(1) الخيار الأخلاقي، ناديه خوست، (2) إشكالية فهم العرب لمثقفي الأرض المحتلة، عادل سماره

 في بداية الحرب على سورية زار تركيا وفد ثقافي سوري كبير. استقبله المثقفون الوطنيون الأتراك. لكن الثقافة الوطنية لم تستطع أن تعقل الدور التركي في مخطط الحرب على سورية. فتدفقت العصابات المسلحة من حدودنا الشمالية، ورفرفت أحلام أردوغان باستعادة الخلافة حتى مصر وليبيا والحرمين. ثم اضطرها سياق الأحداث إلى الاكتفاء بالحلم بالشمال السوري.

وصلنا إلى زمن آخر. فالعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا وضعت استنتاجات واسعة. أولاً أن ذروة التمادي الغربي في نهج الهيمنة على العالم، هي إعلان سقوط الإمبراطورية الغربية. ثانياً أن الحرب على سورية والعراق واليمن وليبيا ولبنان، كانت من عربدة تلك الهيمنة التي رسمت تدمير البلاد “المارقة”. ثالثاً أن الصراع المركزي في منطقتنا متداخل في نظام الهيمنة الذي يملك المؤسسات المالية والقانونية والسياسية العالمية. لذلك قد تنفتح لإنهاء الاحتلال آفاق جديدة متصلة بتوازن عالمي جديد. ​​

لم تمرّ العقود الثلاثة الماضية من عربدة القطب الواحد في العالم، في مساحة جغرافية وسياسية مجردة. بل جرت أيضاً في الوعي الإنساني، وخاصة في منطقتنا. أنضجتنا الكوارث التي أفقدتنا الأمن والرخاء والغذاء، ودمرت مدننا، وهشمت النسيج الاجتماعي. في وجه هذا الوعي، استحدثت المخابرات الغربية مجموعات من غوغاء الشارع في العراق منعت تنفيذ الاتفاقية مع الصين، ومنظمات المجتمع المدني في الشارع اللبناني رفعت شعار التغيير والديمقراطية. لكن الواقع الساطع هو أن أحداث العقود الثلاثة الماضية استولدت المقاومة الوطنية، ووسعت الثقافة السياسية العامة، وأثمرت بطولات أسطورية، وكشفت خزّان الوعي الشعبي. ولولا منظومة الأخلاق والثوابت الوطنية لم يصمد جيش مقاتل أو مجموعات مقاومة. ولما قدمت الأسرة شهيداً كلما غاب شهيد.

كان الكتّاب من أصوات هذا الواقع. تناولوه بمقدار ثقافتهم وسعة رؤيتهم، وعبّروا بمقدار كفاءتهم عن هذا الجانب أو ذاك. لأن الوجدان لم يكن الحَكَم فقط، بل كانت الطموحات ومنظومة الأفكار. فليس السياسي فقط من يطمح إلى النفوذ، بل الكاتب أيضاً. لا يدان هذا الطموح إلا بهدفه. هل هدف الكاتب أن يكون صوت شعب، وكلمة ضميره، وخفقة وجدانه، فيحوز الحب والتقدير؟ أم يهوى الشهرة والمال، ويتوهم أنه كائن فوق البشر، فيبيح لنفسه اختراق الممنوع كما تخترق سيارات المسؤولين الإشارات الضوئية، ويسرع مزهواً ليتقدم اجتياز الخطوط إلى العدو؟ في مصر بعد كامب ديفيد، لدينا الكثير من الأمثلة. وفي سورية بعضها.

قدرت المخابرات المركزية أهمية امتلاك النخبة من المثقفين والفنانين والكتاب والموسيقيين. وابتكرت لهم منظمات كثيرة، منها منظمة حرية الثقافة التي قال السياب إن أدونيس رشحه لها فأمنت زيارته الغرب. ومنها اليوم “بيت الحرية”. ومما كشفته الوثائق أن منظمة حرية الثقافة كانت ذات صلة بمجلة شعر. ولا يجهل أحد علاقة جائزة نوبل بالسياسة. في ذلك السياق، تقع الجوائز التي يغطيها مال النفط، وتضع معايير المقبول والمرفوض. لذلك يخطر لنا أن نتساءل: من موّل مؤتمر غرناطة الذي كان شعاره “ثقافة السلام مقابل ثقافة الحرب”، وحضره بيريتز وأدونيس؟ وما هي الأعمال التي أعطيت جوائز الجامعة الأمريكية في القاهرة، وجائزة بوكر!

