوحد عسكرياً وسياسياً من أجل أن تكون المعركة القادمة معركة الجميع، معركة كبرى إقليمية تشكل هزيمة مفصلية للعدو الصهيوني وانتصاراً حيوياً يضع مقدمات راسخة لبدء مرحلة تحرير الأراضي المحتلة في فلسطين وسوريا ولبنان. ويدرك عدونا الذي درس ويدرس تاريخ المنطقة وحروبها دراسة علمية وافية، أن الخطر الحقيقي على وجوده يكمن في توحد شعوب وقوى ودول المنطقة، العربية القريبة والإسلامية الأبعد، في مواجهته. فهو قادر على مواجهة وهزيمة أي منهم عندما يستفرد به، لكنه لا يستطيع أن ينتصر ويهزمهم إذا ما خاض الجميع المعركة بنفس واحد واستراتيجية واحدة وتنسيق عملياتي عالي المستوى.
لهذا نجده اليوم يستفز محور المقاومة دون أن يرفع مستوى الاستفزاز إلى مستوى الحرب. فهو يحاول أن يطور مبدأ المعركة بين الحروب، بزيادة معدل الاعتداءات، متحاشياً أن تصل لمستوى يجبر أطراف محور المقاومة على الرد الشامل بحرب إقليمية تدق المسمار الأكبر في نعشه. هو فقط يحاول أن يقول لهم ولداعميه من الدول الغربية أنه مازال يملك من القوة والقدرة على استخدام هذه القوة، ما يبقيه فاعلاً في تحقيق الأهداف التي أُنشأ وزُرع من أجل القيام بها. أي أنه يحاول جاهداً نفي مؤشرات ضعفه وتراجعه وإثبات فائدته لهم ولمصالحهم كي لا يتخلوا عنه أو يتراجع دعمهم له. وهذا يؤكد على إدراك قيادة كيان الاحتلال ومؤسساته الأمنية للضعف الذي يعتريهم ولتراجع قيمتهم وقدرتهم على حماية مصالح الغرب الامبريالي الذي زرعهم ورعاهم ودعمهم من أجل حماية مصالحه بالدرجة الأولى. فإن انتفت الفائدة، انتفت الحاجة.
* رئيس الرابطة الثقافية الوطنية الفلسطينية
_________
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.