في هذه اللحظة، قلوبنا معلقة بالشمال السوري. ينهب المحتل الأمريكي النفط والقمح في شرقه، والمحتل التركي الزيتون والآثار في غربه، وتحوم الأحلام هناك بنهب الأرض نفسها. يقتل شباب سوريون رمتهم الحرب في تركيا، وتضرب فيها نساء سوريات، ويتاجر بفتيات سوريات. في هذا المجرى، لكن بشكل آخر، أعطت بلدية إزمير التركية شاعراً سورياً جائزة هوميروس. فسجلت أن أحلام شاعر تنحط من جائزة نوبل إلى جائزة بلدية.

لكن ذلك لا يمس أحلام السوريين في تحرير الشمال من الاحتلال والطموح العثماني. ولا ايمانهم بأن أرشيف ايبلا، ونوطة أوغاريت الموسيقية، وملحمة غلغاميش، والأساطير السورية، أقدم من الملاحم اليونانية. أما دور النظام التركي في نهب المعامل الحلبية، والآثار، والزيتون، وتدريب العصابات المسلحة، فوحشية لا تسترها جائزة هوميروس ولا المثقفون الذين تجذبهم الجوائز.

على كل حال، في احتفال التضليل كان لابد من تحليل نظري. وأي تحليل! تجاهل أدونيس جوهر الصراع في العالم بين منظومة علاقات وبنى اقتصادية وسياسية استُنفدت، ومجموعة جديدة تسعى إلى تغيير العلاقات بين الدول. وأن سورية دفعت الثمن الباهظ في سبيل هذا الانتقال التاريخي. فجعل التناقض بين فضاء الدين، وفضاء الشعر! سذاجة مضللة فقط؟ أم عجز من تعلن جريدة الأخبار اللبنانية، يومياً منذ سنتين، أنه سيكتب “كيف يكون العالم غداً”، ولا يستطيع أن يلبيها؟ هل جهل “المحتفى به”، أن في كلّ من طرفي الصراع دين وشعر يعبر عنه، ولا تجوز المساواة أبداً بينهما؟ وماذا يقول في الرئيس الشيشاني قديروف، والسيد اللبناني، وقرار الرئيس الروسي أن الإسلام هو الدين الثاني في البلاد؟

أما هواة الأدب فيجب ألا يقعوا في الايمان بالأوثان! فالكاتب حر بما يملكه من حظ التعبير. لكنه أقل الناس حرية لأنه قد يشارك في توسيع الوعي، أو في تدمير الوجدان.

■ ■ ■

إشكالية فهم العرب لمثقفي الأرض المحتلة

عادل سماره

يحب العرب أهل الأرض المحتلة بلا شك، ولكن الحب على أرضية عاطفية لقضية سياسية هو كالمثال الشعبي:  “حراث الجِمال”بمعنى أن الجمل لاتساع قاعدة خُفَّيْه يهدم الأثلام التي حرثها.

هناك شواهد عديدة على احتضان العرب لكل من يخرج من الأرض المحتلة إلى الوطن العربي زائرا أو راحلاً. ولا شك أن هذا قائم على وجوب المحبة والحنين والشعور بالعجز عن التحرير مما يدفع كثيرا من العرب لغض الطرف عن ورطات مثقفين من الأرض المحتلة حتى من وصلوا درجة الصهينة بالاعتراف العلني بالكيان نفسه وهذا أخطر التطبيع بل يتجاوزه.

لذا، كثيرا ما دار نقاش بل دفاع عن أعضاء الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) أمثال إميل توما، إميل حبيبي، توفيق زياد، …الخ حيث استقبلهم كثير من العرب سواء في الكتلة الشرقية سابقا أو في بلدان عربية بل عوملوا كأبطال!

هذا، مع أن العرب في الأرض المحتلة نفسها 1948 وخارجها كانوا ينعتون أعضاء كنيست آخرين من الفلسطينيين البسطاء وغير البسطاء بل وصفوهم بالعملاء، أمثال جبر داهش معدي، وسليم خليل…الخ. مثلا: “أخشاب بشكل النواب”، مع أن الفريقين من الفلسطينين وأعضاء في الكنيست.  هذا مع أن أعضاء الحزب الشيوعي في الكنيست كانوا يهاجمون القومية العربية بوضوح  وكانت علاقتهم مع “حركة الأرض” ولاحقاً “الجبهة الشعبية-في المحتل 1948 ” ومنهم صالح برانسي، منصور كردوشن أحمد حسين…الخ” علاقة تناقض حاد.

كانت شوكة الشيوعيين من الأرض المحتلة 1948 قوية لأنهم من حزب اعترف بالكيان  وبالتالي مسموح به حسب القانون الصهيوني وكانوا مدعومين من الكتلة الشرقية، هذا رغم أنهم ومعظم الأحزاب الشيوعية العربية إعترفوا باكراً بالكيان بل ويعتبرون ذلك براءة إختراع هامة، ومعظمهم لم يعتذر عن هذا حتى اليوم ويصوغ موقفه التبريري  بطرق ملتوية.

وموقف الشيوعين هذا هو الذي فرَّخ مواقف قوى ومثقفين فلسطينيين وعرباً يعترفون بالكيان سواء يساريين، شيوعيين، يمينيين ، ما بعد حداثيين، مثليين، لبراليين…الخ

المهم أن هذا الاحتضان العربي لمَنْ يخرج من الأرض المحتلة زجَّ في الوطن العربي ، وخاصة لاحقاً، في محور المقاومة  ألغاماً خطيرة من الصهاينة الفلسطينيين، ولا يزال، وهذا ساعد على بلورة وإعلان صهاينة عرباً من الأنظمة والمثقفين/ات.

وبعد:

أعادني مقال السيدة نادية خوست المنشور أعلاه إلى ما قبل عشرية الاستشراق الإرهابي (حرب إرهاب قوى الدين السياسي بتوجيه الغرب ضد سوريا) حيث كان قد وصلنا في مجلة كنعان الورقية عام 2010  مقال كتبته السيدة نادية خوست بعنوان:

(“إختراق الثقافة الوطنية: روح العصر الجديد الذي تجاوز الإلتزام في الفن وعلاقة الفكر بالمجتمع- د. ناديه خوست”.

والمقال متماسك ومناسب للنشر لا سيما أننا نخالف المفهوم الغربي للصحافة بعدم نشر ما تم نشره ، لكنها دائماً تحوله لمخبرات بلادها. ناقشناه في هيئة التحرير وقررنا نشره مع وضع، كما اعتدنا، ملاحظة في مقدمة اي مقال نتفق معه ولكن لنا اعتراض محدد على بعضه، وهذا إضافة للجملة العامة التي توضع لمختلف المواد المنشورة بأن “المجلة ليست مسؤولة عن ما ورد في المادة المنشورة”.

كان اعتراضنا على جملة في المقال الجيد تقدم فيها الكاتبة عزمي بشاره كنموذج للكاتب الذي يرفض الكتبة الذي يبنون لأنفسهم مكانة بالتعايش والتسامح. فالرجل لم يتعايش مع الكيان ويتسامح مع الكيان بالتطبيع شخص أكثر منه!.(أنظر الصورتين). وكنا منذ 1994 نكتب في المجلة نفسها بأن الرجل هو التطبيعي الأخطر، وبأنه أُخرج في مهمة تطبيعية على المستوى العربي وسيعود بعدها. واليوم على ضوء تحالف “ميسا/الناتو العربي الصهيوني” أعتقد أن ذلك سيحصل.

وللأمانة، ليس بشاره وحده الذي اخترق كثيرا من الأوساط العربية ولم يتوقف  لا هو  ولا نظرائه!

وضعت إحدى المحررات مقال السيدة خوست في ملف مخصص ضد التطبيع!

في البداية اعتقدنا انها لم تنتبه للجملة المتعلقة بهذا الشخص أو لم تفهم السياق.

المهم قررنا وضع جملة بالمعنى المذكور أعلاه، على أن نناقش مجدداً مسألة وضع ملاحظة خاصة كهذه في الأعداد القادمة في بداية المقال أم في نهايته.

ولكن  احتجت إثنتان من هيئة التحرير إحداهن محررة الملف! حينها فهمنا أن الأمر ليس عدم فهم الجملة المذكورة وداخلنا الشك بأن بشاره يستهدف “كنعان” كما تستهدفه. لم تقولا أنهما إنسحبتا لا قولا ولا كتابة. لكن بدورنا لم نرَ أن في الأمر ما يوجب الخروج وبهذه السرعة.

بعد أيام جرى تشغيلهن في مركز تنموي أو “إنماء /انجزة يساري/مركز بيسان” في رام الله دون أن تستشيرني إدارة المركز والذي قدمت له محاضرات وندوات عديدة وعلى مدى ووحدي دون غيري بالمجان! بعد تشغيلهما زارني أحد مسؤولي المركز، وهو نفسه قدمت لمركزهم من خلاله وبطلب منه خدمات كبيرة وبالمجان ايضاً، وقال “شغلناهن” ما رأيك! ضحكت وقلت جميل طبعا!. طبعاً في قمة هذا المركز اشخاص عملوا ويعملون مع عزمي بشارة حتى اليوم.

وكثيراً ما أنتجت لهذا النمط من اليسار كتبا بالمجان لم أطلب فلساً.

وبعد بضعة اشهر فإذا إحداهن في مكتب عزمي بشاره في قطر والأخرى تزوجت من فلسطيني يعيش في “موشاف” بين المستوطنين”وتم تشغيلها في “أنجوزة” يسارية ايضا منشقة عن الأولى!

 واليوم يتمطى عزمي بشاره على جهاز تخريب للثقافة العربية من المحيط إلى الخليج.

دافعي للكتابة في هذا المجال ما يلي:

كيف يمكن لأي نظام لا يعترف بالكيان أن يستقبل عضو كنيست! وأقصد سوريا قبيل حرب الاستشراق الإرهابي.

وعلى مستوى الكتابة ،كيف لم تنتبه السيدة خوست أن بشاره عضو كنيست فاقتطفت منه ما يلي :

” يقول عزمي بشاره: وقد كثرت في صناعة الراي العام نماذج الكتاب الذين يصنعون لهم مكانة او ثروة. او كلتيهما. من التعايش او من التسامح”.

صحيح أن عزمي كان يدخل دمشق والضاحية الجنوبية تتلقفه أحضان متلهفة. لكن صحيح ايضاً أن كثيرا من القادة والحكام العرب ليسوا مثقفين كما يجب، وهذا محتمل، ولكنهم يحيطون أنفسهم بمثقفين إما خونة أو متغربنين أو متخارجين، أو مبالغين أو مرتشين أو ضحلين، ولذا يُخدعون كحكام وقادة. ولكن هل يحتاج عضو الكنيست لشرح من هو، وما هي قطر التي استقر بها!

ومع بالغ الاحترام، فإن من يستقبل مطبعاً فهو مطبع أعلن أم أخفى لا فرق،  إنتهى عصر الكتابة الرمادية.

طبعا فوجئنا أن هذا مرَّ على السيدة خوست وهي بارعة ولمَّاحة، وربما من الأسباب:

طالما النظام يقبل به فهذا يعني أنه جيد، وطالما تفعل ذلك المقاومة اللبنانية وجميع فصائل المقاومة الفلسطينية، وتحتفي وتتزلف  له فيالق من المثقفين/ات الفلسطينيين والعرب. وبالمناسبة يحل محل عزمي بشارة منذ عدة سنوات “فتى المحرقة” متلبساً لباس القومية العربية بسخونة لافتة.

ولذا، لم يتوقف الحجيج إلى قطر بشاره حتى اليوم رغم انفجار اللغم ضد سوريا وليبيا واليمن وطبعا العراق.

بالمناسبة، تذكر  السيدة خوست، في مقالها أعلاه، أن أدونيس حضر مؤتمر غرناطه تحت رعاية بيرس الملك الصهيوني  وملك الإستعمار الإسباني. لكن بشاره كان هناك  ايضاً.

كنت في بداية اكتشافي لشخصه حيث اقمنا في الأرض المحتلة 1967 عام 1993 لجنة لمناهضة التطبيع وكان معنا. أذكر أحد اجتماعات اللجنة في بيت الراحل مأمون السيد الذي كان رئيس تحرير جريدة “الفجر” المقدسية أن سألت عزمي:

  • لماذا حضرت مؤتمر غرناطة التطبيعي؟
  • قال: كي اعرف ما يقولون!
  • قلت، وأنت في الكيان ترى وتسمع بيرس (ومش عارف شو بيقول).

من حينها، حلَّت القناعة تجاهه مكان الشك.

_________

“كنعان”  غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.